حضرت العراق بعروبتها وثقافتها المتنوعة في معرض الرياض الدولي للكتاب في نسخته الحالية، والذي تختم فعالياته غداً (الأحد)، ويعد المعرض الأكبر في المنطقة من حيث عدد زواره وحجم مبيعاته وتنوع برامجه وفعالياته، ووجد شاعر العربية الكبير «أبو الطيب المتنبي» مكاناً له في المعرض، حيث أطلق اسمه على أحد ممرات المعرض، ووقف منتصباً من خلال تمثال للشاعر الكبير، قرب شعراء المعلقات، ومنهم الأعشى الذي تبعد قريته منفوحة عشرين كيلومتراً من المعرض.
«الشرق الأوسط» استنطقت المتنبي وأجرت معه هذا الحوار الافتراضي بعد حضوره إلى الرياض حاضرة نجد التي كان الشاعر الكبير يتوق إلى زيارتها منذ أكثر من 1057 عاماً، وهي أمنية تحققت من خلال المعرض:
نحن أدرى وقد سألنا بنجدٍ
أطويلٌ طَرِيقُنَا أم يطولُ
* أنت شاعر العربية الكبير، مالئ الدنيا وشاغل الناس كيف تصف نفسك؟
- أنا السابق الهادي إلى ما أقوله
إذ القولُ قبل القائلينَ مقولُ
ــــــــ
وما الدهرُ إلا من رواة قصائدي
إذا قلتُ شعراً أصبح الدهرُ منشداً
ــــــــ
أنا تِرْبُ النَدى وربُ القوافي
وسِمامُ العدا وغيظُ الحسودِ
ــــــــ
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسْمَعَتْ كلماتي من به صمم
* أنت في الرياض «حجر اليمامة» حاضرة نجد، وقد نُصب لك تمثال في أحد ممرات معرض الكتاب حمل اسمك، بماذا تعلق؟
- أشكر كل من كان وراء هذا العمل، أقصد معرض الكتاب الذي ذكرته أو سوق الوراقين كم عرفناه في زمننا، نعم منطقة «نجد» كانت حاضرة عندي، وهي رحم لشعراء جاهليين ولاحقين، وأرى في هذا المكان وبالقرب من تمثالي أسماء شعراء من هذه الصحراء أسميتموهم شعراء المعلقات، منهم الأعشى الذي تقع قريته على بعد فراسخ عدة من هذا المكان.
لقد أتحتم لي فرصة لزيارة نجد وكانت أمنية لي، حيث إن كثيراً من مدائحي لم تخل من ذكر نجد ومواضعها وقراها التي لا أدري هل تغيرت أسماؤها اليوم أم احتفظت بأسمائها القديمة، لعل الذاكرة تسعفني بذكر بعضها، منها قصيدة في مدح سيف الدولة بعد أن شكرته على هدية بعثها لي:
نحن أدرى وقد سألنا بنجدٍ
أطويلٌ طَرِيقُنَا أم يطولُ
وكثيرٌ من السؤال اشتياقٌ
وكثيرٌ من رَدّهِ تعليلُ
وأخرى في مدحه أيضاً لما ظفر ببني كلاب:
بنو قتلى بأرض نجدٍ
ومن أبقى وأبقتهُ الحرابُ
عفا عنهم وأعتقهم صغاراً
وفي أعماق أكثرهم سخاب
ومنها:
تركنا من وراء العيس نجداً
ونكبنا السماوة والعراقا
كما أوردت مواضع في نجد، منها قصيدة في مدح سيف الدولة التي منها:
وأن رماح الخط عنه قصيرة
وأن حديد الهند عنه كليلُ
فالخط الذي ذكرته موضع باليمامة تنسب إليه الرماح الخطية.
أما قصيدتي في مدح الحسين بن إسحاق التنوخي، فقد ذكرت فيها «جو»، وهو موضع باليمامة سمعت أنه ما زال يحتفظ باسمه، وكان موطناً لامرأة اشتهرت بقوة البصر واسمها زرقاء اليمامة، وضربت العرب بها المثل في حدة البصر،
وأبصرَ من زرقاءِ «جَوٍّ» لأنّني
متى نَظَرَتْ عَينايَ ساواهما عِلمي
كما ذكرت نجداً في إحدى رحلات الصيد مع أبي شجاع، حيث ذكرت موضعاً هو «سلمى» أحد جبال طي في حائل احتفظ باسمه إلى اليوم متلازماً مع جبل أجا، وموضع آخر وهو القيال جبل في دومة الجندل:
فوحشُ نجد به بلبالِ
يخففنَ في سلمى وقيالِ
* أبا الطيب، أنت اليوم في عاصمة العرب الرياض، هل تحدثنا باختصار عن حسك القومي العروبي العالي وسره؟
- أنا سعيد بعودة بلاد العراق بثقافتها وعروبتها إلى الحضن العربي من بوابة الرياض، لكن ما يؤلمني هو ما آل إليه حال العرب اليوم، لقد عشت جزءاً من هذا الواقع المؤلم، لكنه لم يصل إلى المستوى الذي وصل إليه الحال اليوم، فقد فقدت بعض الدول العربية أمرها وسيادتها وتحكّم بها الأعاجم؛ ولأنني في الرياض الآن بوابة العرب، فأجد من المناسب أن أسقط على واقع العروبة اليوم أبياتًا قلتها في مناسبات كثيرة لعلها تنسحب على واقع اليوم:
فما انفكّ شملُ المجدِ مُلَتئما بكم
فمواطنكم فيها الذرا والكواهلُ
وما زال ممدوداً رواقُ سُعودِكمُ
وظلُ أعاديكمُ مدى الدهرِ سائلُ
وعودة على سؤالك عن حسي القومي العروبي العالي، فأكتفي بالقول: لا غرابة من هذه الصورة الدونية الواردة في شعري عن الأعاجم، لأنني أتبرم من حال المجتمع العربي الخانع الذي جعل من الأعاجم ملوكاً عليه:
وَإِنَّما الناسُ بِالمُلوكِ وَما
تُفلِحُ عُربٌ مُلوكُها عَجَمُ
لا أَدَبٌ عِندَهُم وَلا حَسَبٌ
وَلا عُهودٌ لَهُم وَلا ذِمَمُ!
تَفَرّدَ العُرْبُ في الدّنْيا بمَحْتِدِهِ
وَشارَكَ العُربَ في إِحسانِهِ العَجَمُ
أفعالُ مَنْ تَلِدُ الكرامُ كريمةٌ
و فَعالُ مَن تلِدُ الأعاجمُ أعْجم
وقد ذكرتني بحادثة لي عندما كنت في أرض فارس لمدح عضد الدولة وفي مكان جميل وساحر فحضرت العروبة عندي وقلت:
مَغَاني الشِّعْبِ طِيباً في المَغَاني
بمَنْزِلَة الرّبيعِ منَ الزّمَانِ
وَلَكِنّ الفَتى العَرَبي فِيهَا
غَرِيبُ الوَجْهِ وَاليَدِ وَاللّسَانِ
* هل تتذكر آخر شعر لك؟
- نعم، إنها قصيدة قلتها عام 964م عند وداعي عضد الدولة، وبعدها قتلتُ على يد فاتك الأسدي وجماعة من أبناء عمومته، أحفظ منها:
فِدى لَكَ مَن يُقَصِّرُ عَن مَداكا
فَلا مَلِكٌ إِذَن إِلّا فَداكا
وَمَن يَظَنُّ نَثرَ الحَبِّ جوداً
وَيَنصِبُ تَحتَ ما نَثَرَ الشِباكا
أَروحُ وَقَد خَتَمتَ عَلى فُؤادي
بِحُبِّكَ أَن يَحِلَّ بِهِ سِواكا
قَدِ اِستَشفَيتَ مِن داءٍ بِداءٍ
وَأَقتَلُ ما أَعَلَّكَ ما شَفاكا
أَنا غَيرُ سَهمٍ في هَواءٍ
يَعودُ وَلَم يَجِد فيهِ اِمتِساكا
* هل وصلت إلى مسامعك قصائد الرثاء فيك بعد مقتلك؟
- نعم، قصائد كثيرة ومؤلفات متعددة سمعت عنها، لكن الأبرز عندي قصيدة رثائية بعد مقتلي لأبي القاسم مظفر ابن علي الطبسي منها:
لا رعى الله سِربَ هذا الزمان
إذ دهانا بمثل ذاك اللسان
ما رأى الناسُ ثانيَ المتنبي
أيُّ ثان يُرى لبِكرْ الزمان
كان من نفسه الكبيرةَ في جيــــ
ـــش وفي الكبرياء ذا سلطان
هو في شعره نبي ولكن
ظهرت معجزاتهُ في المعاني
ورثائية أخرى لأبي الفتح عثمان ابن جني بقصيدة طويلة منها:
من للهواجل يحيي ميت أرسمها
بكل جائلة التصدير والحقب
أم من لبيض الظبى يوماً وهن دم
أم من لسمر القنا والزحف واليلب
أم للمحافل إذ تبدو لتعمرها
بالنظم والنثر والأمثال والخطب
أم للمناهل والظلماء عاكفة
مواصل الكرتين الورد والقرب
أم للملوك تحليها وتلبسها
حتى تمايس في أبرادها القشب
باتت وسادي أطراب تؤرقي
لما غدوت لقى في قبضة النوب
عمرت خدن المساعي غير مضطرب
ومت كالنصل لم يندس ولم يعب
فأذهب عليك سلام الله ما قلقت
خوص الركائب بالأكوار والشعب