العراق و«استحقاق أكتوبر الانتخابي» وسط رهانات الداخل والخارج

صالح يرسم صورة العراق المستقبلية... والكاظمي يفي بأهم تعهداته

العراق و«استحقاق أكتوبر الانتخابي» وسط رهانات الداخل والخارج
TT

العراق و«استحقاق أكتوبر الانتخابي» وسط رهانات الداخل والخارج

العراق و«استحقاق أكتوبر الانتخابي» وسط رهانات الداخل والخارج

قبل نحو أسبوع من أهم استحقاق انتخابي ينتظره العراق، يوم 10 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، حرص الرئيس العراقي الدكتور برهم صالح على رسم صورة أرادها أن تكون واقعية، سواء لمستقبل بلاده أو مستقبل المنطقة. ففي الأسبوع الماضي، كان لصالح خطابان: الأول من على منصة الأمم المتحدة حيث ألقى كلمة العراق أمام الجمعية العامة للمنظمة في دورتها الـ76. والثاني مقابلة مع قناة «سي إن إن». وفي الخطابين كرر صالح آراءه وقناعاته، وكذلك مخاوفه وتحذيراته. وعرض أيضاً رؤى ومقاربات لكيفية بناء علاقات مستقبلية بين جميع دول المنطقة، لا سيما بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان وبدء الانسحاب من العراق. وفي غضون ذلك، سعى صديقه ورفيق دربه رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي للإيفاء بوعوده وتعهداته بشأن أهم استحقاق سياسي أجمع عليه الجميع بعد انتفاضة أكتوبر (تشرين الأول) عام 2019، وهو الانتخابات المبكرة.
على صعيد الانتخابات المبكّرة، فإنها كانت أحد أهم المطالب التي تضمنتها مطالب مَن عُرفوا بـ«ثوار تشرين» شريطة تنظيمها في ظل قانون جديد يعتمد الدوائر المتعددة والفوز بأعلى الأصوات. وهو ما حصل بالفعل، مع تغيير مفوضية الانتخابات التي اختيرت من القضاة. وقبل ذلك كله أُقيلت حكومة عادل عبد المهدي، وأُتي بالكاظمي رئيساً للوزراء في «مرحلة انتقالية» أهم ما فيها التعهُّد بإجراء انتخابات مبكّرة، فضلاً عن الكشف عن قتلة المتظاهرين وحصر السلاح بيد الدولة. إلا أن الكتل السياسية التي قدّمت للكاظمي دعمها أثناء تكليفه بتشكيل الحكومة... تراجع معظمها عن دعمه تحت مختلف التبريرات. لكن الكاظمي واصل العمل بما توافر لديه من أدوات بفضل تأييد بعض القوى السياسية المؤمنة باستمرار مسار الدولة، حتى لو كانت لديها خلافات مع الحكومة وجهازها التنفيذي.
خلال فترة السنة ونصف السنة التي أمضاها مصطفى الكاظمي رئيساً لوزراء العراق، يمكن القول، طبقاً لأوصاف المراقبين السياسيين، إن هناك «تكاملاً» في الأداء بينه وبين رئيس الجمهورية. وفيما بدا أن الرجلين يتبادلان الأدوار في السياستين الخارجية والداخلية، فإن النتيجة التي انتهت بها الأوضاع، أكدت هذا «التكامل» لدى اتجاه البلاد إلى خوض الانتخابات قبل أيام على تحوّل الحكومة إلى «حكومة تصريف أعمال»، بعد حلّ البرلمان نفسه في السابع من الشهر الحالي.
لقد استقبل العراق في الشهر الثالث من هذا العام بابا الفاتيكان عبر حدث بدا استثنائياً شاهده العالم أجمع. ونجحت الزيارة، وكانت الترتيبات البروتوكولية متميزة حتى في طريقة الاستقبال والفعاليات بين رئيسي الجمهورية والوزراء. وخلال يونيو (حزيران) الماضي، استضاف العراق القمة الثلاثية بين العراق ومصر والأردن التي بدت خطوة مهمة على صعيد إعادة العراق إلى محيطه العربي، بعد قطيعة طالت لأكثر من عقد ونصف العقد. ومع نهاية أغسطس (آب) الماضي، استضاف العراق أهم حدث إقليمي خلال السنوات الماضية، حين استضاف مؤتمر «بغداد للتعاون والشراكة»، الذي شاركت فيه دول الجوار العراقي فضلاً عن بعض الدول الإقليمية، بجانب فرنسا التي مثّلها رئيسها إيمانويل ماكرون. وعلى الأثر، ظهر الأداء العراقي مختلفاً مقارنة بالفترة الماضية، وبدا العراق مؤهلاً بالفعل للعب دور متميز في العلاقات الإقليمية والدولية خلال المرحلة المقبلة، وهي الأخطر في الشرق الأوسط.
الرئيس صالح حرص، عبر كلمته في الأمم المتحدة وفي مقابلته مع «سي إن إن»، على تحديد أهم المخاطر التي تواجهها المنطقة، والحلول التي تقترحها بغداد. وداخلياً، كما حاول صالح تقديم رؤى وتصورات لمستقبل المنطقة من دون التفكير بما إذا كان سيعود لدورة ثانية أم لا، استكمل الكاظمي كل مستلزمات إجراء الانتخابات، ومعها عقد الاتفاقيات مع الأشقاء والأصدقاء، من دون التفكير في أن عمر حكومته الافتراضي كحكومة انتقالية انتهى.
- رؤى وتصورات
قال برهم صالح من على منصة الأمم المتحدة إن «تحقيق السلام في المنطقة لن يتم من دون عراق آمن ومستقر بسيادة كاملة». وشدد على أن «إعادة العراق لدوره المحوري في المنطقة يستدعي دعماً إقليمياً ودولياً وإنهاء تنافسات وصراعات الآخرين على أرضنا».
ثم دعا صالح إلى «تشكيل تحالف دولي لمحاربة الفساد واسترجاع الأموال المنهوبة، على غرار التحالف الدولي ضد الإرهاب»، مضيفاً إنه «لا يمكن القضاء على الإرهاب إلا بإنهاء الفساد بوصفه اقتصاداً سياسياً للعنف والإرهاب... فالفساد والإرهاب مترابطان ومتلازمان ومتخادمان، ويديم أحدهما الآخر».
وفي سياق رؤيته لطبيعة التحديات التي تواجه المنطقة اهتم رئيس الجمهورية بالتعبير عن طبيعة ما يواجه المنطقة التي هي باتت بأمس الحاجة «إلى التعاون والعمل على خطط بناء البنية التحتية وتوسيع ودمج اقتصاداتنا ومكافحة تغير المناخ، والعمل على تلبية متطلبات سكاننا من الوظائف وتعليم جيد ورعاية صحية أفضل، ولا يمكنك الانتظار حتى يقوم الآخرون بحل هذا من أجلنا، علينا أن نعمل عليها بأنفسنا. العراق كان ساحة للصراع الإقليمي والدولي بأموال العراقيين وأرواحهم، ويجب أن تنتهي هذه الحالة».
وفي مقابلته مع «سي إن إن»، رسم صالح صورة لمن يتصدى بعد الانتخابات لقيادة العراق قائلاً إن «عدد سكان العراق الآن 40 مليون نسمة، وفي 2050 سيصبح نحو 80 مليون نسمة، ونفس الحال مع كل دول المنطقة التي تشهد تزايداً في السكان. وقد لا نستطيع إيجاد الوظائف للأجيال القادمة إذا استمرت الديناميكية الحالية من الصراعات في المنطقة، وهذا ينطبق أيضاً على إيران والأردن ومصر وباقي الجيران».
- نسب المقاطعة والاقتراع
على صعيد آخر، في الانتخابات العراقية تجري المراهنة على نوعين من الجمهور، حسب طبيعة وموقف كل كتلة أو حزب سياسي؛ فثمة قوى وأحزاب تراهن على المشاركة العالية في الانتخابات المقبلة بوصفها الطريق الوحيد لتغيير المعادلة السياسية التي توقفت عند جمهور نسبته طوال الدورات البرلمانية الأربع الماضية ثابتة وتتراوح بين 20 و25 في المائة. بينما تراهن قوى وأحزاب على «تكلّم» الغالبية الصامتة من الناخبين التي تتعدى نسبتها 70 في المائة.
وبالعكس، طبقاً للخريطة السياسية العراقية منذ أول دورة برلمانية عام 2005، ترهن الكتل السياسية الحالية التي تتسيد المشهد السياسي، والأحزاب التي تمثلها، وجودها باستمرار النسب المتدنية من الاقتراع، أي أنه في حال بقيت النسبة بحدود 20 إلى 25 في المائة ستظل كبيرة فرص بقاء الكتل والزعامات الحالية (الشيعية والسنّية والكردية) ذاتها قائمة. وحتى بافتراض حصول تغيير، فإنه داخل الكتلة من المكوّن نفسه صعوداً أو نزولاً.
أما في حال تعدت نسبة الاقتراع حدود 30 أو40 أو 50 أو 60 في المائة، فإن الخربطة ستتبدل لجهة بروز قوى جديدة من شأنها تغيير المعادلة السياسية أو في الأقل إحداث شرخ كبير فيها لغير صالح الأحزاب المتنفذة. ولذا، بينما تسعى الأحزاب المتنفذة لضمان المقاطعة الجماهيرية حفظاً لوجودها، فإن القوى الداعمة للتغيير تعمل على المشاركة الجماهيرية الواسعة بوصفها السبيل الوحيد لإقصاء الأحزاب والكتل الحالية.
ومعلوم أن الانتخابات المبكرة أُقِرّت بناء على الحراك الجماهيري الذي أخذ تسميات عديدة، منها «انتفاضة تشرين» (أكتوبر) عام 2019 أو «تظاهرات تشرين» أو «ثورة تشرين»، فصار ممثلو هذا الحراك - الذي راح ضحيته نحو 600 قتيل وأكثر من 24 ألف جريح - يسمّون «التشارنة». وفي المقابل، لقّبت أحزاب السلطة المهيمنة على القرار السياسي في العراق المنتفضين بـ«الذيول» و«أبناء السفارات»، متهمة إياهم بالانتماء إلى الخارج، مع أن الشعار الوحيد الذي رفعه المتظاهرون في بغداد والمحافظات الوسطى والجنوبية هو: «نريد وطناً». ثم إنه، رغم كل عمليات الخطف والاغتيالات والمطاردات التي مورست ضد المنتفضين، فإنهم تمكنوا من فرض معادلة جديدة تمثلت في إسقاط الحكومة السابقة (حكومة عادل عبد المهدي) وتغيير قانون الانتخابات من الدائرة الواحدة إلى الدوائر المتعددة، وكذلك مفوضية الانتخابات، بجانب إجبار السلطة على إجراء الانتخابات مبكرة.
ولقد وفر رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، الذي جاء على وقع تلك الاحتجاجات، الأرضية المناسبة لإجراء الانتخابات ومحاولة تسهيل عملية تغيير المعادلة السياسية، الأمر الذي دفع الكتل والأحزاب المتضررة من سياساته، إلى شن حملات إعلامية عليه وعلى فريقيه الحكومي والاستشاري، حاولت تحميلهم تبعات 18 سنة من الفشل المتراكم في العديد من المجالات والميادين.
- السيستاني يدعم التغيير
من ناحية أخرى، قبل أيام أعلنت المرجعية الشيعية العليا في النجف إنها ستعاود خطب الجمعة بدءًا من يوم أمس (الجمعة)، بعد توقف دام نحو سنتين نتيجة لتفشي وباء «كوفيد - 19». وكما فرح كثيرون بالقرار، فإنه قوبل بفتور من قبل عدد من القوى والأحزاب التي تدعي أنها تسير على خط المرجعية، لكنها لا تنفذ ما تطرحه من تعليمات أو إرشادات. وطبقاً لمراقبين، فإن السبب الذي جعل المرجعية تعيد خطبة الجمعة - قبل أسبوعين من الانتخابات - هو إدراكها أن الأحزاب والقوى التقليدية تعمل على زرع اليأس في نفوس المواطنين كي لا يتوجهوا إلى مراكز الاقتراع... بسبب خشية هذه القوى من خسارة مزيد من مقاعدها في مجلس النواب، وبالتالي نفوذها وامتيازاتها. لكن المفاجأة التي جاءت من النجف، ومن مرجعية السيد علي السيستاني بالذات، هي صدور تعليمات عن مكتبه، منذ يوم الأربعاء الماضي. وطبقاً للبيان الصادر عن المرجعية، فإنها «تشجّع الجميع على المشاركة الواعية والمسؤولة في الانتخابات القادمة، فإنها وإن كانت لا تخلو من بعض النواقص، ولكنها تبقى هي الطريق الأسلم للعبور بالبلد إلى مستقبل يُرجى أن يكون أفضل مما مضى، وبها يتفادى خطر الوقوع في مهاوي الفوضى والانسداد السياسي». وأضاف البيان أن «على الناخبين الكرام أن يأخذوا العِبَر والدروس من التجارب الماضية، ويعوا قيمة أصواتهم ودورها المهم في رسم مستقبل البلد، فيستغلوا هذه الفرصة المهمة لإحداث تغيير حقيقي في إدارة الدولة وإبعاد الأيادي الفاسدة وغير الكفؤة عن مفاصلها الرئيسة، وهو أمر ممكن إن تكاتف الواعون وشاركوا في التصويت بصورة فاعلة وأحسنوا الاختيار، وبخلاف ذلك فسوف تتكرر إخفاقات المجالس النيابية السابقة والحكومات المنبثقة عنها، ولات حين مندم».
كذلك أكدت المرجعية، كما قبيل الانتخابات الماضية، من أنها لا تساند أي مرشح أو قائمة انتخابية على الإطلاق، وأن الأمر كله متروك لقناعة الناخبين وما تستقر عليه آراؤهم. ونبّهت أيضاً إلى أهمية التدقيق في سِيَر المرشحين في دوائرهم الانتخابية كي لا ينتخبوا منهم إلا الصالح النزيه، الحريص على سيادة العراق وأمنه وازدهاره.
- أربيل... ومفاجأة التطبيع مع إسرائيل!
> بينما كانت أربيل، عاصمة إقليم كردستان العراق، تتأهب للبدء باستقبال الوفود السياسية الوافدة إليها بعد إجراء الانتخابات المرشحة لرسم ملامح الخريطة السياسية المقبلة، شهدت المدينة عقد مؤتمر دعا للتطبيع مع إسرائيل.
المؤتمر الذي جرى الإعلان عنه بوصفه «مؤتمراً للتطبيع مع إسرائيل» عُقد في أحد فنادق المدينة، وضم نحو 300 شخصية، بمن فيهم نجل الرئيس الإسرائيلي الأسبق شمعون بيريس، بدا مفاجئاً بكل المعايير. وفي حين أن وزارة الداخلية في إقليم كردستان أعلنت عدم علمها وموافقتها على عقد المؤتمر في أربيل، لكن البيان الختامي للمؤتمر، الذي دعا إلى التطبيع علناً، والانضمام إلى «اتفاقات إبراهيم» أثار ردود فعل غاضبة في بغداد.
بيان المؤتمر الختامي، الذي تلاه وسام الحردان رئيس «صحوة العراق»، وجّه طلباً للعراق عامة بالدخول في علاقات مع إسرائيل وشعبها. وبينما رحَّب وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لبيد، بدعوة تجمع عراقي للتطبيع مع بلاده، ووصف الحدث بأنه «يبعث على الأمل»، جاء رد الحكومة العراقية في بيان شديد اللهجة صادر عن مكتب رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، وفيه رفضت بشدة مثل هذه المحاولات.
وجاء في البيان أن «الحكومة العراقية تعرب عن رفضها القاطع للاجتماعات غير القانونية، التي عقدتها بعض الشخصيات العشائرية المقيمة في مدينة أربيل بإقليم كردستان، من خلال رفع شعار التطبيع مع إسرائيل». وأردف أن «هذه الاجتماعات لا تمثل أهالي وسكان المدن العراقية العزيزة، التي تحاول هذه الشخصيات بيأس الحديث باسم سكانها، وأنها تمثل مواقف من شارك بها فقط، فضلاً عن كونها محاولة للتشويش على الوضع العام وإحياء النبرة الطائفية المقيتة، في ظل استعداد كل مدن العراق لخوض انتخابات نزيهة عادلة ومبكرة، انسجاماً مع تطلعات شعبنا وتكريساً للمسار الوطني الذي حرصت الحكومة على تبنيه والمسير فيه».
كذلك، ذكر البيان أن «طرح مفهوم التطبيع مرفوض دستورياً وقانونياً وسياسياً في الدولة العراقية، وأن الحكومة عبّرت بشكل واضح عن موقف العراق التاريخي الثابت الداعم للقضية الفلسطينية العادلة، والدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني، وفي مقدمتها حقه بدولة مستقلة عاصمتها القدس الشريف، ورفض كل أشكال الاستيطان والاعتداء والاحتلال التي تمارسها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني الشقيق».
من جهتها، أعلنت الرئاسة العراقية رفضها لمخرجات مؤتمر أربيل. وقال بيان رئاسي إنه «في الوقت الذي تؤكد فيه رئاسة الجمهورية موقف العراق الثابت والداعم للقضية الفلسطينية وتنفيذ الحقوق المشروعة الكاملة للشعب الفلسطيني، فإنها تجدد رفض العراق القاطع لمسألة التطبيع مع إسرائيل، وتدعو إلى احترام إرادة العراقيين وقرارهم الوطني المستقل».
وأضاف البيان الرئاسي: «تؤكد رئاسة الجمهورية أن الاجتماع الأخير الذي عُقد للترويج لهذا المفهوم لا يمثّل أهالي وسكان المدن العراقية، بل يمثّل مواقف من شارك بها فقط، فضلاً عن كونه محاولة لتأجيج الوضع العام واستهداف السلم الأهلي».
ودعت الرئاسة العراقية، من ثم، إلى «الابتعاد عن الترويج لمفاهيم مرفوضة وطنياً وقانونياً، وتمس مشاعر العراقيين، في الوقت الذي يجب أن نستعد فيه لإجراء انتخابات نزيهة وشفافة تدعم المسار الوطني في العراق وتعيد لجميع العراقيين حياة حرة كريمة».
في أي حال، فإن مؤتمر أربيل عقّد المشهد السياسي كثيراً، لا سيما أن الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني كان قد عقد عدة اتفاقيات مع زعامات شيعية من أجل التحالفات في فترة ما بعد الانتخابات، الأمر الذي قد يخلّف تداعيات بسبب استضافة أربيل - معقل بارزاني - لهذا المؤتمر، رغم إعلانها رفض تبني مخرجاته.
هذا، ولم يقف الأمر عند حد رفض كل الكتل والأحزاب والقيادات العراقية ما حصل في أربيل؛ إذ أصدر القضاء العراقي مذكرات قبض بحق عدد من المشاركين في المؤتمر - الذي حمل اسم «السلام والاسترداد» - ما دفع عدداً كبيراً من الشخصيات المشاركة فيه إلى التراجع والاعتذار. ولقد شملت حملة التنصّل من المؤتمر والتبعات الناجمة عنه النائب السابق في البرلمان العراقي، مثال الآلوسي، الذي كان أول سياسي ونائب عراقي يزور إسرائيل علناً بعد سنة تقريباً من سقوط النظام السابق بعد الغزو الأميركي للعراق. ولقد أصدر القضاء العراقي مذكرة قبض بحق الألوسي، بينما هو يقيم حالياً في ألمانيا لإجراء عملية جراحية، طبقاً لما أعلنه. ومع أن الآلوسي كرّر «إيمانه بالتطبيع ودعوته لإقامة علاقات مع إسرائيل»، فإنه نفى علاقته بأي حال من الأحوال بالمؤتمر المذكور.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.