أهمية السياب في الشعر العربي الحديث

من محاضرات معرض الرياض الدولي للكتاب

بدر شاكر السياب
بدر شاكر السياب
TT

أهمية السياب في الشعر العربي الحديث

بدر شاكر السياب
بدر شاكر السياب

عرف الشعر العربي محاولات عدة لتطوير القصيدة والتغيير في شكلها أو مضمونها، ولا يخفى أن تلك المحاولات قد أحدثت تأثيراً في القصيدة العربية لكن يمكن القول إنه تأثير ظل على الهامش ولم يدخل إلى الجوهر، لا سيما فيما يخص مفهوم «الشعر» نفسه، وبالتالي مفهوم القصيدة وآليات الكتابة. لكن ذلك وعلى امتداد التاريخ الشعري لم يحدث نقلة جوهرية في مفهوم الشعر والقصيدة كما كان مع رواد شعر التفعيلة أو ما عرف بالشعر الحر.
وقد أثير جدال طويل حول ريادة ذلك الشعر وتنازع الريادة فيه شاعران عراقيان: (نازك الملائكة وبدر شاكر السياب)، وبغض النظر عن مفهوم الأولية ومن نشر قبل الآخر فإني أرى أن التغيير كان نتيجة إرهاصات مختلفة سبقت السياب، وأنه كان نتاج توق إلى بناء مختلف للقصيدة، ونظرة أخرى إلى التراث تحاول كسر نظرة التقديس للقصيدة العربية وقوانينها العروضية. هذه النظرة التي تحاول البحث عن حداثة القصيدة وبناء مفهوم جديد للشعر يقوم على التجريب ومحاولة الاكتشاف والتغيير المستمر، فلا شيء ثابت ولا ضرورة لإبقاء القصيدة في إطار النظام العروضي الخليلي الصارم.
هنا يمكن الحديث عن التأثير الأول للسياب على الحركة النقدية باعتباره رائد التفعيلة، فقد شهدت محاولاته ومحاولات الجيل الأول أيضاً حركة نقدية قوية ما بين موقف رافض يرى في هذا الشعر هدماً للغة العربية وللتراث. ويمكن اختصار موقف الرافضين لشعر التفعيلة في المنطق الآيديولوجي الذي رأى في ذلك الشعر تياراً مهدداً للعروبة والتراث العربي واتهم بعض شعرائه بالماركسية أو بالشعوبية. وفي المنطق المتعصب للتراث العربي الذي يقف عند تاريخ القصيدة العربية القديمة ويرفض تجاوزه أو تغييره بأي شكل.
ولن نقف طويلاً عند مظاهر رفض شعر التفعيلة، وما يعنينا منها أن تجربة السياب وزملائه كانت مثار حركة نقدية تعيد طرح مفهوم الشعر وعلاقته بالوزن وطبيعة اللغة الشعرية، وما إلى ذلك من القضايا التي حفلت بها كتب النقد وصفحات المجلات في تلك الفترة.
ويمكن الحديث عن أهمية السياب في الشعر العربي الحديث من خلال جانبين رئيسين هما: الجانب التنظيري على مستوى الحركة النقدية وما كتب عنه من دراسات، والجانب الإبداعي الذي يرتبط بسمات الحداثة في شعره التي كونت جمالية ذلك الشعر ووضعت السياب في ريادة الشعر العربي الحديث في منتصف القرن العشرين وما تلاه. أما المقومات الإبداعية في شعر السياب، فتتوزع بين الإيقاع الشعري. حيث يجسد الإيقاع ملمحاً بارزاً في قصيدة السياب، فنراها غنية بالإيقاع في مختلف أشكاله. وثانياً، أسلوبه التعبيري القائم على بناء القصيدة على الرمز والأسطورة. فهو يتقن بناء الصورة وفق مفاهيم مختلفة لا تعتمد على مجرد التشبيه، فهو يتجاوز ذلك إلى ما يمكن أن يسمى بالصورة اللوحة أو الصورة المشهدية التي تقوم على بناء كلي كما في قصيدته «السوق القديم»:
الليل والسوق القديم خفتت به الأصوات إلا غمغمات العابرين
وخطى الغريب وما تبث الريح من نغم حزين
في ذلك الليل البهيم
الليل والسوق القديم وغمغمات العابرين
والنور تعصره المصابيح الحزانى في شحوب
مثل الضباب على الطريق
من كل حانوت عتيق
بين الوجوه الشاحبات كأنه نغم يذوب
في ذلك السوق القديم
كذلك الرمزية الواضحة في شعره واستثمار الرمز بكل إمكاناته ومصادره (الرمز اللفظي)، فرموزه المستمدة من الطبيعة وقريته: المطر، جيكور، بويب وغيرها) والرمز الديني وتوظيف الشخصيات الدينية التي ارتقى ببعضها إلى مستوى القناع، والرمز التراثي والأدبي والأسطوري. وتنوع هذه المصادر الرمزية يضيف غنى إلى تجربة الشاعر وإن كان يقع أحياناً في حشدها داخل النص دون أن تضيف شيئاً إلى الدلالة كما نجد في قصيدة «المومس العمياء» على سبيل المثال
أحفاد أوديب الضرير ووارثوه المبصرون
جوكست أرملة كأمس، وباب طيبة ما يزال
يلقي أبو الهول الرهيب عليه من رعب ظلال
ويمكن أن نقف هنا عند توظيف السياب للأسطورة على اعتبار أنها أحد أهم ملامح تجربته الشعرية، وأهم ملامح الحداثة في قصيدته. لم يكن السياب أول من وظف الأسطورة، لكنه انتقل بها من مجرد حكي الأسطورة وروايتها إلى توظيفها بشكل فني وبناء القصيدة عليها، ومن ثم الوصول إلى صناعة النماذج الأسطورية وأسطرة بعض الشخصيات والأمكنة كما فعل مع بويب ووفيقة وحفصة وبائع الخرز الملون وغيرهما.

إنعاش الحركة النقدية

لعل السياب أحد أول شعراء التفعيلة الذين أفرد لهم النقاد دراسات مستقلة كما فعل إحسان عباس في كتابه: «بدر شاكر السياب دراسة في حياته وشعره». كما أنه أحد الشعراء الذين أفردت دراسات وبحوث حول قصائده، وفي الوقت نفسه كان أحد الركائز الأساسية في كثير من الدراسات التي اهتمت بالشعر العربي الحديث وما زال شعره مطروحاً للدراسة حتى يومنا هذا.
واختلف النقاد حول شعره، ولعل في ذلك سمة فنية، فهناك من درس لغته ليكشف مظاهر الضعف فيها ليستدل على ضعف شعراء التفعيلة، وهناك من درس اللغة نفسها باحثاً عن سمات التراثي والأصيل فيها. هناك من درسه علامة بارزة على التحديث والريادة واكتمال النموذج الفني، وهناك أيضاً من رأى شعره عبثاً ورأى فيه ركاكة وأخطاء في الوزن وتقليداً للشعر الغربي. نجد أيضاً من بحثوا عن الآلام والمعانة في شعره ومن واءم بين حياته وتقلباته السياسية وبين نضجه الشعري ومراحل كتابة القصيدة عنده.

* مقتطفات من ورقة أعدتها الأكاديمية السعودية ميساء الخواجة في ندوة
(غابات النخيل، جولة في حياة
بدر شاكر السياب وشعره)



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!