بين الجزائر وباريس تصفية حساب عمره 3 قرون

«المستعمرة القديمة» حاضرة دائماً في الأجندة السياسية الفرنسية

بين الجزائر وباريس تصفية حساب عمره 3 قرون
TT

بين الجزائر وباريس تصفية حساب عمره 3 قرون

بين الجزائر وباريس تصفية حساب عمره 3 قرون

الرئاسة والجيش في الجزائر في قمة الغضب... بعدما وجّه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ما اعتُبر كلاماً موجعاً للغاية للمؤسستين وللبلاد عامة. الألفاظ كانت عاكسة لشعور من جانب فرنسا بأن صبرها نفد وهي تبذل جهداً لإقناع الجزائريين، منذ فترة حكم الرئيس جاك شيراك، من دون جدوى، بطيّ صفحة الماضي المرتبط بالغزو الفرنسي في القرن الـ19، ونسيان «آلام الذاكرة». أما الجزائريون، من جهتهم، فيرفضون بحدّة الانخراط في هذا الطرح، قبل أن تعلن فرنسا «توبتها»، وأن يصرح قادتها أنها ارتكبت ذنباً شنيعاً خلال الاحتلال.
وفي 30 من الشهر المنقضي، جمع ماكرون 18 شاباً من أحفاد الذين عاشوا الحرب في الجزائر، في إطار مسعى يقوم به منذ وصوله إلى الحكم، سماه «لملمة جراح الذاكرة». وخلال أخذ وردٍّ معهم، تساءل: «ما إذا كانت هناك أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي». وأشار ماكرون إلى أن «الأتراك تمكّنوا من جعل الجزائريين ينسون أنهم (أي الأتراك) استعمروا بلادهم»، داعياً من ثم «لإعادة كتابة التاريخ الجزائري باللغة الجزائرية لمحو تزييف الحقائق التي قام بها الأتراك».

تلقت الجزائر بحساسية بالغة كلام إيمانويل ماكرون، الذي ينطوي على معنى في غاية الإهانة للبلاد وشعبها، مفاده أن للاستعمار الفرنسي «أفضالاً حضارية على الجزائريين، الذين كانوا يسكنون الخيمة ويرعون الغنم قبل أن تأتي إليهم فرنسا لتدخلهم المدنية».
والواقع أن ماكرون لم يتوقّف عند هذا الحد... إذ ذكر بأن الجزائر أنشأت بعد استقلالها عام 1962 «ريعاً للذاكرة كرّسه النظام السياسي - العسكري». وتحدث عن «تاريخ رسمي للجزائر أُعيدت كتابته بالكامل وهو لا يستند إلى حقائق، إنما على خطاب يرتكز على كراهية فرنسا». ثم ذكر أن «حواراً جيداً يجمعني بالرئيس (الجزائري عبد المجيد) تبون، لكني أرى أنه محتجز لدى نظام متحجّر جداً». ما يعني، حسب مراقبين، أن الرئيس الجزائري «رهينة للعسكر» وأنه لا يحكم فعلياً.
من جانب ثانٍ، استهدف الرئيس الفرنسي «المجتمع الحاكم» - كما سماه - بقرار اتخذ منذ أيام بتقليص منح التأشيرات إلى النصف. وأبرز ذلك على أنه عقاب للمسؤولين الذين يحصلون على التأشيرة بسهولة، بعدما رفضوا طلب فرنسا تسليمهم مهاجرين جزائريين غير نظاميين وأشخاص محل شبهة إرهاب. وهدّدهم بأن فرنسا «لن تجعل حياتهم سهلة» عندما تمنع عنهم «الفيزا».
وسريعاً جاء رد الجزائر باتخاذ سلسلة من الإجراءات الرسمية ضد فرنسا، كان أولها سحب السفير الجزائري من باريس، وإغلاق أجواء الجزائر في وجه الطيران الحربي الفرنسي الذي يقوم بمهام بشمال مالي؛ حيث يلاحق الجماعات المتطرفة منذ 2013.

- الموسم الانتخابي الفرنسي
وما يلفت الانتباه في هذا الفصل الجديد من التشنج، أنه كلما اقترب موعد انتخابي في فرنسا، يقفز التوتر بين الجانبين الفرنسي والجزائري إلى الواجهة... كأنما لا يمكن أن تجري الانتخابات، من دون أن يدعى إلى حضورها «الضيف الجزائر». ويكون ذلك في الغالب بإثارة ملفات تاريخية كـ«الحَركي» (الجزائريين الذين تعاونوا مع الاستعمار وعاش قطاع منهم في فرنسا بعد الاستقلال)، و«الأقدام السوداء» (الأوروبيين الذين ولدوا في الجزائر وغادروها في أيام الاستقلال). ولهذا السبب يربط جلّ المراقبين تصريحات ماكرون بأجندة «الرئاسية» الفرنسية المقرّرة في أبريل (نيسان) المقبل.

- «منطق ميكيافيلي»
الكاتب الصحافي الجزائري عبد العالي زواغي قال لـ«الشرق الأوسط» معلقاً بهذا الخصوص: «في الظاهر، تبدو التصريحات المشينة للرئيس الفرنسي كأنها رقصة الديك المذبوح، فالرجل على أعتاب رئاسيات جديدة يطمح للفوز من خلالها بولاية ثانية. وهذه الغاية بـ(المنطق الميكيافيلي) جعلته يتحرّر من اللباقة والأعراف الدبلوماسية، ويستدعي التاريخ بكل تلك الحساسية المفرطة التي تميز العلاقات مع الجزائر. وهكذا راح يرمي الكلام على عواهنه، ويخوض في تاريخ الأمة الجزائرية بشكل فضح جهله ونقص إلمامه بالتاريخ، علّه يستجلب إليه تعاطف أصوات انتخابية تستهويها الأسطوانة التي رددها، ونقصد طبعاً الخزان اليميني الذي يعادي المهاجرين ويحنّ للماضي الاستعماري مدفوعاً بوهم التفوّق الأبيض ومعاداة الإسلام. وهذا تيار انتعش خلال السنوات الأخيرة في جميع دول أوروبا... وهذه الخطوة تبدو مدروسة، فقد اتبع ماكرون لتنفيذها سياسة التدرج، واستبقها بالاعتذار الرسمي لـ(الحركي) الذين خانوا وطنهم وأبناء شعبهم وحاربوا إلى جانب فرنسا ضدهم».
وبحسب الكاتب زواغي: «درج الرؤساء الفرنسيون على استحضار الملفات الشائكة للعلاقات الفرنسية الجزائرية عند كل موعد انتخابي، وبدرجات متفاوتة من حيث الحدة في طرح بعض التفاصيل، لكن الرئيس الحالي تجاوز كل الحدود المسموحة. ويبدو أنه أفرغ ما بجعبته من عقيدة كولونيالية ما زالت تنظر إلى الجزائر بنظرة استعلائية أبوية كأنها لا تزال مستعمرتها التي كانت قبل 1962». وأردف: «في الحقيقة، ماكرون عبّر بصوت مرتفع عمّا تؤمن به النخبة السياسية الفرنسية في السر، فهو كشف لنا جميعاً العلة الحقيقية في العلاقات بين البلدين، وأبان عن المحرّك الرئيس في بناء المواقف وردود الفعل لدى النخبة الفرنسية، وهي الفكرة الكولونيالية المتجذّرة في السمت التكويني للشخصية الفرنسية بحد ذاتها، والتي تعتبر الجزائر حديقة خلفية لها وخزاناً كبيراً يدفق الحياة في شرايين اقتصادها... وهي علة مزمنة يبدو أن الفرنسيين لا يستطيعون الشفاء منها».

- «منطقة فراغ حضاري»
كذلك قال زواغي: «كانت فرنسا، وما زالت، تستند إلى فريّة كبيرة رافقت احتلالها للجزائر... ويبدو أن الرئيس ماكرون متمسك ومؤمن بها، مؤداها أن الجزائر كانت قبل الغزو البربري المتوحش، منطقة فراغ حضاري يجب ملؤه وتمدينه، لكن بقطع الرؤوس وبقر البطون وتهجير الجزائريين وارتكاب مجازر وحشية بحقهم، لم يسبق لأي قوة استعمارية أن اقترفت مثيلاً لها».
وتابع: «يبدو جلياً أن تطرق ماكرون للنظام الجزائري، ومهاجمته للعسكر، واتهام النظام المتصلب باحتجاز الرئيس تبون، تصريحات استهلاكية وطلقات عشوائية أو رسائل موجهة لطرف ما، تعبر عن تغيير داخلي يجري لغير صالح الطرف الفرنسي. وتبقى تصريحاته هذه قطب الرحى في تحديد معالم المستقبل في العلاقات الثنائية، لأنها استهدفت كيان الأمة الجزائرية وروحها، وهو ما لا يمكن للجزائريين تفويته. ولقد ظهر ذلك من خلال تصريحات الرسميين الجزائريين وموقف الدولة، ومن خلال ردود فعل مستخدمي (فيسبوك) الذين انبروا لإدانة ما صرح به الرئيس الفرنسي، ونشر الحقائق التاريخية والمطالبة بقطع العلاقات مع فرنسا وتحجيم مصالحها الاقتصادية والثقافية في البلد، واعتبار ذلك بمثابة الترياق الشافي الذي بفضله تتخلص الجزائر من تخلفها وترنحها الاقتصادي والاجتماعي».

- ثمة جزائريون يحبون فرنسا
من جهة أخرى، كتب المحلل السياسي عبد الوهاب لكوارع، في حسابه على «فيسبوك»، عن تصريحات ماكرون والسخط الذي خلّفته، فقال: «لقد تحدّث عن نظام بوليتيكو - عسكري يعتاش من ريع الذاكرة، وهو وصف دقيق جداً للنظام الحاكم عندنا. قال إن الشعب الجزائري لا يكره فرنسا، وهو أمر غير دقيق، فهناك من الشعب الجزائري مَن يكره فرنسا حقاً ولكن هناك أيضاً نسبة مُعتبَرة منه يحبون فرنسا، ولا أدلّ على ذلك من قوافل الحراقة (المهاجرين غير النظاميين) التي تحطّ رحالها كل يوم هناك. كذلك لا ننسى، مثلاً، كيف استقبل آلاف الجزائريين جاك شيراك (الزيارة جرت عام 2003) بعد فيضانات باب الواد (حي شعبي بالعاصمة) هاتفين باسمه ومطالبين بالفيزا».
وقال لكوارع أيضاً: «قال (ماكرون) إن السؤال يبقى مطروحاً بشأن وجود أمة جزائرية قبل الاحتلال الفرنسي، وقد ذهب فرحات عباس، أيقونة الحركة الوطنية الجزائرية، وأول رئيس للحكومة المؤقتة، وأول رئيس للمجلس التأسيسي للدولة الجزائرية، أبعد من ذلك حين قال إبان سنوات تيهه السياسي، إنه بحث عن الأمة الجزائرية في المقابر ولم يجدها».
لكوارع يعد ماكرون «رجلاً سياسياً ذكياً وطموحاً، وهو يلعب كلّ أوراقه للفوز بولاية ثانية، بما فيها استغلال ورقة التاريخ»، مضيفاً: «في المحصَلة، ما زال الجزائريون المساكين غارقين في البحث عن هويّتهم وتاريخهم... وكان يكفيهم تبنّي 5 يوليو (تموز) 1962 تاريخ معجزة الاستقلال عن فرنسا كبداية مظفرّة للأمّة الجزائرية الحديثة، عوضاً عن المعارك السخيفة مع التاريخ لاستنطاقه عن البداية الحقيقية لهذه الأمّة».
واستشهد لكوارع، برواية «موسم الهجرة إلى الشمال» الشهيرة، التي كتبها الأديب السوداني الطيب صالح في أواسط ستينات القرن الماضي، وخاض فيها بشأن الهوية. إذ يقول عن المستعمرين: «لم يكن مجيئهم مأساة كما نصوّر نحن، ولا نعمة كما يصوّرون هم، كان عملاً ميلودرامياً سيتحوّل مع مرور الزمن إلى خرافة... كونهم جاءوا إلى ديارنا، لا أدري لماذا. هل معنى ذلك أننا نسمم حاضرنا ومستقبلنا، إنهم سيخرجون من ديارنا إن عاجلاً أم أجلاً... سكك الحديد والبواخر والمصانع والمستشفيات والمدارس ستكون لنا، وسنتحدث لغتهم، دون إحساس بالذنب ولا إحساس بالجميل... سنكون كما نحن قوماً عاديين، وإذا كنا أكاذيب فنحن أكاذيب من صنع أنفسنا».

- الجزائر تضيع من يد فرنسا
أما الكاتب عبد الجبار باطَة فقال لـ«الشرق الأوسط»: «عندما حلّ ماكرون بالجزائر أثناء حملته الانتخابية قبل 4 سنوات، قال بالحرف الواحد؛ من البديهي أن أقوم بهذه الزيارة بالنظر إلى دور الجزائر في تاريخنا وفي بلادنا وفي مستقبلنا... ليضيف في خطابات أخرى؛ أن استعمار الجزائر كان جريمة ضد الإنسانية... لا يعقل أبداً أن يكون صاحب الخطاب الهجومي هو نفسه مَن يشكك في وجود أمة جزائرية كانت موجودة قبل الاحتلال الفرنسي. ومن البديهي كذلك أن الأمة التي تصنعها بنفسك لا يمكن لها أبداً أن تتجاوزك ليصبح لها دور في وجودك وفي مستقبلك. إن التناقض الصارخ فيما يصرّح به ماكرون حسب مزاجه وعقليته المتقلبة، يدفعنا إلى قراءة معمّقة للواقع، بعيدة كل البعد عن أن ماكرون قد يكون فعلاً بحاجة إلى فحص صحته العقلية - كما يقول الرئيس التركي رجب طيب إردوغان - بل إلى قراءة كل الجوانب المحيطة به داخلياً وخارجياً، وما يدفعه لأن يكون شاذاً هذه المرة في خرجاته وتصريحاته الأخيرة، عكس كل رؤساء فرنسا السابقين».
وفي نظر باطة: «تشعر فرنسا فعلاً أن الجزائر تضيع من يدها؛ خصوصاً بعد النزيف الهائل والمتواصل للشركات الفرنسية التي تغادر البلاد دون رجعة، بعدما رفض النظام الجزائري الجديد تجديد عقودها، وكذلك بعد الزجّ بالسياسيين ورجال الأعمال المحسوبين عليها في السجون الجزائرية والباقي فرّ خارج البلاد».

- هناد: ماكرون محقّ
في المقابل، يدعم محمد هناد، أستاذ العلوم السياسية، بشكل قوي موقف ماكرون من نظام الجزائر. إذ كتب: «لقد فوّتت السلطات الجزائرية، كعادتها، على نفسها الفرصة للظهور بمظهر المسؤول الواثق من نفسه بعد تصريحات ماكرون. وقد جاراها في ذلك كثير من إعلاميّينا ومثقفينا، للأسف. لنبحث، بهدوء، فيما قاله الرئيس ماكرون؛ أولاً، أظن أنه ينبغي أن نشيد بالرئيس الفرنسي لأنه أجهر بما يضمره الساسة في فرنسا، فيما يخص التقدير التي يحظى به بعض من حكامنا هناك بسبب فسادهم واتخاذهم من فرنسا ملاذاً لأموالهم وترفهم. لذلك من المتوقع أن يُقدِم هؤلاء على تحويل ممتلكاتهم خارج فرنسا... ويقول الرئيس الفرنسي إن الجزائر بُنيت، بعد الاستقلال على ريع ذاكرة برعاية نظام سياسي عسكري! أليس ذلك عين الصواب؟». ويستند ريع الذاكرة، حسب هناد، إلى «ريع آخر هو ريع المحروقات، كما يستند على قمع المعارضة أياً كانت. أضف إلى ذلك أن الدولة الجزائرية نفسها قامت على انقلاب عسكري ضد الحكومة المؤقتة، مباشرة بعد إعلان توقيف الحرب. ولترسيخ حكمهم، اعتمد الانقلابيون على تاريخ رسمي هو أشبه ما يكون بسير القدسيين (hagiographie)، تاريخ قائم - كما يقول ماكرون - على كره فرنسا. لكن اليوم نعلم أن هذا الكره كان مجرّد دعاية عقيمة، وكأن الكره كان قادراً على إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء! لذلك، فمن حق الرئيس الفرنسي أن يَعِد بكتابة تاريخ حرب الجزائر، بالعربية والأمازيغية، بهدف مواجهة التضليل والدعاية».
وتابع هناد: «لكن هناك كلاماً قاله إيمانويل ماكرون في غاية الأهمية، يدحض فيه تلك الفكرة الشائعة التي تفيد بأن فرنسا تساند منظومة الحكم في الجزائر - هذا إن لم تكن هذه الأخيرة تأتمر بأوامرها - حيث صرح أن نظام الحكم في الجزائر أصابه العياء، وأضحى هشاً بسبب الحراك، مؤكداً طابعه العسكري، ومنوّهاً بالعلاقة التي تجمعه بالرئيس عبد المجيد تبون، لكن الرئيس الجزائري يبقى، حسبه، أسير نظام قاسٍ جداً».
وبخصوص تهديد ماكرون «الطبقة الحاكمة» بحرمانها من التأشيرة، وبأنه «لن يجعل حياتهم سهلة»، يتساءل هناد: «ألا يدل ذلك على قلة الاحترام الذي يحظى به المعنيون لدى السلطات الفرنسية، التي يبدو أنها لم تعد تهابهم؟... تُرى ما هي العبرة التي يجب أن نستخلصها من تصريحات الرئيس الفرنسي ماكرون الأخيرة، بخصوص منظومة الحكم في الجزائر؟ إذا لم يحترمك غيرك، انظر في نفسك، فلعلك أنت السبب!».



كيف يتعامل اليمين الإسرائيلي مع جيشه؟

الدمار في غزة (أ ب)
الدمار في غزة (أ ب)
TT

كيف يتعامل اليمين الإسرائيلي مع جيشه؟

الدمار في غزة (أ ب)
الدمار في غزة (أ ب)

استقبل الجيش الإسرائيلي أخيراً وفداً من قادة جيوش دول عدة، «لكي يدرسوا تجربة الحرب الأخيرة، في سبع جبهات (غزة والضفة الغربية ولبنان وسوريا والعراق وإيران واليمن)»، كما قال الناطق بلسان الجيش. وخلال الشرح المتحمس عن هذه الزيارة، سمح الناطق لنفسه بأن يقول إنهم جاؤوا لكي يتعلموا منه العديد من العمليات الحربية. وقال إن بين هذه الجيوش حضر مندوبون من كل من الجيوش؛ الأميركي والألماني والهندي والكندي والتشيكي والبولندي، وغيرها. وعرض عدة مجالات، قال إن جيشه أبدع فيها واستحدث طرقاً حربية سيصار إلى تدريسها في الكليات الحربية في العالم، خصوصاً المعركة ضد الأنفاق والتدمير ومسح الأبنية في قطاع غزة وتخريب الحقول الزراعية والسيطرة التامة على سماء إيران والاغتيال الجماعي لقادة «حماس» و«حزب الله» وقيادة سلاح الجو الإيرانية وعملية تفجير أجهزة النداء واللاسلكي في لبنان لقادة «حزب الله» (البيجر والوكي توكي) وغيرها.

لأول وهلة، يُحسب أن الرسالة - أعلاه - موجهة إلى العالم، لكن من يتابع الأوضاع في إسرائيل خلال العقدين الأخيرين، يدرك أن هذا النشر هو جزء من الحرب التي يخوضها الجيش الإسرائيلي على «الجبهة الثامنة».

إنها الحرب التي تعدّ الأكثر إيلاماً للجيش، لأن «العدو» فيها للجيش الإسرائيلي هو الحكومة واليمين العقائدي الذي يقودها.

يخوض اليمين هذه الحرب منذ عودة بنيامين نتنياهو إلى الحكم عام 2009، وفي حينه حاول فرض حرب على إيران، لكن قادة الجيش وسائر الأجهزة الأمنية اعترضوا. فغضب، وراح يحاربهم، في البداية بهدوء وسريّة، لكن الحرب غدت علنية شيئاً فشيئاً. وكان فيها مسؤولون في الحكومة وباحثون وخبراء يهاجمون الجيش ويتهمونه بالتبذير، والجنرالات ينشرون المقالات التي تظهر الحكومة فاشلة وفاسدة.

أيضاً لعبت الشرطة والنيابة والمحكمة دوراً نشيطاً في كشف تورّط نتنياهو في قضايا فساد... وقدمته إلى المحاكمة. فاستعرت المعركة لتتحوّل إلى «حرب شاملة» بين الطرفين، ما جعل اللواء المتقاعد إسحاق بريك، عضو رئاسة أركان الجيش الإسرائيلي الأسبق، يقول، في مقال نشرته صحيفة «معاريف» يوم 8 يونيو (حزيران) 2025: «لدينا قيادة فقدت البوصلة، في الحكومة وفي الجيش». ويضيف: «السياسة الحمقاء المتغطرسة التي يتبعانها، ستشجع أعداءنا على الاستعداد لحرب أخرى ضدنا، وكل هذا بسبب جماعة فقدت طريقها وعقلنتها وحكمتها».

نتنياهو وسموترتش (رويترز)

سموتريتش... والميزانية

أحد أبرز السياسيين في هذه الحرب هو بتسلئيل سموتريتش، الذي مع تشكيل الحكومة أصر على تولي حقيبة وزارة المالية وحقيبة أخرى هي وزير ثانٍ في وزارة الدفاع. وسموتريتش هو الممثل المباشر لليمين العقائدي. لديه أجندة واضحة لمنع قيام دولة فلسطينية وتهجير الفلسطينيين. ومنذ تسلمه مهامه، يخوض حرباً علنية على الجيش بلغت حد رفض العديد من طلبات زيادة الميزانية العسكرية. ثم إنه يتهم قادة الجيش بالتبذير وصرف رواتب عالية، وقام بنشر قائمة الرواتب لنحو 50 قائداً أساسياً، فاتضح أنهم يقبضون رواتب أعلى من رئيس الحكومة ورئيس الدولة.

وفي الأسابيع الأخيرة، عندما قرر الجيش رفع عدد جنود الاحتياط الدائم من 6 إلى 60 ألف جندي، سنة 2026، وطلب تمويلاً من المالية (كل جندي يكلف الجيش 300 دولار في اليوم ومعدل الخدمة لكل جندي يصل إلى شهرين في السنة المقبلة، وهذا البند وحده يكلف مليار دولار)، رفض سموتريتش، قائلاً إن على الجيش إيجاد التمويل من تقليص مصاريفه الأخرى. ووفق صحيفة «يديعوت أحرونوت»، فإن قادة الجيش «يشعرون بالمهانة وهم يستجدون وزير المالية»، علماً بأنه على صعيد شخصي يبدو صبيانياً، ومن الناحية الجماهيرية يفقد الجمهور الذي انتخبه، إذ تشير الاستطلاعات إلى أنه سيسقط إذا أجريت الانتخابات اليوم.

للعلم، سموتريتش هذا حاقد على الجيش. فعام 2005، عندما كان في الخامسة والعشرين من العمر، بينما عمل الجيش على إخلاء مستوطنات قطاع غزة، جاء سموتريتش مع ألوف المستوطنين لمحاربة الإخلاء. ويومذاك، بطش به الجنود وجرّوه على الأرض عندما اعتقلوه. وهو جزء من الحركة التي قامت في حينه لمنع تشكيل حكومة في إسرائيل تقرّر إخلاء مستوطنات في الضفة الغربية مثلما حصل في غزة. وهو يستذكر هذه الحادثة تقريباً في كل خطاب سياسي له، منذ ذلك الحين. ويعدّ رأس حربة في معركة اليمين لتحجيم مكانة الجيش ونفوذه في البلاد.

انتقاد المهنية العسكرية

في إطار هذه المعركة، تشهد وسائل الإعلام الإسرائيلية موجة نشر ضخمة تنتقد الجيش وتظهره فاشلاً مهنياً. ويجنّد اليمين لهذا الغرض مجموعة كبيرة من الجنرالات السابقين، قسم منهم يكتب في معاهد الأبحاث التابعة لليمين، وقسم آخر ينشر مقالاته في وسائل الإعلام المستقلة، فضلاً عن الإذاعة والتلفزيون والشبكات الاجتماعية.

وأدناه نماذج من هذه المعركة:

العميد أورن سولومون، الذي عيّن رئيساً للجان التحقيق الداخلي في الجيش حول إخفاقات 7 أكتوبر (تشرين الأول) كشف في تقرير للقناة «14» عن أن قيادة الجيش «تتستر على الحقائق وليس صحيحاً الانطباع بأنها أول من تحمل المسؤولية». بل «أخفت الفشل الحقيقي لكونها اتبعت تكتيكاً حربياً خاطئاً منذ البداية... وبدلاً من أن تأمر سلاح الجو بقصف عناصر حماس في أثناء مهاجمتهم البلدات الإسرائيلية يوم 7 أكتوبر 2023، فتشلّ حركتهم وتوقف تقدّمهم، قرّرت شنّ عملية انتقامية لاغتيال قادتها وتدمير مقراتها في شتى أنحاء غزة. وبذا فشلت في حماية مئات من الإسرائيليين الذين قتلتهم حماس ومئات المخطوفين».

وذكر سولومون أيضاً في التقرير، أنه طلب لقاء رئيس الأركان السابق هرتسي هاليفي والحالي إيال زامير لعرض استنتاجاته، لكنهما تهرّبا من لقائه. ومن ثم راحا يحرّضان عليه، لدرجة أنه قرّر إخفاء تقاريره والوثائق التي اعتمدها بهدف الحفاظ عليها في حال جرى له أي سوء. ورداً على سؤال طرحه عليه صحافي معروف بقربه من نتنياهو: «هل تخشى على حياتك؟ هل تعتقد أن هناك مَن قد يقتلك بسبب هذا التحقيق؟». فأجاب «نعم».

من جهة ثانية، تطرّ ق الصحافي والمؤرخ اليميني عكيفا بيغمان، صاحب كتاب «كيف حوّل نتنياهو إسرائيل إلى إمبراطورية»، كشف في موقع «ميدا» (9 نوفمبر/ تشرين الثاني 2025)، عن نتائج تحقيق أجري في لجنة فرعية سريّة للجنة الخارجية البرلمانية، خلال الشهرين الماضيين، تفيد بأن هناك «خللاً بنيوياً» في عملية تأهيل الضباط في الجيش الإسرائيلي. وممّا جاء في تقريره أن الضباط لا يتلقّون تدريبات عسكرية لأكثر من يومين في الأسبوع، بينما يتمتعون بـ«امتيازات دلال لا تلائم جيشاً مقاتلاً»، وأنه في كثير من دورات التعليم التي يمرّون بها ثمة ازدواجية وتناقضات لأن هذه الدورات لا تدار بشكل مهني.

زامير (الجيش الإسرائيلي)

مرحلة بنيامين نتنياهو...استخفاف بالجنرالات وطعن بهم علناً وفي الخفاء

عدوانية متزايدة في عدة اتجاهات

الصحافة الإسرائيلية، أيضاً، تنشر باستمرار تصريحات لوزراء يهاجمون بها قادة الجيش ويهينونهم في جلسات «الكابنيت» (مجلس الوزراء المصغّر)، الذي يقود الحرب، بينما كان نتنياهو صامتاً. ولكن، في يناير (كانون الثاني) 2025 تجرأ وأوقف الجلسة التي هاجم فيها الوزيران إيتمار بن غفير وميري ريجف رئيس الأركان هاليفي، على قراره تشكيل لجان تحقيق داخلية حول أداء الجيش.

وفي شهر مايو (أيار) تعرّض زامير لـ«بهدلة» مماثلة، لكنه ردّ على الهجوم بكلمات قاسية ونابية، ما جعل نتنياهو يلفت نظره ويوقفه عن الكلام في جلسة الحكومة. وحقاً، زامير نفسه لم يسلم من الانتقادات. وعندما اقترح صرف النظر عن إعادة احتلال غزة في نهاية الصيف، اتهمه غلاة اليمين بالتراجع عن وعوده في «تغيير نهج الجيش القتالي وجعله جيشاً هجومياً أكثر». وقالوا إن «الدولة العميقة الليبرالية تمكنت من السيطرة عليه وتدجينه».

في هذه الأثناء، هناك ما تشهده الضفة الغربية من اعتداءات. وهنا لا نقصد الاعتداءات الإرهابية على الفلسطينيين، بل الاعتداءات اليهودية على اليهود، التي تتصاعد باستمرار وفيها يهتف «شبيبة التلال» الاستيطانية لجنود وضباط الجيش الإسرائيلي «يهود نازيون».

أيضاً، أحد كبار الجنرالات، وكان مسؤولاً عسكرياً يعمل في وظيفة رفيعة في الضفة الغربية، بحسب صحيفة «يديعوت أحرونوت» (7 نوفمبر 2025)، يقول: «يبدو لي الوصف (فتيان التلال) أو (شبيبة التلال)، رومانسياً بعض الشيء، كما لو كانوا رعاة غنم يعملون في الزراعة، لكن هذا ليس ما نتكلّم عنه هنا. هؤلاء فتيان يحتاجون إلى رعاية مؤسّسات الرعاية الاجتماعية وسلطة الوالدين والتعليم. إنهم يتصرّفون كما لو كانوا في الغرب (الأميركي) المتوحش. ليس لديهم قانون ولا قاضٍ. يتجوّلون بقمصان كُتب عليها (شعب إسرائيل نعم ودولة إسرائيل لا)».

وتابع الجنرال: «إنهم لا يعترفون بالمؤسسات، وهم معادون تماماً للصهيونية، ويرسمون شعارات صهيونازية على الجدران، ويتلقون دعماً من بعض وسائل الإعلام القطاعية. لقد بنوا ماكينة عمل محكمة وحقيقية. يمكنك أن ترى فتىً في الثالثة عشرة من عمره يقود سيارة مشطوبة، وهو لا يملك حتى رخصة قيادة؛ بينما يُشعل فتيان آخرون النار في المركبات. ما عاد هؤلاء يكتفون بالاعتداءات على الفلسطينيين، بل أضحوا يعتدون بعنف وكراهية حاقدة على جنودنا وضباطنا، حتى ونحن نحميهم. وكذلك يعتدون على المواطنين اليهود، وليس فقط اليساريين منهم الذين يأتون إلى هنا للتضامن مع الفلسطينيين، بل يعتدون على مستوطنين ممّن كانوا ذات يوم شبيبة تلال لأنهم لا يوافقون اليوم على أساليبهم. وأنا لا أتكلم عن اعتداء واحد أو اثنين. لقد شكا عشرات المستوطنين الذين يتعرضون للاعتداءات منهم. ومن ثمّ، شعوري أن عدوهم الأول هو الجيش».

الرد لا يقل حدة

في المقابل، نجد أن الجيش أيضاً يملك جهاز دعاية يهاجم الحكومة بقوة شديدة ولديه مجموعة كبيرة من الكتّاب والناطقين باسمه، الذين يحذّرون من تبعات سياسة الحكومة وممارساتها، ويرون أنها «تُضعِف الجيش وتشجع العدو على تكرار الهجمات الشبيهة بهجمة حماس في 7 أكتوبر». كذلك ينتقد هؤلاء الحكومة بشكل لاذع على «فشلها المهني»، ويحمّلونها، رئيساً ووزراء، مسؤولية أساسية عن إخفاقات 7 أكتوبر، ويقولون إنها أدارت الحرب بشكل سيئ وفرضت على الجيش «إطالة الحرب لأغراض بعيدة عن الحسابات الأمنية والاستراتيجية، هدفها سياسي وحزبي للبقاء في الحكم». «وحقاً، الأمر الجوهري الذي يهاجمونها عليه هو: أنها لم تعرف كيف تستثمر المكاسب العسكرية التي وفّرها لها الجيش في مكاسب سياسية».

وهكذا يكتب الجنرال عاموس جلعاد، رئيس معهد السياسة والاستراتيجية في تل أبيب، يوم 17 نوفمبر 2025: «لقد نجح الجيش الإسرائيلي وقوات الأمن في توجيه ضربة قاصمة لتحالف الشر في جميع جبهات القتال السبع. في الوقت نفسه، ثمة حاجة إلى استراتيجية لإرساء أمن طويل الأمد. حتى الآن، فشلت الحكومة الإسرائيلية في صياغة سياسة لما بعد (اليوم التالي)، ما أدى إلى خلق فراغ، ملأته الإدارة الأميركية بكل قوتها».

وأردف جلعاد: «من جهة، لهذا الأمر نتائج إيجابية تتمثل في إطلاق سراح جميع الرهائن الأحياء وعملية إعادة الرهائن القتلى، ووقف الحرب في غزة، وتوطيد العلاقات المميزة مع الولايات المتحدة، واحتمال تحقيق انفراج دبلوماسي مع الدول العربية. ولكن من جهة أخرى، قد يؤدي هذا التطور إلى أضرار جسيمة، مثل نشر قوة متعددة الجنسيات في غزة بمشاركة دول معادية بقيادة محور تركي - قطري داعم لجماعة الإخوان المسلمين، واستمرار وجود حماس بصيغة جديدة في غزة. بالإضافة إلى ذلك، هناك احتمال الإضرار بالتفوق النوعي للجيش الإسرائيلي، من خلال نقل قدرات عسكرية غير مسبوقة إلى الدول العربية. في الخلفية، تُبذل جهودٌ من إيران وحزب الله لاستعادة القدرات العسكرية المتضررة خلال الحرب. ولكن الأنكى هو أنه على الصعيد الداخلي، تشهد إسرائيل بقيادة الحكومة سلسلةً من العمليات الهدامة التي تُلحق الضرر بالمناعة الوطنية والاجتماعية، التي تشكل ركيزةً أساسيةً من ركائز الأمن القومي الإسرائيلي. ويشمل ذلك استمرار الانقلاب القضائي وإلحاق الضرر بالمؤسسات القضائية، والحرب على وسائل الإعلام في البلاد، والتدخل في أنشطة أجهزة الأمن وإنفاذ القانون، وغيرها».


إميل مايكل: من جذور مصرية يشارك في قيادة سباق الابتكار العسكري الأميركي

في ظل حاجة واشنطن إلى سرعة التنفيذ، يعاب على «البنتاغون» العمل ببطء بيروقراطي قاتل، بينما يأتي مايكل من ثقافة «التحرك بسرعة وكسر الأشياء»
في ظل حاجة واشنطن إلى سرعة التنفيذ، يعاب على «البنتاغون» العمل ببطء بيروقراطي قاتل، بينما يأتي مايكل من ثقافة «التحرك بسرعة وكسر الأشياء»
TT

إميل مايكل: من جذور مصرية يشارك في قيادة سباق الابتكار العسكري الأميركي

في ظل حاجة واشنطن إلى سرعة التنفيذ، يعاب على «البنتاغون» العمل ببطء بيروقراطي قاتل، بينما يأتي مايكل من ثقافة «التحرك بسرعة وكسر الأشياء»
في ظل حاجة واشنطن إلى سرعة التنفيذ، يعاب على «البنتاغون» العمل ببطء بيروقراطي قاتل، بينما يأتي مايكل من ثقافة «التحرك بسرعة وكسر الأشياء»

شكّل قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب بتعيين إميل جرجس مايكل في منصب وكيل وزارة الدفاع للبحث والهندسة، ثم تكليفه لاحقاً بإدارة «وحدة الابتكار الدفاعي»، في أحد أبرز القرارات المفصلية ضمن إطار سياسة الابتكار العسكري للولايات المتحدة منذ إعادة هيكلة «البنتاغون» (وزارة الحرب الأميركية) عام في 2017. وذلك ليس فقط لأن المنصب يُعدّ رأس الهرم في الهندسة العسكرية والتطوير التكنولوجي، بل لأن مايكل يمثّل نموذجاً جديداً تماماً عن ذلك الذي اعتادت المؤسسة الدفاعية الأميركية تعيينه في هذا الموقع. إذ إن المسؤول الذي يُمسك عملياً بمفاتيح التفوق التكنولوجي الأميركي، من الذكاء الاصطناعي إلى الأنظمة غير المأهولة، ومن الحرب السيبرانية إلى الجيل الثاني من الدفاع الصاروخي، رجل أعمال مهاجر من جذور مصرية قبطية، بنى مسيرته في شركات التكنولوجيا الفائقة النمو، بدءاً من شركة «تيل مي نيتوورك»، مروراً بـ«كلاوت»، ووصولاً إلى «أوبر»، إحدى أكثر شركات العقد الماضي إثارة للجدل والتأثير في آن واحد.

تعيين إميل مايكل وكيلاً لـ«البنتاغون» للبحث والهندسة لم يكن مجرد مفاجأة، بل كسرٌ لخطٍ طويل من الشخصيات المنتمية تقليدياً إلى عالم الصناعات الدفاعية أو البحث العلمي الأكاديمي. وفي حين يرى البعض أنّ الرئيس دونالد ترمب يكرّر رهانه المألوف على رجال الأعمال - كما فعل في الحكومة الأولى - يعدّ آخرون أنّ ما حدث هو إعادة توجيه جذرية لطبيعة القوة التكنولوجية الأميركية، بحيث تُسلَّم مفاتيح المستقبل لمن يملكون القدرة على «تسريع» الابتكار، وليس فقط تنظيره. وأدناه نبذة عن مسيرة مايكل نحو هذا المنصب، وتكوينه السياسي ومسارة المهني ومنطق تعيينه وتأثير خلفيته القبطية المصرية في شخصيته ودوافعه.

مهاجر في قلب سردية النجاح

ولد إميل مايكل في القاهرة عام 1972 لأسرة قبطية، وهاجر في سن مبكّرة مع عائلته إلى الولايات المتحدة.

وعام 2012 التقى جولي هيرين في لاس فيغاس (ولاية نيفادا)، وتزوجا عام 2018 في حفل أقيم بمدينة ميامي، بولاية فلوريدا.

الانتماء القبطي ليس تفصيلاً هامشياً، بل جزء أساسي في تكوينه السياسي وطريقة تفكيره. وفي شقّ من الهوية القبطية، عند البعض في مصر، ثمة بالهامشية السياسية والبحث عن الحماية عبر «المؤسسات القوية». وهذا انعكس لاحقاً على توجهات مايكل في السياسة الأميركية، وخاصة في علاقة الأقليات بالدولة الحديثة، وقيمة وجود دولة مركزية قادرة على فرض النظام.

وكان مايكل يشير دائماً في مقابلاته القليلة حول خلفيته، إلى أنّ تجربة الهجرة منحته ثقافتين من زاويتين: إيماناً أميركياً تقليدياً بالفرصة الفردية، وحسّاً «واقعياً» في فهم أخطار انهيار الدول وضعف مؤسساتها، وهو أمر لا يمرّ عادة في تكوين المسؤولين الأميركيين الذين يترعرعون داخل «الاستقرار المؤسساتي» الأميركي.

هذه الخلفية تفسّر أيضاً شغفه المبكر بالدفاع الوطني. فمع أنه رجل أعمال تقني، اختار عام 2009 الانضمام إلى برنامج الزمالة في «البيت الأبيض»، والعمل مباشرةً تحت وزير الدفاع روبرت غيتس (الجمهوري) في إدارة الرئيس الديمقراطي الأسبق باراك أوباما، إبان سنوات الحرب في العراق وأفغانستان. وما لبث رجل الأعمال الشاب الآتي من وادي السيليكون أن وجد نفسه فجأة في قلب العمليات العسكرية واللوجيستية، في مسار غير شائع إطلاقاً.

جمهوري من هارفارد... إلى ستانفورد

درس إميل مايكل في جامعة هارفارد العريقة، وفيها تولّى رئاسة نادي الجمهوريين. واللافت أنّه فور تسلمه المنصب بادر إلى تحويل اسم النادي إلى «نادي الجرف الأحمر لجمهوريي هارفارد»، في إشارة إلى رغبته في إدخال النساء إلى الهيكل السياسي الطلابي المحافظ. وهو موقف مبكر يعكس قدرة سياسية على قراءة البيئة الاجتماعية ومحاولة توسيع التحالفات، وهي مهارة ستظهر لاحقاً في إدارة الشركات.

بعد هارفارد، تابع دراسته في كلية الحقوق التابعة لجامعة متميزة أخرى هي جامعة ستانفورد، المختبر الفكري الذي أنجب نخبة من روّاد التكنولوجيا.

هناك ازداد تماهيه مع التيار البراغماتي داخل الحزب الجمهوري، الذي يركّز على الاقتصاديات الحديثة والابتكار، وليس فقط على خطاب «القيَم التقليدية». ولعل هذا المزيج، أي يميناً اقتصادياً وابتكاراً تكنولوجياً، كان أساسياً لاحقاً في فهم لماذا رأى ترمب فيه الشخص المناسب لقيادة سباق الحرب التكنولوجية.

المسيرة المهنية

على امتداد 25 سنة، بنى إميل مايكل سمعة استثنائية في عالم الشركات العالية النمو، حيث بدأ مسيرته المهنية مستشاراً استراتيجياً في شركة «كونفيرجينغ» التابعة لشركة «جيميني» للاستشارات. وبعد تخرجه في كلية الحقوق، عمل مايكل مساعداً في مجموعة الخدمات المصرفية الاستثمارية للاتصالات والإعلام والترفيه في «غولدمان ساكس» بنيويورك حتى عام 1999. ثم عمل في مشاريع استشارية للاندماج والاستحواذ العدائي، وفي تمويل الأسهم والديون المصرفية. ومن 1999 حتى 2008 شغل مايكل منصباً تنفيذياً في شركة «تيل مي نتوركس» الناشئة للاتصالات عبر الإنترنت لمدة تسع سنوات. وكانت تلك الشركة رائدة في تقنيات التعرف على الصوت، وبيعت لـ«مايكروسوفت» بـ800 مليون دولار عام 2007.

بعدها، عام 2012، أصبح رئيساً للعمليات وعضواً في مجلس إدارة شركة «كلاوت»، منصة تحليل النفوذ الرقمي (التي سبقت عصر البيانات الضخمة)، ليغادرها عام 2013، للانضمام إلى شركة «أوبر». وحقاً، بيعت «كلاوت» إلى شركة «ليثيوم» مقابل نحو 200 مليون دولار في أوائل عام 2014.

ثم انضم مايكل إلى «أوبر» نائب رئيس أول للأعمال، وكان بمثابة الذراع اليمنى لرئيسها التنفيذي، ترافيس كالانيك، وساعد الشركة على جمع ما يقرب من 20 مليار دولار. وللعلم، كان مايكل لاعباً رئيساً في تطوير جهود «أوبر» في الصين، حيث استثمر ملياري دولار لتصل قيمتها إلى 7 مليارات دولار عام 2016. كذلك عمل على بناء شراكات مع «بايدو» وشركات صينية أخرى. وعام 2016 قاد مايكل عملية دمج «أوبر الصين» مع منافستها المحلية «ديدي تشوكسينغ». وفي 2021، جمعت شركة «ديدي» 4.4 مليار دولار في طرحها العام الأولي.

تقدير قدراته التسويقية

عام 2014 اختير مايكل واحداً من «أكثر الأشخاص إبداعاً في مجال التسويق» وواحداً من «أكثر 100 شخص إبداعاً في مجال الأعمال» من قِبل شركة «فاست».

وفي عام 2017، ساعد مايكل في التفاوض على صفقة مع «ياندكس»، أكبر شركة تكنولوجيا وأشهر محرّك بحث على الإنترنت في روسيا – هي المعروفة باسم «غوغل روسيا» - حيث امتلكت «أوبر» 36.6 في المائة من كيان مشترك لمشاركة الرحلات في روسيا. واستثمرت «أوبر» 225 مليون دولار، واستثمرت «ياندكس» 100 مليون دولار.

رأس المال «المخاطر» يدخل «البنتاغون»

عام 2014، عُيّن إميل مايكل وثمانية آخرون في «مجلس أعمال الدفاع» التابع لـ«البنتاغون». انضمّ الثمانية إلى خمسة عشر عضواً من أعضاء المجلس، الذي أُسس عام 2002 لتقديم استشارات مستقلة بشأن القطاع الخاص. وكان مايكل الوحيد من بين المعيّنين الجدد الذي يتمتع بخبرة في مجال الشركات الناشئة.

وبالفعل، لعبت خلفيته في الاستثمار بشركات الذكاء الاصطناعي، و«البلوك تشين»، واللوجيستيات، والأنظمة الرقمية... وتحديداً، في المجالات التي تُعدّ اليوم قلب المنافسة الاستراتيجية مع الصين، دوراً كبيراً في جعله - في نظر فريق ترمب - «المختبر العملي» لقيادة سباق التكنولوجيا العسكرية، وهو ما أغرى ترمب بوضعه في رأس منظومة الابتكار العسكري.

خلال ديسمبر (كانون الأول) 2024، أعلن ترمب - وكان لا يزال رئيساً منتخباً - عن نيته ترشيح مايكل لمنصب وكيل وزارة الدفاع للأبحاث والهندسة، وأكد مجلس الشيوخ ترشيحه في مايو (أيار) 2025. وفي أغسطس (آب)، أصبح قائماً بأعمال «مدير وحدة الابتكار الدفاعي».

واليوم، يُعد منصب وكيل وزارة الدفاع للبحث والهندسة أخطر منصب تكنولوجي في الحكومة الأميركية. فهو الذي يحدّد اتجاهات الاستثمار التكنولوجي، وأولويات «وكالة مشاريع أبحاث الدفاع المتقدمة» (داربا)، وبرامج الأسلحة الاستراتيجية، وتوازن القدرة الأميركية مقابل الصين وروسيا.

ولفهم أسباب اختيار ترمب لمايكل، يرى البعض أنه يجب النظر إلى سمات الشخصية مقابل حاجات المرحلة. وفي ظل الحاجة إلى سرعة التنفيذ، يعاب على «البنتاغون» العمل ببطء بيروقراطي قاتل، بينما يأتي مايكل من ثقافة «التحرك بسرعة وكسر الأشياء»، ويُنظر إليه كمن يستطيع اختصار سنوات من الدورة البيروقراطية في وزارة الحرب.

وفي عهد فتح الأبواب للقطاع الخاص، اتجه ترمب أيضاً خلال ولايته الثانية إلى جعل الابتكار العسكري يعتمد على الصناعة الخاصة لا على مختبرات الدولة فقط، وهو بالضبط ما يجسده مايكل في هذا النهج. وطبعاً، يضاف إلى ما سبق أن خبرته العالمية، ولا سيما مع الصين وروسيا، منحته نظرة دقيقة على نماذج الابتكار لدى الخصوم.

مع هذا، يثير تعيين مايكل في منصبه جدلاً داخل واشنطن. فبعض الأصوات ترى في تعيين رجل أعمال بهذا الانغماس في رأس المال المخاطر، خطوة قد تعمّق نفوذ الشركات على حساب القرارات الدفاعية. ثم إن موقفه الحازم من الصين - بعدما حذر من أنها تهدف إلى «احتكار الذكاء الاصطناعي العسكري» خلال 10 سنوات - قد يدفعه إلى قرارات سريعة وغير تقليدية، بعضها يزعج التيارات التقليدية.

خلفيته ورؤيته لـ«البنتاغون»

من جهة ثانية، مع أن مايكل لا يقدّم نفسه بوصفه «سياسياً هوياتياً»، ورغم أنه شخصية محافظة سياسياً، فإنّ تأثير هويته واضح. ذلك أن خلفيته بصفته قبطياً مهاجراً جعلته، بحسب مقرّبين، أقرب لفهم أهمية «توازن القوة» في المجتمعات الهشّة، ما جعله يؤمن بأن التفوّق العسكري الأميركي هو أحد صمامات استقرار الأقليات حول العالم.

هذا البعد له تأثير ضمني لكن مفهوم في قراره بالدخول إلى قطاع الأمن القومي، وينعكس في دعمه لبرامج الدفاع غير التقليدية، ولتطوير تقنيات يمكن أن تمنع الحروب قبل وقوعها. وعلى عكس كثير من التكنولوجيين الأميركيين الذين يملكون حسّاً «ليبرالياً » تجاه الأمن القومي، ينظر مايكل إلى الجيش كـ«قوة استقرار»، وليس فقط كمجرد مؤسسة عسكرية.

ومن ثمّ، من الآن وحتى 2030، تشير كل المؤشّرات داخل وزارة الحرب إلى أنّ مايكل يخطط لثلاثة محاور حاسمة:

- تفعيل «نظام الابتكار السريع»، عبر تحويل «البنتاغون» إلى بنية مشابهة لشركات التكنولوجيا، في اتخاذ القرارات السريعة، وتجارب متكررة، ونسخ أولية، ثم تصنيع.

- إعادة توجيه وكالة مشاريع أبحاث الدفاع المتقدمة (داربا) نحو الذكاء الاصطناعي العسكري الكامل، ليس فقط كأداة دعم، بل كمكوّن قتالي مستقل.

- عسكرة البيانات، عبر تطوير أنظمة ميدانية تعتمد على بيانات اللحظة، بما يشبه نموذج «أوبر» في مراقبة الحركة البشرية، لكن في ساحات الحرب.

ولهذا بالضبط، نجده اليوم في رأس الهرم التكنولوجي للولايات المتحدة، في لحظة تتقرر فيها ملامح القرن الأميركي أو نهايته.


كيف يختلف مايكل عمّن سبقوه في منصب وكيل وزارة الدفاع للبحث والهندسة؟

كاثلين هيكس (آب)
كاثلين هيكس (آب)
TT

كيف يختلف مايكل عمّن سبقوه في منصب وكيل وزارة الدفاع للبحث والهندسة؟

كاثلين هيكس (آب)
كاثلين هيكس (آب)

يمثّل صعود إميل مايكل إلى منصب وكيل وزارة الدفاع للبحث والهندسة تحولاً واضحاً في طبيعة القيادة التكنولوجية داخل «البنتاغون»، مقارنةً بكل من مايكل غريفين وهايدي شو وديفيد هوني وكاثلين هيكس، الذين شكّلوا المسار المؤسسي التقليدي خلال العقد والنصف الماضيين.

مايكل غريفين (2018 - 2020) العالم الصاروخي، هو نموذج «العالم الكلاسيكي» داخل المؤسسة الدفاعية الأميركية. فيزيائي صواريخ، ومدير سابق لوكالة الفضاء الأميركية (ناسا)، ورجل قائم على المدرسة البحثية الثقيلة.

كان تركيزه على الفضاء، والصواريخ، والأنظمة الفرط صوتية، وتطوير أنظمة الردع الاستراتيجي. والفارق الجوهري بينه وبين مايكل يكمن في الخلفية: غريفين ابن المؤسسات الأكاديمية والعسكرية التقليدية، بينما مايكل آت من شركات التكنولوجيا الفائقة النمو، ما يجعله أكثر ميلاً للسرعة والمخاطرة وتبني الابتكار التجاري.

هايدي شو (2020 - 2023) سيدة المنظومات الدفاعية، جاءت من خلفية إدارية - تكنولوجية تمتد لعقود داخل «البنتاغون»، مركّزة على الدفاع الصاروخي والسيبراني، ومثّلت «الاستمرارية» أكثر من التغيير، بينما يجسد مايكل «القطيعة» مع الإرث المؤسسي. إذ إنه لا ينتمي لتقاليد «البنتاغون»، بل لثقافة استثمارية عالمية، ما يجعله أقرب إلى مقاربة «الابتكار المفتوح» مع الشركات الناشئة.

ديفيد هوني (2023 - 2025) المهندس البيروقراطي، يُعدّ خبيراً في البيروقراطية الدفاعية، عارفاً بتعقيدات الهياكل الداخلية ودوائر الاستحواذ. وظيفته كانت تحسين الانسيابية لا تغيير الفلسفة. أما مايكل فيقدّم رؤية انقلابية: تسريع القرارات، ونقل تقنيات القطاع الخاص مباشرة إلى ساحة القتال، وتخفيف دور البيروقراطية لصالح دينامية الشركات.

كاثلين هيكس (2021 - 2025) نائبة وزير الدفاع، تعد العقل الاستراتيجي المدني، ومع أنها لم تشغل الموقع نفسه، لكنها قادت بحكم موقعها، الإشراف على ملفات التكنولوجيا والتحوّل الدفاعي.

أيضاً مثلت هيكس المدرسة الاستراتيجية الليبرالية - التقليدية في الأمن القومي، ويمثل مايكل المدرسة المحافظة - التجارية، المتمحورة حول المنافسة مع الصين والتفوق الصناعي.

أخيراً، في حين يمثل الأربعة المذكورون خط الاستمرارية المؤسسية، يأتي إميل مايكل من خط الاختراق التكنولوجي التجاري. فهو أول من جمع بين خبرة وادي السيليكون والعمل المباشر في ساحات الدفاع، ما يجعل تعيينه انتقالاً من «عقود البحوث البطيئة» إلى «سباق الزمن التكنولوجي» في مواجهة الخصوم الدوليين للولايات المتحدة.