حوار مدينتين في عصر العلوم الإسلامية

كتاب يروي قصة العلوم والتلاقح الحضاري... من نهوض بغداد حتى سقوط أصفهان

د. خيرانديش  -  غلاف الكتاب
د. خيرانديش - غلاف الكتاب
TT

حوار مدينتين في عصر العلوم الإسلامية

د. خيرانديش  -  غلاف الكتاب
د. خيرانديش - غلاف الكتاب

في ندوة تعريفية عقدت عبر الإنترنت في الرابع من الشهر الحالي في مدينة لوس انجلس الأميركية استعرض باحثون في تاريخ العلوم كتابا حديثا بعنوان “بغداد وأصفهان: حوار مدينتين في عصر العلم (نحو 750 - 1750)، الصادر في مايو (أيار) عام 2021 الحالي عن «مؤسسة فرهنگ».
وتحدثت في الندوة مؤلفة الكتاب الدكتورة إيلاهه خيرانديش، خريجة جامعة هارفارد، الباحثة في تاريخ العلوم الرياضية والفيزيائية ورئيسة مؤسسة ecademics.org Inc.، الخيرية المكرسة لتطبيق التكنولوجيا الرقمية في الدراسات التاريخية.
وحضر الندوة 600 مشارك من أنحاء العالم، منهم الدكتور يان هوخندايك، الباحث في الرياضيات والبروفسور في تاريخ العلوم في جامعة اُترخت الهولندية، وكذلك الباحثة مايرة صديقي من إسطنبول، وحضر كاتب السطور الندوة من شقته في لندن.
وقدّم الدكتور يان للكتاب بقوله، إن محتوياته تتوزع بأهمية متساوية بين تاريخ العلوم، وبين الجوانب الثقافية والأدبية لتلك الحقبة.
أما المؤلفة فأوضحت، أن المدينتين أشبه بالقمر والشمس؛ إذ تبزغ واحدة عندما تأفل الأخرى كالشمس عند الغروب. وأشارت إلى أهمية اللوحات من الرسوم والصور المثبتة في الكتاب وعددها 16 لوحة، وأكّدت أن أبرز 4 منها يمكن أن تقدم معرفة أولية بالكتاب. أولى تلك اللوحات لوحة لنص من كتاب مناظرة بين بغداد وأصفهان قادتها الصدفة المحض إليها. وقالت، إنها ما كانت ستعثر عليها لو اكتفت بالبحث في شبكة الإنترنت؛ إذ عثرت على المخطوطة عندما تصفحت كتالوغاً للمخطوطات في المكتبة البريطانية. وأشارت إلى دور الحظ في ذلك. فالمخطوطة تحتوي على نص علمي بالعربية وعلى حواشيه كُتبت شروح وتعليقات بالفارسية.
وقالت الدكتورة خيرانديش، إن الكتاب ليس خيالياً، بل يستند إلى أدلة موجودة، وهو يروي قصة العلوم من نهوض بغداد في 750م حتى أفول أصفهان في 1750م. وكان هدفها في الكتاب إبراز التشارك في البحث العلمي والتلاقح الحضاري بين الأمم الذي ينعكس في إحدى اللوحات في أحد الكتب بالفارسية التي تُظهر إقليدس وجالينوس يجلسان القرفصاء لتلقي العلوم جنباً إلى جنب علماء مسلمين. هذا السعي إلى المعرفة لم يعرف حدود البلدان والأمصار أو الاختلاف في اللغة والطِباع.
من جهته، يضيف الدكتور يان، أن السعي لطلب العلم وتبادل المعارف لم يختلف اليوم، فنحن جُلوس في أماكن متفرقة من العالم كما كان طالبو العلم من أنحاء العالم يتحلقون في حلقات البحث والمناظرة في السابق.
يتطرق الدكتور يان إلى مسألة الحظ والصدفة مرة أخرى، فالكتاب لم يلق رواجاً في عصره، ويذكّرنا بأن كمال الدين الفارسي طلب من معلمه كتاب «المناظر» لابن الهيثم، وهو كتاب في سبعة مجلدات، فأتوه بالكتاب وقرأه وعلّق عليه بالفارسية على حواشيه. ثم طلب الكتاب أحد الملوك المسلمين في إسبانيا فوصل إلى بلاطه في سراقوسة، ومن هناك ترجمه الأوروبيون إلى اللاتينية. ويتساءل الدكتور يان ما أسعدنا حظاً أن مكروهاً لم يقع كأن تغرق السفينة التي عبرت به البحر، أو اندلع حريق في المكتبة التي احتوته، أو أن المترجم لم يتقن عمله.
كان الإغريق يعتقدون أن الرؤية تتم بشعاع من عين الناظر إلى الأشياء، لكن ابن الهيثم قدم شرحاً وضّح فيه أن شعاع الضوء يأتي من الشيء إلى عين الناظر فتتم الرؤية.
تنبهنا المؤلفة إلى اللوحة الرابعة في كتابها، وهي رسم في كتاب لعبد الحميد إبراهيم صبرة (1924 - 2013) مأخوذ من يوهانس هيفليوس (1611 - 1687) نرى فيها ابن الهيثم وغاليليو يقفان على المستوى نفسه في أحد الرسوم من القرن السابع عشر.
وزعّت المؤلفة كتابها في 7 فصول ماثلتها مع الدورة الأسبوعية للأيام، وجعلت المدينتين مثل الشمس والقمر. فكانت فصول البحث الزمان والمكان، القمر والشمس، الدائرة والمربع، كلمة وخط، شرق وغرب، عتيق وحديث والتدبير والحظ. وفي تمهيدها للمقدمة ذكرت الدكتورة خيرانديش الصدفة المحض التي قادتها إلى مخطوطة عنوانها «حوار بغداد وأصفهان».
المخطوطة هي مناظرة بين المدينتين، وتعترف الكاتبة أنها وجدت فرصة النشر عن تلك المدينتين لا تُقاوم؛ فالمدينتان كانتا قِبلة طالبي العلم والمعرفة. واختارت الفترة من 750م إلى 1750م التي خلالها صعدت بغداد إلى سمعة تطبق الآفاق كمنارة للعلوم والآداب وكانت فيها عاصمة دولة العباسيين (750 - 1258) وسطعت أصفهان بين 1501 - 1722 حتى صارت عاصمة الصفويين. كانت المدينتان، كما تصفهما، مثل الشمس والقمر تتناوبان في أخذ مكانة الصدارة في أراضي العرب والفرس ومشاعل الثقافة العربية والفارسية وحتى المذاهب الدينية.
وكانت المؤلفة قد روت في المقدمة قصة انتقال كتاب «المناظر» لابن الهيثم من بغداد إلى الأزهر في القاهرة بمصر ومن هناك انتقلت نسخة من الكتاب إلى بلاط أحد الملوك المسلمين في سراقوسة، ثم وصل إلى أوروبا، حيث تمت ترجمته إلى اللاتينية ودخل في سجل الإنتاج الفكري للبشرية.
- مهندس معماري عراقي


مقالات ذات صلة

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.