يستند الناقد الأكاديمي المغربي محمد مشبال في دراساته النقدية إلى تراث البلاغة العربية وتجلياتها في أعمال المبدعين الأول الرواد أمثال الجاحظ وابن جني، ويفسر انجذابه لها بالتقائها مع المناهج النقدية الحديثة في اهتمامها بتقنيات النص الأدبي؛ مضيفا إلى ذلك دافعا آخر هو أن «تفرض الثقافة العربية هويتها - في زحمة المناهج الوافدة من الغرب». ويتركز مشروعه على تفكيك البلاغة العربية القديمة وإعادة تركيبها في سياق معاصر. ومن أبرز مؤلفات مشبال «أسرار النقد الأدبي»، و«مقولات بلاغية في تحليل الشعر»، و«البلاغة والخطاب»، و«خطاب الأخلاق والهوية في رسائل الجاحظ». حصل مشبال على عدد من الجوائز الأدبية المهمة منها جائزتا «فيصل العالمية» و«الشيخ زايد للكتاب»... هنا حوار معه حول مؤلفاته ومشروعه النقدي.
* من أول مؤلفاتك «مقولات بلاغية في تحليل الشعر» (1993) حتى كتابك «محاضرات في البلاغة الجديدة» (2021)؛ لماذا تبدو «البلاغة» قاسما مشتركا يتقاطع مع الشعر والرواية والسياسة؟ هل تحولت البلاغة إلى نافذة تطل منها على العالم؟
- تتمثل قيمة البحث العلمي بشكل عام فيما يضيفه الباحثون إلى الحقل الذي يشتغلون فيه، وفي الأسئلة الجديدة التي يثيرونها ويسعون إلى الإجابة عنها. ولقد كان الباحثون المعاصرون في العالم العربي ينظرون إلى البلاغة باعتبارها علما معياريا لا يمتلك سوى قيمة تاريخية ولم يعد قادرا على مواكبة ما يتجدد في الآداب من أساليب ووسائل تعبير جديدة. هذه النظرة التي كان وراءها منظرون غربيون أطلقوا أحكامهم في سياق بحثهم عن بلاغة جديدة أو في سياق انتصارهم لمناهج نقدية جديدة، لم تكن خاطئة كل الخطأ، ولكنها كانت قاسية على البلاغة إذ ألحقت ضررا بالبحث البلاغي العربي؛ فإذا استثنينا التيار التقليدي في البحث البلاغي الذي ظل يسير في طريقه المعتاد غير آبه بما يجري حوله، فإن الممارسة النقدية العربية الحديثة ابتعدت عن البلاغة ابتعادا كليا، ولم تكلف نفسها إعادة النظر في الأحكام الجاهزة التي تلقفتها عن البلاغة من هنا أو هناك. في خضم هذه النظرة الحالكة واليائسة للبلاغة، كتبت كتابي الأول «مقولات بلاغية في تحليل الشعر»؛ وكان كتابا مؤسسا يرسم معالم الطريق الذي ينبغي أن يسلكه البحث البلاغي في ثقافتنا الحديثة، رغم أنني لم أكن أشتغل في سياق ثقافي يساند التصور الذي أسعى إلى تطويره؛ فقد كان سياقا مفتونا بالمناهج النقدية الحديثة التي توالى ظهورها في العالم العربي، ولم يكن ممكنا أن تجد البلاغة موقعا لها في واقع نقدي متعطش لا يريد أن يلتفت إلى الوراء. وكانت لفظة «البلاغة» تختزن كل هذا البغض الذي يكنه المحدثون لما هو قديم وتقليدي. رغم هذا الواقع غير المحفز، أغرتني البلاغة لما كنت ألاحظه من وجوه التلاقي بينها وبين المقاربات النقدية الحديثة التي كانت مهتمة بما هو نصي وشكلي في الأعمال الأدبية، دون أن ألتفت إلى ما كانت تفتقر إليه معظم مؤلفات البلاغة –وخاصة المتأخرة - من أساس نظري كما كان الحال عليه في البدايات مع الجاحظ وعبد القاهر الجرجاني.
* إذن أين يكمن بالضبط سر انجذابك للبلاغة؟
- يمكنك القول إن أحد الدوافع التي تفسر انجذابي نحو البلاغة هو التقاؤها مع المناهج النقدية الحديثة في اهتمامها بتقنيات النص الأدبي، والدافع الآخر هو رغبة دفينة في أن تفرض الثقافة العربية هويتها - في زحمة المناهج الوافدة من الغرب - بحقل أصيل متجذر في التراث. والدافع الثالث هو اقتناعي بأن التقنيات البلاغية التي رصدها القدماء في الآداب القديمة شعرا ونثرا ما زالت تستعمل من لدن الشعراء والكتاب المعاصرين، ولا يمكن أن تختفي رغم ظهور تقنيات جديدة أفرزتها الأنواع والمنازع الجمالية الجديدة.
وينبغي التنبيه إلى أمر مهم في هذا السياق؛ فبلاغة النصوص لا ينبغي حصرها في التقنيات التي ضبطها علماء البلاغة قديما؛ ما دامت البلاغة تعني من بين ما تعنيه صنعة الكلام سواء أريد بها إحداث المتعة «التخييل» أو إيقاع التصديق «الحجاج»، من المحاججة بفتح الحاء، وهذه الصنعة غير محدودة. ومن ثم كان على الحقل البلاغي أن يوسع من دائرة التقنيات التي ضبطها وحددها، ليصبح حقلا منفتحا على النصوص بدل انغلاقه على تقنيات محددة سلفا.
* هل ثمة بلاغة قديمة وأخرى جديدة؟
- لما كانت البلاغة تعني صنعة الكلام وكانت صنعة الكلام غير محدودة فإن ما يسمى بالبلاغة باعتبارها حقلا علميا يدرس هذه الصنعة، لا يمكن حصره في المنجز البلاغي القديم، فقد رأينا كيف وسع البلاغيون المعاصرون دائرة التقنيات الحجاجية القديمة، وكيف سمحت الصنعات السردية الحديثة بالكشف عن تقنيات بلاغية جديدة. ولا يهم أن هذه التقنيات اكتشفت في حقول أخرى غير البلاغة.
هذا التصور سمح لي بتوسيع مجالات التحليل البلاغي خارج دائرتي الشعر والقرآن اللتين حصر فيهما قديما؛ فإذا كانت البلاغة هي النافذة التي أطل منها على عالم الخطابات، فإن هذه النافذة لم تعد كوة صغيرة كما تصورتها القراءات المتعاقبة للبلاغة، بل نافذة مشرعة ومنفتحة على حقول أخرى.
* لكن ألا ترى أن اهتمامك الشديد بالتنظير جاء على حساب النقد التطبيقي حيث يأخذ عليك كثير من المبدعين عدم الالتفات إلى مؤلفاتهم؟
- يجب أولا التمييز بين وظيفة «البلاغي» من جهة وبين الناقد الأدبي من جهة ثانية؛ فالبلاغي دارس للخطاب يشتغل بالتنظير في المقام الأول ثم يطبق على سبيل تدعيم تصوراته ومفاهيمه، وقد يتحول إلى ناقد أدبي إذا حول ممارسته إلى نقد النصوص الأدبية مبينا أسرارها الجمالية. لست ناقدا أدبيا بهذا المعنى، لأن ذلك يتطلب تفرغا لقراءة الأعمال الأدبية ونشرها في الصحافة، لكن يمكن القول إنني بلاغي ودارس أدبي يحلل النصوص الأدبية والتداولية في ضوء المفاهيم النظرية. وبناء عليه فإن مؤلفاتي مزيج من التنظير والنقد التطبيقي؛ فكتابي «مقولات بلاغية» المشار إليه سابقا لا يخلو من تحليل لنصوص شعرية قديمة وحديثة، وكتبي عن نثر الجاحظ «بلاغة النادرة» و«البلاغة والسرد» و«خطاب الأخلاق والهوية» تطبيقية، وكتابي «في بلاغة الحجاج» يضم تحليلات بلاغية لنصوص مختلفة، وكذلك نجد في كتاب ««البلاغة والرواية» نقدا تطبيقيا للسرد التخييلي والمرجعي. فالحكم الوارد في السؤال على غياب النقد التطبيقي من مؤلفاتي غير دقيق.
* يحتل كتابك «الهوى المصري في خيال المغاربة» موقعا مميزا في سياق تجربتك؛ ترى ما هي أبرز ملامح صورة مصر في انعكاساتها المغربية؟
- الكتاب يرصد صورة مصر في خيال كتاب مغاربة عاشوا فترة من حياتهم في مصر أو عاشت مصر في وجدانهم من خلال تلقيهم للخطابات الأدبية والفنية والسياسية والدينية التي أنتجها المصريون منذ عصر النهضة حتى فترة الثمانينات؛ وهي الفترة التي بدأ فيها تأثير الثقافة المصرية في وجدان المغاربة يتضاءل وتخفت حدته، نتيجة التطور الذي بدأ يحصل في ثقافات البلدان العربية الأخرى ومنها الثقافة المغربية التي لم تعد هامشية تكتفي بالتلقي، بل باتت تفرض هويتها وتستقطب اهتمام الآخر سواء أكان عربيا أم أجنبيا. فصورة مصر في خيال المغاربة هي الصورة التي انطبعت في الوجدان نتيجة القيم الرفيعة التي رسختها الإبداعات المصرية في مختلف المجالات. وتكمن فاعلية هذه الصورة في أنها نجحت في خلق جاذبية نحو هذا البلد بغض النظر عن مطابقة هذه الصورة للواقع أو مجافاتها له.
* تتلمذت على يد الدكتور سيد البحراوي... ما الذي يتبقى من علاقتك بهذا الناقد المصري الراحل؟
- سيد البحراوي كان أستاذي بالمعنى الحقيقي، وكان صديقا فتح لي بيته الذي كنت أزوره فيه سواء لمناقشة بعض ما كنت أكتبه من مقالات في بداياتي الأولى في مجال النشر أو مناقشة رسالتي للماجستير أو حضور صالونه الثقافي الذي كان يقيمه مع زوجته المرحومة أمينة رشيد يستضيفان فيه شخصيات ثقافية متنوعة. بعد عودتي للمغرب انقطعت علاقتي بمصر لفترة طويلة ثم عاودني الحنين عندما شعرت برغبة جارفة للسفر إلى القاهرة والمشاركة في أجوائها العلمية التي كانت تستقطب مثقفي العالم العربي بأسره. في 2006 وجهت له باسم فرقة البلاغة واتحاد كتاب المغرب دعوة لزيارة تطوان في نشاطين ثقافيين أولهما إلقاء محاضرة في الكلية ومناقشة أعماله الإبداعية. ثانيا إلقاء محاضرة باعتباره ضيف شرف إحدى دورات عيد الكتاب. وابتداء من هذه السنة تجددت علاقتنا حتى رحيله رحمه الله.
* ما السر وراء التفوق المغربي في السنوات الأخيرة بمجال النقد والتنظير حتى إن قوائم الفائزين في الجوائز الكبرى لا تكاد تخلو من اسم مغربي؟
- استفادت الجامعة المغربية من جيل الرواد من الجامعيين المغاربة الذين تتلمذوا على أساتذة مرموقين درسوا بالمغرب سواء أكانوا وافدين من المشرق أم من أوروبا، كما استفادت من متابعة عديد من طلابها دراساتهم بفرنسا. وقد كان لقرب المغرب من أوروبا دور في هذا التفوق في مجال العلوم الإنسانية. فمعظم الباحثين المغاربة حريصون على مواكبة ما ينتج في الغرب في حقول علوم اللغة والخطاب والنقد. لذلك ثمة فرق بين الدراسات النقدية واللغوية في المغرب وتونس وبين غيرهما في البلاد العربية.
* ما الذي يعنيه لك فوزك بجائزتي «فيصل العالمية» و«الشيخ زايد للكتاب»؟
- لقد ساعدتني هذه الجوائز في التعريف بتصوري ومشروعي على نطاق واسع، كما منحت لطلابي جرعات إضافية من التحفيز لمواصلة الطريق. والأهم من كل ذلك أن انحيازي إلى البلاغة في بدايات حياتي العلمية، لم يكن مجرد رد فعل عاطفي ضد سطوة المناهج الغربية، بل كان اختيارا علميا صائبا.
* كانت مفاجأة لي أنك تبدو منحازا لما يمكن تسميته «النقد الانطباعي» الذي يقدم قراءات ومراجعات للأعمال الإبداعية في الصحف ووسائل الإعلام ولا تبدو متحمسا للنقد الأكاديمي المنهجي المتخصص الذي يفترض أنك تنتمي إليه؟ لأن ما يطلق عليه «النقد الصحافي» متهم دوما بالتعجل والتبسيط الشديد حتى الإخلال بالمعنى بسبب مخاطبته القارئ غير المتخصص؟
- ما أعنيه هنا، أنني كنت أنتقد الممارسة النقدية التي يضطلع بها بعض «النقاد» الذين يفتقدون الموهبة والثقافة والخبرة التي تؤهلهم لمحاورة الأعمال الأدبية؛ فيكتفون بترديد المقولات النظرية على أعتاب هذه الأعمال التي تظل أبوابها موصدة في وجوههم. فالدراسات الأدبية لها مكانها في البحث العلمي والجامعي وهي تتوجه إلى متلق متخصص، وأما الممارسة النقدية الأدبية فهي جزء من الحياة الثقافية وتتوجه إلى القارئ العام. وهي ممارسة مبنية على خبرة وليست انطباعية. نقد الأعمال الأدبية ممارسة خاصة تقتضي كفاية وموهبة وخبرة جمالية عميقة ولأجل ذلك لم يعد هذا الناقد موجودا في حياتنا الثقافية، واستبدلناه من خلال ناقد مشوه؛ لا هو بالدارس المتخصص ولا هو بالناقد المثقف القادر على الإمساك بمكامن الجمال في العمل المنقود.
ما أتطلع إليه الآن هو تعميق مشروعي البلاغي بالرجوع إلى التراث الذي وضعت به أولى خطواتي على طريق البحث العلمي برسالة الماجستير عن «نظرية ابن جني في لغة الشعر» بإشراف المرحوم الناقد المصري القدير الدكتور عبد المنعم تليمة.
محمد مشبال: الممارسة النقدية العربية الحديثة ابتعدت عن البلاغة
الأكاديمي المغربي يرى أن قرب بلاده من أوروبا لعب دوراً في تفوقها بالعلوم الإنسانية
محمد مشبال: الممارسة النقدية العربية الحديثة ابتعدت عن البلاغة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة