البطولة والقوّة كذبتان في فيلم إيستوود الجديد

في نهاية Cry Macho يقفل مايك (كلينت إيستوود) عائداً ويمضي الفتى رافو (إدواردو مينيت) ليجتاز الحدود المكسيكية إلى الولايات المتحدة.
كان مايك قد جاء من تكساس بناء على طلب صاحب مزرعة «دوايت يوكم» عمل مايك لديه لسنوات عديدة. هذا جاءه في زيارة وقال له إنّه يريد استعادة ابنه رافو من والدته المكسيكية. رافو هو ثمرة زواج فاشل قام على مصالح مادية وعندما تعثرت انفصلا. رافو بقي في حوزة والدته وهو الآن في الثالثة عشرة من العمر يخطو صوب السن الذي سيضعه على مفترق طرق: سيتحوّل إلى فتى شوارع لا مستقبل له أو سيستقبل مفاجأة تضعه على خط مستقيم.
مايك هو المفاجأة. طلب منه والد رافو أن يجلب له ابنه فامتثل وها هو يلتقي بالزوجة ليتا (فرناندا أوريولا) التي تحذّره من خطف ابنها، لكن مايك لا يُلقي بالاً للتحذير. يجد رافو في أحد الأحياء يراهن على ديكه ماتشو في رهونات صراع الديوك.
يتحدث إليه ويقنعه بأن والده ينتظره في تكساس حيث يكمن مستقبله. لديه خيول كثيرة ومزرعة واسعة ويقيم حفلات روديو (ترويض جياد جانحة). إذ ينطلقان، وكل ما سبق يرد في ثلث ساعة من الفيلم، تجوب الكاميرا الربوع المكسيكية. يتحوّل الفيلم إلى «رود موفي» إنما برسالة تضمنها الحبكة. إنها رحلة تجمع بين رجل عجوز صدمته الأيام ولم يعد لديه شيء يقوم به سوى انتظار المنيّة، وصبي جرحته باكراً حياة خالية من العطف (من والدته كما من والده البعيد) ولم يعد يحب في العالم بأسره سوى ذلك الديك.

- بعيداً عن العنف
«كراي ماتشو» فيلم مسالم بالنظر إلى أنّ إيستوود أمضى معظم سنوات حياته في أفلام أكشن تدور حول الجريمة والعقاب والقوّة والبطش ومطاردات الوسترن وبطولاته. في هذا الفيلم (الثالث والستين له ممثلاً والواحد والأربعين له مخرجاً) كلينت إيستوود هناك لكمة واحدة يقوم بها. الأذى الأكبر يأتي من قبل الديك الذي يثب على شرير ليمنعه من استعادة رافو، وهذا أكثر ما في الفيلم من ضروب العنف.
هذه الدراما التي عاينها إيستوود في السبعينات ورغب في أن يقوم الراحل روبرت ميتشوم ببطولتها، من ثمّ تجاهل المشروع وكاد أن يفوز به أرنولد شوارتزنيغر (والحمد لله أنّه لم يفعل) عبارة عن فيلم مسالم في طبيعته. إيستوود يكاد لا يمثل إلا إيستوود. وُلد سنة 1930 ويتحرك كابن الحادية والتسعين. يتكلم كابن الحادية والتسعين، يتصرّف كابن الحادية والتسعين.
الحال هو أنّ إيستوود في هذه السن يوفّر فيلم وداع، لكن ليس كأي فيلم وداع. صحيح أنّه لا يموت في النهاية بل يعود أدراجه إلى بلدة صغيرة في المكسيك، إلا أنّه في مثل هذه السن يصعب تصوّر أنه سيمثّل فيلماً آخر (المراجع لا تذكر أنه بصدد ذلك على أي حال). ربما سيمنح لنفسه فرصة إخراج أو تمثيل فيلم من إخراجه، لكن لا يبدو أنه في هذا الصدد.
هذا ليس فقط لأن الموضوع مسالم وينضح بمواقف إنسانية في سيناريو يميل إلى البحث في الذات عوض سرد حكاية معهودة حول مهمّة خطرة قد تعرّض صاحبها للموت أو للسجن، على أقل تقدير، بل لأن الفيلم بكامله نقلة مهمّة في نطاق الأفلام الأخيرة التي يراجع فيها إيستوود مواقفه جميعاً.

- نوعان من أفلامه
لتقريب الصورة إلى حيث يمكن قراءتها جيداً، هناك نوعان من الأفلام التي أنجزها إيستوود في السنوات الأخيرة: أفلام من إخراجه وبطولته وأفلام من إخراجه فقط. تلك التي اكتفى فيها بالوقوف خلف الكاميرا ذات تنوّع شديد (ومثمر) في مواضيعها. هي سيرة حياة رئيس الـ«إف بي آي»، ج. إدغار هوفر في «ج. إدغار» (2011) ومتابع لحياة فريق «ذا فور سيزنز» في «ذا جيرسي بويز» (2014)، ثم سارد لحياة مجنّد شارك مراراً في الحرب العراقية في «قنّاص أميركي» (2014) ولاحقاً، سنة 2016 و2018. حام حول حادثتين فعليّتين، الأولى في «سولي» والثانية في The 15:17 to Paris. وتبع ذلك، في عام 2019. بفيلم عن الحارس الأمني الذي اكتشف قنبلة مزروعة في مكان مكتظ بالجموع فاتهم بأنه خطط للكشف عن قنبلة وضعها بنفسه طلباً للشهرة ولوظيفة أعلى. الفيلم هو «رتشارد جووَل».
تلك التي مثلها خلال السنوات القريبة الماضة، لجانب إخراجها (وهو أنتج كذلك كل أفلامه من سنة 1988 إلى اليوم) تختلف على نحو بيّن.
هي ثلاثة فقط «غران تورينو» (2008) و«ذا ميول» (2018) و«كراي ماتشو» (2021). الجامع بينها هي نظرته المفاجئة لغير البيض من الأميركيين. خلال إلقاء هذه النظرة يراجع إيستوود مواقفه السابقة التي تميّزت بالنزعة اليمينية الواضحة.
في «غران تورينو» هو عجوز من المحاربين القدامى يعيش في حي كان يحفل بالسكان البيض والآن تحوّل إلى منطقة سكنية مختلطة. هو لا يحب ذلك ونسمعه متذمراً وشاكياً، لكن العائلة الآسيوية التي انتقلت للبيت المجاور تثير اهتمامه، وما يلبث هذا الاهتمام بالتحوّل إلى رغبة في التواصل وتبادل المعرفة.
«ذا ميول»، بدوره، حكى قصّة رجل في سبعينات العمر يجد أنّه لا ملاذ له سوى تهريب المخدرات عبر الحدود المكسيكية - الأميركية إنقاذاً لحياة زوجته التي لا يملك ما يكفي لعلاجها. هو، في الفيلم، شخص مصدوم بالوضع الاقتصادي الحالي للولايات المتحدة وتأثيره على ذوي الدخل المحدود. تحوّله إلى «بغل» (أو مهرّب بكلمة أخرى) مناسبة للتعامل مع شخصيات مكسيكية لا يجد بعضها خطراً عليه، بل هي مؤهلة لثقته و- ضمنياً - إعجابه.
في «كراي ماتشو» يذهب إلى ما بعد كل ما سبق بكثير. خلال الرحلة هناك حوار بينه وبين الصبي الذي ينظر إليه كرجل قوة وبطش (ماتشو) لكن إيستوود يصحح له نظرته ساخراً من هذا الوصف ومعتبراً أنه كناية عن كذبة خادعة. بذلك يصيب نفسه بالنقد، إذ كثيراً ما لعب (حتى التسعينات) هذا الدور تحديداً.
في المكسيك يجد شعباً بسيطاً وصادقاً. يلتقي بامرأة ذات دخل محدود لا تهاب إنفاقه على إطعامه والفتى وإيوائهما. يرقص معها التانغو على أنغام مكسيكية قبل أن ينطلق صوب الحدود لتسليم الصبي لأبيه.
عودة مايك إلى تلك البلدة حيث تلك المرأة تمثّل حنينه إلى عالم بعيد وبسيط وشخص من خارج ثقافته يتعايش وإياه (تلك المرأة). بذلك يودّع إيستوود في ذلك المشهد الأخير الذي بدأنا به هذا النقد أميركا. لقد وجد ما هو أفضل منها.
نعم، الجمهور الذي يبحث عن البطل والقوّة والقتال لن يجد في «كراي ماتشو» إلا ظلالاً من أمس بطله، لكن الفيلم بكل بساطته عميق الفحوى وبعيد عن الوعظ والميلودراما العاطفية. هو بعيد عن إيستوود وقريب منه في الوقت ذاته.