«ليس سيئاً أبداً مقارنة رجل بمستشارة ناجحة»، هي جملة قالها أولاف شولتز مرشح الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) لمنصب المستشارية في ألمانيا، عندما اتُّهم بتقليد أنجيلا ميركل لكسب أصوات الناخبين. وعلى الرغم من أن الرجل لا ينتمي لحزب ميركل المحافظ، فإنه لا يتردد بتصوير نفسه على أنه امتداد لسياستها العامة.
خلال الحملة الانتخابية، نشر الاشتراكيون صوراً دعائية لشولتز وهو يجلس مبتسماً وينظر إلى الكاميرا، مع جملة عريضة تقول: «يمكن أن أكون مستشارة» مع تأنيث كلمة «مستشار» في إشارة إلى ميركل. بل إنه وقف أمام عدسة كاميرا مجلة «سود دويتشه تزايتونغ»، التي كانت تلتقط له صورة لنشرها إلى جانب مقابلة أجرتها معه، وحرص على أن تبدو يداه مجموعتين بشكل الماسة الشهيرة التي تجمع فيها ميركل يديها وتحولت إلى علامتها الخاصة.
هذه الاستراتيجية التي اعتمدها الاشتراكيون بتقديم مرشحهم الذي يشغل حالياً منصب وزير المالية ونائب المستشارة على أنه امتداد لميركل، يبدو أنها لاقت صدى إيجابياً لدى الناخبين الألمان. فهي استراتيجية نجحت في إعادة حزب عريق كان يغرق قبل أشهر قليلة، إلى طليعة السباق الانتخابي، وحوّلت حظوظه التي كانت شبه معدودة بالمشاركة في الحكم، إلى حظوظ وافرة بقيادة الحكومة المقبلة.
ومع ذلك فإن صعود شولتز، البالغ من العمر 63 سنة، فاجأ كثيرين، ودفع بالمحللين للتساؤل عن سر «سحر» هذا الرجل الذي لا يتمتع بأي «كاريزما»... حتى إنه اكتسب لقب «شولتز – أومات» ما يعني «الرجل الآلي» اقتباساً من كلمة «أوتومات» التي تعني في الألمانية الـ«آلي».
تلاحق أولاف شولتز طبعة «المرشح المملّ» الذي ينقصه البريق، والذي يقول القليل وينطق باللازم فقط. وحقاً، خلال المناظرات التي جمعته بالمرشحين المنافسين، كان هو دائماً الأقل كلاماً، ومع ذلك كان هو دائماً الفائر، حسب تقييم المشاهدين. لذا كان الأكثر إقناعاً وأكثر من يبعث على الثقة برأيهم.
المرشحان الآخران، أرمين لاشيت عن حزب ميركل، الاتحاد الديمقراطي المسيحي، وأنالينا بيربوك عن حزب «الخضر»، جربا في الواقع تكتيكات متعددة في كل مناظرة لكسب الأصوات التي خسراها. وانتقلا من اعتماد سياسة عرض أجندتيهما إلى الهجوم على شولتز، في حين بقي شولتز على ثباته ورصانته.
كان يعرض أفكار حزبه بالقليل من الكلام، من دون أن يتهجم على منافسيه، ويتحدث بثقة من خبرة اكتسبها كوزير للمالية قاد ألمانيا في واحدة من أصعب المراحل الاقتصادية وسط جائحة «كوفيد - 19» والفيضانات التي اجتاحت البلاد. وفي كل مرة بعد انتهاء المناظرة، كانت النتيجة إخفاق لاشيت وبيربوك في سحب أصوات من شولتز.
ثم إن شولتز لم يستفد فقط من منصبه كوزير للمالية لتقديم نفسه على أنه المرشح الذي يبعث على الثقة، بل استفاد أيضاً من إخفاقات منافسيه ومن الهفوات التي ارتكباها في بداية الحملة الانتخابية ودفعت الناخبين إلى فقدان الثقة بهما. ولقد جاء اعتماد شولتز على سياسة تصوير نفسه على أنه امتداد لميركل، بهدف سحب الناخبين المستائين من مرشح الديمقراطيين المسيحيين... إليه.
- «فضائح» قليلة التأثير
وقد نجح بذلك بالفعل ورفع درجة التأييد لحزبه إلى مستوى غير مسبوق منذ 16 سنة، ولم تفلح «الفضائح» التي ارتبط اسم شولتز بها في زعزعة ثقة الناخبين به. ذلك أنه خلال الأسبوع الماضي، نفذ عشرات من عناصر الشرطة مداهمة استهدفت وزارته بحثاً عن وثائق تتعلق بتبييض أموال يزعم مكتب المدعي العام أن الوزارة لم تمرّرها للسلطات التنفيذية للتحرك بناءً عليها. وطبعاً، أثار التوقيت استغراب البعض، بل دفع الاشتراكيين للكلام عن «دوافع سياسية» خلف المداهمات وتوقيتها.
مع هذا، لم يكترث كثيراً بهذه العملية على الرغم من أنها تأتي على خلفية فضيحة مالية أخرى تُعرف باسم «فضيحة وايركارد»، وهي أكبر فضيحة مالية تواجه ألمانيا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. ولقد فتح مجلس النواب الألماني (بوندستاغ) تحقيقاً في الفضيحة مطلع العام لمعرفة مدى تورّط شولتز بالقضية، نظراً لكون وزارته مسؤولة عن هيئة الرقابة المالية التي أخفقت في كشف عمليات الاحتيال الدائرة داخل الشركة، أو ساهمت بالتغطية عليها.
وللعلم، شركة «وايركارد» كانت شركة تؤمّن خدمات مالية أعلنت إفلاسها عام 2019 بعدما تبين أن قرابة ملياري يورو من أموال المودعين «مفقودة»، وأن الشركة واقعة في دين كبير. غير أن شولتز رفض اتهامه بالمسؤولية عن الفضيحة، وقال إنه تسلّم وزارة المالية فقط عام 2018 بينما كانت الشركة متورّطة بعمليات فساد قبل سنوات طويلة. وتابع في معرض دفاعه عن نفسه أنه أدخل إصلاحات على عمل الهيئة بعد «فضيحة وايركارد» لتعزيز دورها وعملها.
قد يكون تعقيد هذه الرواية سبباً في قلة اكتراث الناخبين بها. ثم إنها، في النهاية، لم تؤدِّ إلى استقالة شولتز من منصبه رغم اتهامه بالمسؤولية. والواقع أنها ليس المرة الأولى التي «يفلت» فيها شولتز من فضيحة مالية توجّه أصابع الاتهام بتورطه بها. فعندما كان عمدة مدينة هامبورغ بين عامي 2011 و2018 واجه كذلك اتهامات بالتغطية على فضيحة مالية أخرى تُعرف بـ«كام إكس» وهي احتيال ضريبي طال دولاً أوروبية أخرى ولم يقتصر فقط على ألمانيا.
يومها اتُّهم شولتز باستخدام تأثيره السياسي لكسب خدمات ضريبية لمصرف من مصارف هامبورغ متورط بالفضيحة. ولقد اجتمع شولتز بمدير المصرف كريستيان أولياريوس 3 مرات في عامي 2016 و2017 عندما كان يخضع للتحقيق بالتهرب الضريبي. ومع أن شولتز يقول إنه «لا يتذكر» ما الذي دار بينه وبين مدير المصرف خلال هذه الاجتماعات، إلا أن قرار حكومة هامبورغ بعد هذه اللقاءات بألا تسعى لاستعادة 47 مليون يورو من المصرف كان يدين بها له، هو ما سلّط الضوء على أن شولتز ربما يكون متورطاً في الفضيحة بشكل أو بآخر. ولكن بعد أشهر قليلة استعادت حكومة هامبورغ (وهي ولاية – مدينة) 43 مليون يورو من الأموال المفقودة من المصرف إثر تدخل وزارة المالية الفيدرالية. واليوم لا يذكر الكثير من الألمان فضيحة «كام إكس» كذلك، أو أنهم لا يكترثون.
ثم إن الأمر نفسه، ينطبق على فضيحة أخرى تطارد شولتز من أيام عمله عمدة لهامبورغ، وتتعلّق هذه الفضيحة بـ«قمة العشرين» التي استضافتها المدينة، وانتهت بمظاهرات عنيفة لأفراد من اليسار المتطرف أحرقوا سيارات ودمروا واجهات المحال واعتدوا على رجال الشرطة. وفي حينه، اضطر شولتز للاعتذار لسكان هامبورغ بعد الذي حصل، فيما اتهمه معارضوه بأنه لم يأخذ مسألة الأمن إبان «قمة العشرين» بشكل جدّي... ما أدى إلى الشغب الذي حصل.
- إنجازات ومشاريع مستقبلية
بينما يرفض أولاف شولتز استعادة هذه الأمور «المحرجة»، أو يرفض اتهامه به عندما يسأل عنها، فإنه يفضل عوضاً عن ذلك التركيز على إنجازاته المالية ومشاريعه المستقبلية. وكمثال، يكرّر شولتز القول إنه يريد حل مشكلة السكن من خلال بناء آلاف الوحدات السكنية الجديدة.
ويذكّر بأن تاريخه في هامبورغ يساعده في ذلك، فهو نجح ببناء آلاف الوحدات السكنية هناك بأسعار زهيدة، ومن دون أن يوقِع المدينة في ديون. ويكرّر أيضاً التطرق إلى مساعيه لرفع الحد الأدنى للأجور وزيادة الاستثمار العام في المشاريع الخضراء لمكافحة التغير المناخي.
من جانب آخر، مع أن شولتز ينتمي إلى حزب اشتراكي، فهو يُعد من تيار المحافظين داخل الحزب وليس من الجناح اليساري المتطرف. ولذلك فإن سياساته المالية ليست راديكالية. وعلى الرغم من أنه لا يؤمن بمبدأ الاقتراض للاستثمار، فهو كان من الأساسيين الذين أعدوا الحزمة المالية الأوروبية لمساعدة دول الاتحاد الأوروبي التي تعاني بسبب أزمة «كورونا».
- سيرة ذاتية
وُلد أولاف شولتز في مدينة أوزنابروك، بولاية سكسونيا السفلى في شمال غربي ألمانيا، يوم 14 يونيو (حزيران) 1958. وبدأ شولتز -المتزوج منذ عام 1998- حياته بعيداً عن السياسة، إذ درس الحقوق في جامعة هامبورغ، ومن ثم مارس مهنة المحاماة لعدة سنوات كمحامي شركات قبل الانتقال إلى السياسة.
انتُخب عام 1998 عندما كان في الأربعين من العمر، للمرة الأولى نائباً في البرلمان المحلي في هامبورغ، حيث نشأ وكبر مع والديه. واستقال من المقعد عام 2001 بعدما قبِل بمنصب وزير داخلية الولاية. غير أنه لم يدم أكثر من بضعة أشهر في المنصب الذي غادره بعد خسارة حزبه في الانتخابات.
وفي العام التالي، أي في 2002 نجح في دخول البرلمان الفيدرالي الاتحادي (بوندستاغ) الألماني في برلين، وأصبح أيضاً السكرتير العام في حزبه الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي)، وظل في المنصب لمدة سنتين حتى 2004 حين استقال إثر تقديم زعيم الحزب (آنذاك) غيرهارد شرودر استقالته من المنصب أمام انقسام الحزب عليه وتدني شعبيته.
عام 2007 انضم شولتز للمرة الأولى لحكومة المستشارة ميركل كوزير للعمل والشؤون الاجتماعية وبقي في منصبه حتى عام 2009، وبعد ذلك انتُخب نائباً لرئيس الحزب وبقي في منصبه سنتين قبل أن يعود إلى هامبورغ عام 2011 ليصبح عمدة للمدينة حتى عام 2018، وخلاله عندما عاد إلى برلين ليشغل منصب وزير المالية الفيدرالي ونائب المستشارة.
- طموح قديم
منذ سنوات يطمح أولاف شولتز إلى قيادة حزبه الاشتراكي العريق، وقد رأى فرصة سانحة له في عام 2019 عندما استقالت السيدة الأولى التي تشغل المنصب، آندريا ناهليس، بسبب عجزها عن انتشال الحزب من الحضيض. بيد أنه لم ينجح يومذاك، وانتخب الحزب في حينه زعيمين مشتركين، سيدة ورجلاً، يعدّان من الجناح اليساري المتطرف بداخله. ولكن على الرغم من ذلك، وقع الاختيار على شولتز لكي يكون مرشح الاشتراكيين لمنصب المستشار، بشكل أساسي كونه معروفاً على الصعيد الوطني بخلاف الرئيسين الآخرين المجهولين تقريباً.
لقد أدرك الحزب أن اختيار مرشح وسطي معتدل بعيد عن الراديكالية، قد يعطيه فرصة لرفع حظوظه في الانتخابات. وبالفعل، تظهر «وسطية» شولتز بشكل كبير عندما يتحدث عن ائتلاف محتمل بعد الانتخابات لتشكيل الحكومة، ويقول إن التحالف مع حزب «دي لينكا» اليساري المتشدد، فيما لو حصل، سيُبنى على شروط محددة وواضحة، تفادياً لقرارات راديكالية في الاقتصاد والسياسة الخارجية.
هذا، وساعدت خبرة شولتز في الحكومة على إقناع أعضاء الحزب بالتصويت له للترشح لمنصب المستشارية. فهو منذ دخوله الحكومة الفيدرالية قبل 3 سنوات، نجح في بناء علاقات قوية مع زعماء أوروبيين ودوليين التقاهم غير مرة بسبب منصبه. أيضاً، كان شولتز المرشح الأول الذي استقبله الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في قصر الإليزيه بباريس قبل أسابيع، فيما قرأه البعض مؤشراً إلى دعم ماكرون له. وكان شولتز قد عمل مع فرنسا خلال السنوات الثلاث الماضية على مجموعة من القوانين المالية المهمة في أوروبا، أبرزها المتعقلة بتبني قواعد ضريبية أساسية تُفرض على كبرى شركات التكنولوجيا مثل «غوغل» و«أبل» وغيرها.
قد تكون «الكاريزما» العنصر الذي يعوزه أولاف شولتز، لكنه من دون شك يتمتع بمزايا أخرى تبعث على الثقة به بالنسبة إلى الناخبين. وعلى أي حال، فإن منافسيه لا يتفوقون عليه في هذا المجال، وهو ما دفع ببعض الصحف الألمانية مثل صحيفة «دي فيلت» للتساؤل عما إذا كانت هذه الانتخابات هي «الأكثر إثارة للملل أم لا». ودفع بالصحف الأميركية أيضاً، مثل «نيويورك تايمز»، إلى التعليق بأن «الألمان يفضّلون الساسة المملين... لأن التجربة الأخيرة مع سياسي كان يتمتع بالكاريزما لم تنتهِ بشكل جيد»، في إشارة إلى أدولف هتلر.
ختاماً، إذا نجح شولتز فعلاً في الانتخابات، وتمكّن من تشكيل حكومة ائتلافية، فهو سيكون الزعيم الرابع فقط من الاشتراكيين الذي يقود البلاد بعد الحرب العالمية الثانية. إذ سبقه فيلي براندت وهيلموت شميدت وغيرهارد شرودر الذين كانوا يتمتعون بسحر ينقص شولتز. ومع هذا، فإنه اليوم يبدو الرجل الذي تحتاج إليه ألمانيا لطمأنتها إلى أن الاستقرار الذي عرفته طوال السنوات الـ16 الماضية، باقٍ وراسخ.