يرصد الباحث المصري أسامة الفرماوي تجليات العين ودلالتها المتنوعة المرتبطة بالمأثور الشعبي والعادات الاجتماعية، وذلك في كتابه «النظرة في المأثور الشعبي المصري»، الصادر أخيراً عن هيئة قصور الثقافة بمصر.
ويرى الباحث أن هذا المأثور يعتبر العين مصدراً محتملاً للحسد، تضرب به الأمثال الشعبية كنذير للشؤم والشر، وهو «ما جعل العين بمثابة أسطورة خاصة، انعكست على مجريات الحياة، وعلى فنون الأدب وبخاصة الشعر».
ومن أشهر روافد هذا المعتقد تاريخياً «عين حورس» في الأسطورة الأوزيرية الفرعونية الشهيرة، وصراع «حورس» ابن إيزيس مع عمه الشرير ست الذي قتل والده أوزوريس، ووزع جسده في أنحاء البلاد، كما سرق من حورس عينه وهو صبي، لكنه استردها وثبتها في جبهته، وانتصر عليه وقتله في معركة كبيرة، استقرت بعدها البلاد ونعمت بالرخاء، بينما استطاعت إيزيس أن تلملم أعضاء جسد زوجها وتعيد إليه الحياة.
- الخرزة الزرقاء
اتسمت عين حورس بالزرقة، ولهذا يتفاءل المصريون بهذا اللون، وانتشر الخرز والقلائد الزرقاء التي قلما تخلو منها مرآة السيارة الأمامية كنوع من درء الحسد وطرد العين الشريرة خاصة لو كانت جديدة.
وهناك عادات شعبية يرى الناس في ممارستها والحفاظ عليها وقاية لهم ولأشيائهم من الحسد مثل إمساك الخشب، فيقال «أمسكوا الخشب» كتميمة اجتماعية عندما يأتي الإنسان فعلاً لا يتناسب وقدراته البدنية أو العقلية بشكل مدهش، فيلمس الحضور أي قطعة من الخشب تعبيراً على التعجب من إتيان هذا الفعل، وهناك «التخميس» في وجه الحاسد فيقال له «خمسة وخميسة» مع التلويح بأصابع اليد الخمسة.! وقد يلجأ الميسورون إلى ذبح ذبيحة وطبع كف بدم الذبيحة على جانبي باب البيت في عيد الأضحى أو عند عمل «عقيقة» للمولود أو نذر عندما ترضع الأم وليدها فتحرص على عمل جراب من القماش غير الشفاف أو من الجلد لإخفاء الكمية التي يرضعها الطفل عن أعين الناس.
وكثيرا ما يلجأ البسطاء في الأرياف إلى إطلاق اسم مؤنث على المولود الذكر إذا كانت السيدة امرأة ولوداً، أي لها أكثر من مولود ذكر. وفي إطار الحيل الشعبية يتم إطلاق اسم مغاير للمولود، فإذا وقع الحسد يقع على الشخص الآخر.
وتقوم الأم بحماية صغارها من الحسد بأن تُلبس الولد ملابس البنت وتلبس البنت ملابس الولد، خاصة في فترة ما بعد الولادة. وهنالك من يحرق البخور لطرد العين والأرواح الشريرة من البيت، وغالباً يتم هذا تبركاً قبل صلاة الجمعة.
- الحسد عند أمير الشعراء
وإذا كان الشاعر الأموي المخضرم بشار بن برد، الذي ولد أعمى قد انتصر للأذن في مواجهة العين شعرياً، وذلك عبر بيته الشهير: «يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة/ والأذنُ تعشق قبل العين أحياناً»، فإن أمير الشعراء أحمد شوقي في قصيدته «الأسد والثعلب والعجل» التي تخاطب الناشئة بالأساس، دفع بالموضوع أبعد من مفارقات البشر في التشاؤم والتفاؤل، فيعالج موضوع الحسد والعين شعرياً عبر مكر الثعلب الذي اتخذه وسيلة للإيقاع بالعجل الغبي:
نَظَرَ اللَيثُ إِلى عِجلٍ سَمين
كانَ بِالقُربِ عَلى غَيطٍ أَمين
ويلفت الكتاب إلى أنه بتحليل مضمون الأمثال والتعبيرات الشعبية نلاحظ أن الأرقام لها دلالات تنبع من الواقع الاجتماعي والظروف الاقتصادية والدينية للمجتمع. ويظل الحسد قاسماً مشتركاً في التعبير عن هذا المعتقد «العين الرديّة لا يملأها إلا التراب»، وقد ذكر الحسد 18 مرة والعين 9 مرات في سياق تلك الأمثال.
وقد أدى هذا الموروث الثقافي إلى عزل الأشياء المهمة في الخفاء مخافة من العين. ويعدد الشعبي أوصاف هذه العين فهي: مستديرة مثل السم، نارية لأنها تأتي من جهنم، حادة وتصيب في مقتل!
وفي التراث الشعري العربي نجد الحسد والعين حاضرين بقوة. ويستشهد الباحث بأبيات شهيرة لأبي تمام:
وَإِذا أَرادَ اللَهُ نَشرَ فَضيلَة
طُوِيَت أَتاحَ لَها لِسانَ حَسود
لَولا اِشتِعالُ النارِ فيما جاوَرَت
ما كانَ يُعرَفُ طيبُ عَرفِ العودِ
ويقول أبو الأسود الدوؤلي:
حَسَدوا الفَتى إِذ لَم يَنالوا سَعيهُ
فَالقَومُ أعداءٌ لَهُ وَخُصومُ
كَضَرائِرِ الحَسناءِ قُلنَ لِوَجهِها
حَسداً وَبَغياً إِنَّهُ لَدَميمُ
وَالوَجهُ يُشرُقُ في الظَلامِ كَأَنَّهُ
بَدرٌ مُنيرٌ وَالنِساءُ نُجومُ
وفي السياق نفسه، يقول أبو العلاء المعري:
الملكُ لله، لا تنفكُّ في تعبٍ
حتى تزايَل أرواحٌ وأجسادُ
ولا يُرى حيوانٌ لا يكونُ له
فوقَ البَسيطة أعداءٌ وحسادُ
وفي أشعار الإيطالي دانتي أليغيري، هناك أبيات كثيرة تتوعد الحاسدين وتحذر منهم مثلما ورد في تلك الأنشودة:
قلت أي أصوات هذه يا أبتاه؟
وفيما كنت أسأل
إذا بصوت ثالث يقول:
أحبوا من ينالكم بالضر!
فقال معلمي الطيب:
بالسوط نلهب هذه الدائرة
من مرتكبي خطيئة الحسد