«مهرجان الإسكندرية» يحتفي بمئوية 4 سينمائيين مصريين راحلين

القائمة ضمّت كمال الشناوي ومحمد رضا وعاطف سالم ورمسيس نجيب

المخرج عاطف سالم - المنتج رمسيس نجيب - الفنان كمال الشناوي - الفنان محمد رضا
المخرج عاطف سالم - المنتج رمسيس نجيب - الفنان كمال الشناوي - الفنان محمد رضا
TT

«مهرجان الإسكندرية» يحتفي بمئوية 4 سينمائيين مصريين راحلين

المخرج عاطف سالم - المنتج رمسيس نجيب - الفنان كمال الشناوي - الفنان محمد رضا
المخرج عاطف سالم - المنتج رمسيس نجيب - الفنان كمال الشناوي - الفنان محمد رضا

يحتفي مهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط خلال دورته الـ37 الجارية، بذكرى مئوية ميلاد أربعة من كبار السينمائيين المصريين الذين أثروا الشاشة بإبداعاتهم في مجال التمثيل والإخراج والإنتاج، وتركوا بصمات واضحة في تاريخ السينما المصرية، عبر رصيد ضخم من الأفلام المهمة، وهم: النجم الكبير كمال الشناوي، والفنان محمد رضا (الشهير بالمعلم رضا)، والمخرج عاطف سالم، والمنتج رمسيس نجيب، الذين جمعهم الميلاد في عام 1921، ويقيم المهرجان ندوات خاصة عنهم، إلى جانب إصداره كتباً مستقلة عن مسيرة كل منهم.

- الدونجوان كمال
الفنان كمال الشناوي (26 ديسمبر «كانون الأول» 1921 - 22 أغسطس «آب» 2011) يعد أحد كبار نجوم السينما المصرية، وصاحب الإنجاز السينمائي الكبير (نحو مائتي فيلم) بخلاف المسلسلات التليفزيونية والإذاعية. تخرج في كلية التربية الفنية، وعمل في بداية حياته مدرساً للرسم بإحدى المدارس، قبل أن يتجه للتمثيل، حتى كتب وأنتج وخاض تجربة الإخراج في فيلم واحد «تنابلة السلطان» ولم يكررها.
وبعد مشاركته في فيلم «غني حرب» عام 1947 للمخرج نيازي مصطفي، ذاع صيته كممثل قادم بقوة إلى نجوم الصف الأول فتعاقد على فيلمين آخرين في العام نفسه هما «عدالة السماء»، و«حمامة سلام»، ليُعتمد بطلاً سينمائياً يلعب أدوار «الدونجوان»، ويصبح النجم المفضل لدى المخرجين والمنتجين بعدما أقبل الجمهور على أفلامه فحطم الرقم القياسي الذي يصوّره ممثل في العام الواحد، وكان يصور ما بين سبعة وعشرة أفلام على مدى ما يقرب من عشرين عاماً، وهو معدل كبير لم ينافسه فيه سوى إسماعيل يس وفريد شوقي، وحسب الناقد د.وليد سيف مؤلف كتاب «الدونجوان والشرير والكوميديان»، فإن كمال الشناوي امتلك مواصفات شكلية أهّلته لهذه المكانة بملامحه الوسيمة وقسمات وجهه المثالية، كأنها مرسومة بدقة وإحكام، وتكوينه الجسدي المعتدل، ورشاقته الحركية، إلى جانب موهبته وقدرته على تجسيد أدوار الفتى الأول بتمكن واقتدار، في ظل تقدم أنور وجدي في العمر.
وقدم الشناوي أفلاماً مع نجمات السينما المصرية من بينهن فاتن حمامة ومريم فخر الدين وتحية كاريوكا وكاميليا، غير أن الفنانة شادية كانت أكثر ممثلة شاركته بطولة أفلامه، حيث كوّنا ثنائياً فنياً في 32 فيلماً من بينها «ليلة الحنة، قلوب العذارى، ارحم حبي، زقاق المدق»، و«المرأة المجهولة» الذي يعد نقطة تحول في مسيرته الفنية، مثلما برع أيضاً في تقديم أدوار كوميدية على غرار «سكر هانم».

- المعلم رضا
أما الفنان المصري الراحل محمد رضا (21 ديسمبر 1921 - 21 فبراير «شباط» 1995)، والذي وصفه الكاتب الراحل محمود السعدني بأنه «أعظم المضحكين والمعلم الأول والأخير في السينما المصرية»، فقد اشتهر بأدوار «ابن البلد» التي قدمها عبر مسيرته الفنية، ووصل بها إلى أن أصبح نجم شباك بعدما حقق جماهيرية كبيرة. وُلد رضا في محافظة أسيوط بصعيد مصر، وحصل على دبلوم الهندسة التطبيقية، ثم اتجه لدراسة المسرح بمعهد التمثيل، وبدأ بالتمثيل المسرحي، لكن كان فيلم «زقاق المدق» نقطة تحول كبيرة في مشواره حيث برع في أداء شخصية (المعلم كرشة) وساعدته ملامحه الجسمانية على ذلك.
وحسبما يؤكد الناقد طارق مرسي مؤلف كتاب «معلم السينما المصرية» لـ«الشرق الأوسط» فإن الفنان الراحل رغم نجاحه في تقديم شخصية المعلم التي التصقت باسمه، فإنها كانت بعيدة عن طموحه الفني، بل إنه لم يكن راضياً عن تقديمها –رغم إخلاصه في تجسيدها- وحاول الهروب منها، حيث كان يحلم بتجسيد شخصية الفتى الوسيم، لكن استسهل المخرجون الشخصية واستسلم هو لشخصية المعلم، لكنه رفض أن يكون حبيس الشكل الواحد، وقرر أن ينوّع فيها بطريقته، لدرجة أنه تحول إلى ماكيير ومصمم ملابس لنفسه، وكاتب سيناريو لبعض الوقت، ومبتكر للإفيهات فيها، مع الاحتفاظ بملامحها الشعبية حتى صار ملكاً للإفيهات، وارتبط الفنان الراحل بالفنان الكبير فريد شوقي الذي آمن بموهبته وجمعتهما صداقة وطيدة، وقدما معاً نحو 23 فيلماً، كانت بدايتها في فيلم «فتوات الحسينية» من إخراج نيازي مصطفى، وتوالت في أفلام: «جعلوني مجرماً، بورسعيد، سواق نص الليل، مطلوب زوجة فوراً، 30 يوم في السجن».
وشهدت فترة السبعينات نجاحاً أكبر في مشوار الفنان محمد رضا والتي مثّل فيها نحو خمسين فيلماً من بينها «رضا بوند 1969» الذي قدمه أولاً في الإذاعة وحقق نجاحاً كبيراً ما جعل المنتجين يتهافتون على تحويله لفيلم لعب بطولته أمام صفاء أبو السعود وشويكار وعادل إمام في بداياته الفنية. ليحقق نجاحاً مماثلاً في السينما مع فيلم «عماشة في الأدغال» الذي قدمه كمسلسل إذاعي وكان نجاحه الكبير دافعاً لتحويله إلى فيلم سينمائي أيضاً.

- عاطف سالم
وقدم المخرج عاطف سالم (23 يوليو «تموز» 1921 – 30 يوليو 2002) عبر مشوار سينمائي بلغ خمسين عاماً 53 فيلماً سينمائياً، يعد بعضها من كلاسيكيات السينما المصرية، على غرار فيلم «جعلوني مجرماً» 1954 بطولة فريد شوقي، والذي أدى إلى تغيير في القانون لإسقاط الجريمة الأولى عن المتهم، وسبقه فيلم «الحرمان» كأول أفلامه، غير أن النجاح الطاغي الذي حققه فيلم «جعلوني مجرماً» وضع عاطف سالم في مكانة مميزة بين مخرجي جيله، وتوالت أفلامه التي فجّرت قضايا اجتماعية وسياسية عديدة ومنها «إحنا التلامذة» 1959، و«صراع في النيل» 1959، و«يوم من عمري» 1961، و«الحقيقة العارية» 1963، و«خان الخليلي» وغيرها.
ووفقاً للناقد طارق الشناوي مؤلف كتاب «جعلوني مخرجاً»، فإن مئوية المخرج عاطف سالم «تدفعنا لإعادة تأمل مشواره الفني الذي يستحق الكثير من الحفاوة والتقدير، هذا الفنان الكبير لم ينل في الحقيقة ما يستحقه، وأتمنى أن نعيد تقييم الكثير عن مسيرته، فهو لم يكن أبداً ممن تُفتح لهم مساحات في الميديا، ولم يحصل على جائزة الدولة التقديرية التي نالها أقرانه، فقط كان من نصيبه جائزة التفوق، وأنا أرى أن بقاءه في ميدان الإخراج كل هذا الزمن شهادة أخرى تؤكد قدرته على هضم المفردات الحديثة في التعبير والإيقاع الجديد في الإخراج».

- مكتشف النجوم
لُقب المنتج السينمائي المصري رمسيس نجيب (8 يونيو «حزيران» 1921 - 4 فبراير 1977) بـ«مكتشف كبار النجوم في السينما المصرية»، والذين من بينهم محمود يس، ونادية لطفي، ولبنى عبد العزيز، ونجلاء فتحي، وحسن يوسف، وصفية العمري، ومحمود عبد العزيز، ومحمود قابيل، وغيرهم ممن دفع بهم وقدمهم في بطولات مهمة مثلما ساند أيضاً بأفلامه التي أنتجها خطوات كلٍّ من فاتن حمامة وسعاد حسني.
دخل رمسيس نجيب السينما كعامل باستديوهاتها، ثم مساعداً للإنتاج، كما عمل مديراً للإنتاج عبر أكثر من 65 فيلماً لكبار المخرجين مما أكسبه خبرات واسعة، وكان رجلاً وأقام كياناً سينمائياً ضخماً أنتج من خلاله 41 فيلماً، بدءاً من «الزوجة العذراء» عام 1958، ومروراً بأفلام «أنا حرة، غرام الأسياد، وإسلاماه، الزوجة الثانية، القضية 68، بئر الحرمان، شيء في صدري، كرامة زوجتي، إمبراطورية ميم، الرصاصة لا تزال في جيبي، اذكريني»، وانتهاءً بـ«وادي الذكريات»، كما خاض تجربة الإخراج في أفلام «هدى، بهية، غرام الأسياد».
وكما يقول الناقد أشرف غريب مؤلف كتاب «رمسيس نجيب... الأوراق الخاصة» لـ«الشرق الأوسط»، فإن «الاحتفال بالمئويات تقليد ينفرد به مهرجان الإسكندرية السينمائي، إذ سبق له الاحتفال بمئوية أحمد مظهر، ومحمد فوزي، ومدير التصوير عبد العزيز فهمي في الدورات الماضية، ففي كل عام يكون هناك احتفاء بعدد من نجوم السينما، وهذا الاحتفاء ينعش الذاكرة السينمائية، ويعرّف أجيالاً حديثة بأسماء وقامات وقيم فنية مهمة جداً».
ويضيف: «لم تحتفِ أي جهة في مصر بالمنتج الكبير رمسيس نجيب سوى مهرجان الإسكندرية رغم أنه أحد أكبر الأسماء في تاريخ السينما المصرية، وهو مَن حقق النجومية للمنتج بعد أن كانت كل الأضواء تذهب للممثل وللمخرج، كما أنه اكتشف قائمة كبيرة من الممثلين، وقدمهم في أفلام مهمة في تاريخ السينما المصرية».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)