«نغمات مصرية»... عزف تشكيلي حي للبيئة الشعبية والريف

إذا كان الموسيقار الألماني بيتهوفن قد أثرى الموسيقى الكلاسيكية بنغمات وألحان خرجت من رحم الصمت والسكون من حوله؛ فإنّ ثمة نغمات أخرى تشكيلية أبدعها الفنان المصري سيد البيباني، التقطها من وسط الصخب والزحام، معبراً عنها بفرشاته في معرضه التشكيلي الجديد «نغمات مصرية»، حيث يعزف بألوانه مسجلاً انطباعاته عن البيئة المصرية بمختلف أشكالها، سواء كانت شعبية أو ريفية أو ساحلية.
مع تجولك بين 47 لوحة يضمها المعرض، فأنت أمام سجل وثائقي للحياة في مصر، حيث تعمّد الفنان إظهار الجمال الذي تحويه هذه البيئات، في رؤية تشكيلية تكتشف القيم الجمالية والفنية. يقول البيباني «أعمالي تحاول دائماً توثيق البيئة المصرية، وأبحث دائماً عن الأصالة والجمال معاً؛ لذا فأنا دائم التنقل والتجول بين البيئات المختلفة، الريفية والشعبية وغيرها، بحثاً عنهما، محاولاً تسجيل انطباعاتي وأحاسيسي؛ لذا فأعمالي تخرج مصرية صميمة، وبروح المجتمع المصري الأصيل»
لقد اختار البيباني اسم «نغمات مصرية» لمعرضه – الذي تستضيفه قاعة زياد بكير بدار الأوبرا المصرية حتى 26 سبتمبر (أيلول) الحالي - كونه يرى أن ما ينقله من البيئة المصرية بمثابة النغم الذي يعبّر عن الحالة المصرية، فاللوحات بمثابة نغمات متداخلة، يجد فيها المتلقي الطرب البصري والإبهار الفني، بما يبعث في النفوس الراحة والهدوء، على حد تعبيره.
من البيئة الشعبية، يرصد المعرض ملامح من أحياء الجمّالية والحسين والخيامية، والشوارع العتيقة مثل شارع المعز لدين الله، وهي البيئة الشعبية التي نشأ فيها الفنان، وبدأ فنه في دروبها. ومنها ينتقل إلى البيئات الريفية على ضفاف الوادي ودلتا النيل، ثم يتجول على السواحل المصرية، أو يتجه غرباً حيث محافظة مطروح والواحات، أو يسير إلى الجنوب حيث روح الحضارة في الأقصر وأسوان.
وبين هذه وتلك، يرسم الفنان من الواقع، في «بث مباشر» منه إلى سطح اللوحة؛ لذا تخرج اللوحات كتسجيل فني لرؤية تشكيلية تكشف القيم الجمالية والفنية التي تحتويها هذه الأماكن والبيئات، يقول «أتعايش مع المكان الذي أزوره، فلا تكون مجرد زيارة سريعة، بل إقامة ومعايشة كاملة، فأتوحد مع المكان بكل كياني، وأتعرف على وجدان الناس المتواجدين فيه، وهو ما أحاول نقله للمتلقي، الذي يجد نفسه هو الآخر يتعايش مع اللوحة بل الدخول إليها، والتفاعل مع مكوناتها ومفرداتها، بما تحمله اللوحات من روح حيّة».
تستوقف الفنان كثير من المشاهد في الريف، حيث الفطرة والتلقائية من ناحية، ومن ناحية أخرى محاولاً توثيق هذه البيئة التي تعرضت كثير من ملامحها للاندثار؛ لذا ينقل لنا العشش البسيطة، والقش وقطع الحجارة في المنازل القديمة، والأشجار والنخيل، كما نرى حامل أجولة القطن بكل قوة وعزيمة، وجلسات السكينة والتأمل أمام مياه النيل.
وفي البيئة الساحلية يرصد حركة المراكب والصيادين والحركة الدائبة لهم سعياً وراء الرزق. وإلى رحاب الحارة المصرية في القاهرة تأخذنا اللوحات لنشاهد بعض العادات والطقوس الشعبية، وباعة الفاكهة والخضراوات، والمأكولات الشعبية، وسط حركات من فئات مختلفة من البشر.
يقول البيباني «تستوقفني الحياة البسيطة، وأحاول البحث بين ثناياها عن المفردات التي تحمل الأصالة، فما يدعو للأسف أن كثيراً من المظاهر الحياتية تندثر وتختفي مظاهر القديم، والجديد دون معالم واضحة وليس له أصول تاريخية، ومع ذلك فهو يغطي على كل ما هو موروث، فلا يشعر الإنسان بجمال القديم؛ لذا أحاول اللحاق بهذه المظاهر والحفاظ عليها قبل أن تندثر تماماً».
واللافت، أن الفنان لا يرسم ملامح البشر، معللاً ذلك بقوله «لا أركز على الملامح، فما يشغلني هو الموضوع، أما الإنسان فهو عنصر ثانوي، فالمكان دائماً هو البطل لدي، وهدفي يظل هو إحياء المكان عبر الفن».
من الجدير بالذكر، أن أعمال المعرض تنتمي إلى المدرسة التأثيرية الانطباعية والواقعية، ويأتي فيها اللون ظاهراً بقوة ليتماشى مع أسلوب الفنان في عرض القيم الجمالية والفنية التي تحتويها هذه الأماكن والبيئات المختلفة.