أسرة مصرية تبدع «البورتريه» على أرصفة القاهرة الخديوية

في مشهد لا يزال يثير مشاعر متفاوتة لدى المارة، تنطلق عادة من الفضول والاندهاش والتساؤل، لتتطور إلى الإعجاب والتقدير، تجلس الشابة لبنى بجوار والدها الرسام مصطفى أحمد، الذي تجاوز عمره السبعين عاماً.
على أحد أرصفة شارع شريف الشهير في وسط القاهرة الخديوية، وأمام كل منهما لوحته، يرسمان «البورتريه» للزبائن في هدوء، ولا يقطع حالة التركيز الفني والتوحد مع إطارات اللوحة سوى الرد على تحية الجيران من سكان المنطقة، أو الإجابة على أسئلة المارة، وهو أمر تعود عليه الأب، فهو يجلس في المكان ذاته منذ أكثر من ثلاثين عاماً، حتى تحول إلى جزء من الشارع وتراثه وشخصيته، غير أنّ الابنة ما تزال تتورد وجنتاها خجلاً من كلمات الإطراء.
يشكل الأب الذي يلقبه أهالي المنطقة بـ«الفنان» والابنة لبنى والابن محمود، الذي احترف فن «البورتريه» أيضاً، بعد سنوات من جلوسه مع والده لمساعدته في بعض المهام الصغيرة، حالة فنية اجتماعية لافتة، تحولت إلى جزء من شخصية وسط العاصمة وبناياتها التراثية.
مصطفى الذي تخرج في كلية الحقوق بجامعة عين شمس عام 1979. لم يعمل في المحاماة سوى فترة صغيرة، قرر بعدها احتراف الرسم. يتبادل الجلوس في مكانه مع نجليه محمود الذي ظل سنوات يساعده خلال عمله حتى احترف الرسم، والابنة لبنى، التي بدأت مشاركته الرسم في الشارع خلال السنوات الأخيرة، وأحياناً يجتمع الثلاثة معاً، يجلسون وأمام كل منهم لوحته. لكن في الغالب يجلس الأب والابنة معاً معظم الوقت، بينما يجلس الابن في فترات أخرى.
يقول مصطفى أحمد لـ«الشرق الأوسط»: «ولداي يحترفان الرسم. كان محمود يشاركني الجلوس في الشارع منذ كان صبياً، وبدأت لبنى تنزل معي في السنوات الأخيرة، وقد بدأت ألاحظ موهبتهما وهما طفلان، وذات يوم كنت مريضاً ولدي الكثير من اللوحات المتأخرة، وفوجئت أنّهما جلسا في المنزل وقسما العمل بينهما، وأنهى كل منهما عدداً من اللوحات وأنا نائم».
يتنوع الزبائن بين المصريين والعرب والأجانب، فالشباب والشابات يطلبون رسم صور حبيباتهم، وأحياناً الأزواج يرغبون في رسم زوجاتهم، وتمثل المناسبات المختلفة كما يقول الأب: «فرصة لرسم بورتريه بالفحم أو الزيت وتقديمه هدية، في أعياد الميلاد، أو أي مناسبة خاصة، بينما يطلب بعض الأبناء رسم صور لأمهاتهم، والكثير من النساء يحرصن على رسم صور أطفالهم الصغار، وما زال الكثير من الزبائن يطلبون رسم صور بعض الشخصيات التاريخية، مثل جمال عبد الناصر، ويطلب فلسطينيون بورتريهات لياسر عرفات»، حسب مصطفى.
لم يكتف مصطفى برسم بورتريهات للزبائن من المارة، بل رسم بعض الفنانين وجهاً لوجه بناء على طلبهم، على غرار الفنان محمد عبد المطلب عام 1971: «كنت أجلس وقتها للرسم أمام دار الأوبرا، بجانب الفنان محمد قنديل وزوجته، حيث رسمت له صورة بالفحم وزيتية لزوجته، وكذلك المخرج كمال الشيخ، رسمته في مكتبه بوسط البلد عام 1975».
وتشكل الرغبة في احتراف أشكال أخرى من الفن التشكيلي، قاسماً مشتركاً بين لبنى ومحمود، إذ يسعى كل منهما لإقامة معرض فني قريباً، ويقول الابن الثلاثيني محمود مصطفى، خريج كلية الزراعة لـ«الشرق الأوسط»: «تعلمت كل شيء من والدي، وما زلت أحرص على رسم البورتريه في الشارع. فهو معرض مفتوح يلهمني الكثير من الأفكار التجريدية التي أعمل عليها حالياً، وأسعى لإقامة معرضي الخاص في وقت قريب».
بينما تأثرت لبنى مصطفى بدراستها للأدب اللاتيني، وحصلت على ليسانس الآداب في جامعة القاهرة عام 2012. ودرجة الماجستير عام 2018، وتقول لـ«الشرق الأوسط»: إنّ «رسم البورتريه في الشارع أعطاني الكثير من الخبرات، وصقل مهاراتي الفنية، وساعدني أبي كثيراً، وأثر في تكويني الفني، وسأستمر في رسم البورتريه لأنّي أحبه، وأحب وجوه البشر وتعبيراتها، غير أنّني أيضاً أرسم أشكالاً أخرى، وقد تأثرت طبعاً بدراستي، فأنا أحب الأساطير الإغريقية التي شكلت إلهاماً للعديد من الفنانين العالميين، ويبرز هذا التأثر في لوحاتي التي أستعد لإقامة معرض لها قريباً، ورغم ذلك، سيظل الشارع مصدر إلهام دائم لي».