ناصيف زيتون يطوي صفحة من عمره: الأدبُ جمال

يبلغ الثالثة والثلاثين ويفتح ذراعيه للحياة

ناصيف زيتون يطوي صفحة من عمره: الأدبُ جمال
TT

ناصيف زيتون يطوي صفحة من عمره: الأدبُ جمال

ناصيف زيتون يطوي صفحة من عمره: الأدبُ جمال

يد ميلاد سعيد لناصيف زيتون، فنان الشباب وحماسة الغناء. يبلغ الثالثة والثلاثين، والعمر أمامه، يفتح له ذراعين واسعتين. كان عشرينياً حالماً بالأضواء، عندما دخل أكاديمية «ستار أكاديمي»، فكسب التحديات وفاز. البعض يُمنح فرصاً ولا يتقن التصرّف؛ والبعض يقبض على الفرصة، فيصل إلى حيث يستحق. كثر مرّوا في برامج وتبخّروا بعد وقت. تبيّن أنّ لهم وجوداً عابراً. القلة الموهوبة تبقى وتستمر لترتفع بما يليق بالاجتهاد. «أبو إلياس» منذ انطلاقه، يصعد السلّم. كلما تقدم خطوة، تعلّم أنّ الأقدام التي تكفّ عن المسير، هي الأقدام الفاشلة. وقد يعرقل الظرف المرء ويرفع الإصبع في وجهه. وقد يُحبَط ويُخذل، إلا أنّ الأقوياء ينهضون والابتسامة زينة وجوههم.
كيف يقيّم الإنسان نفسه؟ لا بالطول ولا بالعرض، بل بالفارق بين ما كان وما يكون. والأهم، بما سيكون. شاب يدخل «ستار أكاديمي» في عام 2009 كهاوٍ ويتخرّج كنجم. قلّة هم القادرون على النجاة بنجوميتهم في أرض طافحة بالألغام. تتربّص الخيبة بالمرء وتستعد لافتراسه فور انطفاء الكاميرات. يرتفع إلى فوق، ويرتطم بسابع أرض. فالخيبة بعد تلاشي فقاقيع الشهرة مؤذية، إلا إن كان المرء نجماً بالفطرة. كناصيف زيتون عاشق الفن منذ الصغر. شيء من داخل الإنسان يقوده إلى قدره، كما تجرّ الريح مركباً نحو الموجة الآمنة. يدلّه حدسه، فيصل. الوصول العظيم هو وليد الشقاء.
أخبر مرّة برنامج «أغاني من حياتي» («إم بي سي») أنّ والدته باعت مجوهراتها لشراء ملابس دخوله إلى الموسم السابع من «ستار أكاديمي». لم تُرد ابنها أن يشعر بالنقص. أو أن تقف الفوارق الاجتماعية بينه وبين الحلم. شاب من سوريا، أتى إلى بيروت بحثاً عن وجود. ونوع وجوده لا يُسدّ بطعام وشراب مع وظيفة مملة. ولا تشبعه أيام باهتة، لا تأتي بجديد ولا تحمل معاني الحياة. وجوده يلتئم بالفن. بالأغنية واللحن والكلمة. بالصوت المصرّ على التطوّر. بالصقل والاستفادة من النصيحة.
بعض الناس هم الأمل لأوطانهم النازفة. ولما تشتّت الشباب السوري وتعذّب في غربته، بدت شرارة ناصيف زيتون مثل برعم الأمل في حديقة يابسة. وهو نفسه يدرك أنّ في البدايات فاته بعض النضج. أغنيات ليست بمستوى أغنيات، وهذه الطبيعة البشرية في التخمّر مع الزمن. وعلى عكس كثر يبدأون بتواضع ويستمرّون بعنجهية، يعلم ابن درعا أنّ الغرور مقبرة الفنان. يتقدم إلى المحبين بـ«درويشية». كأبناء القرى في حُسن المعاملة ودفء القلب. «ستار» بجمال الروح.
كنز الفنان حب الناس. مرّ أكثر من عامين على حفلات أحياها ناصيف زيتون في لبنان. امتلأت مقاعد «واجهة بيروت البحرية» بالمحبين من كل الأعمار. وستحزر بالطبع أي عمر يسيطر على المشهد: إنهم المراهقون والشباب، يجدون في النجم طاقة خلاقة ولغة مشتركة. نذكر كم تعالت الصيحات مع كل «هيت» يتلفّظ بكلماتها الأولى. «مش عم تزبط معي» و«قدا وقدود» وسائر خبطاته. هو على المسرح، بملابسه الشبابية، لا يهدأ. يقفز ويتفاعل، فمن يروّض حناجر الشابات؟ «ناصيفووو»، كم صرخن من مقاعدهن، ثم وقفن عليها ورحن يتقافزن سعيدات! ما أجملها من أيام! هذه التي نعيشها أوراق العمر المتساقطة.
يا له من صانع فوارق حلّى شارات مسلسلات رمضان بأغنية «مجبور». شكّلت منعطفاً وأدخلت عليه النور. تذكروا السلّم، فبعض عتباته ليست لكل الأقدام. عتبة صعبة تمنح الجمال جدوى، اسمها هذه المرة «أزمة ثقة». بصمة في «الهيبة»، بأغنية الافتتاح وأغنية الختام. وبصمة في «أوقات»، فقد زيّن مسلسل «للموت» بصوته، ورفع الشوق إلى الأحداث. مسألة خيارات، الشاطر يُحسن الانتقاء.
شعاره اللمبة المضيئة على شكل فكرة تخطر على البال فتغيّر الأحوال. اللمعة حين تقتحم الذهن، فتسلب النوم من العين. تظلّ تدور حتى تتبلور وتلحّ على الاكتمال. هذه الأفكار الملهمة الغنية بالحياة. يرفعها ناصيف زيتون كمنبّه يذكره بالوقت وبتكثيف المحاولات، وتلوّح له بالأيادي المرتفعة، المترافقة مع التهييص: «ناصيفوووو»، مذوّب قلوب الصبايا.
«أبو إلياس» بعضٌ من بيروت، تحتضنه كطفل. الأطفال أيضاً يتألمون ويصابون بالرضوض. يكبرون مع قلق الأماكن وآهات الأوطان. ناصيف من الجهتين، ملدوغ بالوطنين. هنا حريق وهناك لهيب. ما يهوّن الاشتعال الإنساني هو الوفاء لما قدمته الأرض لصاحبها. وصاحب «ما وعدتك» لا يتنكّر للوفاء. إن سكن في بيروت، عاملته كابن البيت؛ وإن عاد إلى سوريا، ارتقى عن الانقسام وحاول بالفن الجمع.
اتكأ على كتف جورج وسوف ولمح فيه صورته المثلى. لا من قبيل التسلّق، بل بالاجتهاد وفناء العمر على أعتاب المهنة. الطموح الكبير فقط للمواهب الكبيرة. ناصيف زيتون يعمل على خياراته ويختار الأنسب. تعثّره في بعضها يحفّزه على التعويض المتفوّق. الانكفاء عند الخيبات ليس من خصاله. يليق به الاندفاع.
من يهنّئون ناصيف زيتون لا يكتفون بمباركة نجاحه. الأحلى هو الغزل المخصص لصفات النفس: الأخلاق والتهذيب والتواضع. في عيد ميلاده، أشاد محبّون بفنان خلوق، مستقبله أمامه. وردّ بالمثل: شكرٌ بأدب وارتفاعٌ بخجل.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».