«رياح الفرار» تعصف بمناطق الحكومة السورية وتصيب الحرفيين

موجة جديدة للهجرة من دمشق

«رياح الفرار» تعصف بمناطق الحكومة السورية وتصيب الحرفيين
TT

«رياح الفرار» تعصف بمناطق الحكومة السورية وتصيب الحرفيين

«رياح الفرار» تعصف بمناطق الحكومة السورية وتصيب الحرفيين

بعد إلقاء القبض عليه بجرم سرقة منزل والده في ريف حمص، اعترف السارق الشاب بأنه اتفق مع صديقه على سرقته مبلغ مليون ليرة سورية (300 دولار أميركي) و2350 دولاراً أميركياً من منزل والده بـ«داعي السفر» خارج البلاد. ولا تعد هذه الحادثة الأولى من نوعها كما أنها ليست حكراً على ذوي الدخل المحدود، إذ يروي صائغ ذهب حموي معاناته مع ابنه الوحيد الذي كان يعيش «عيشة ذهبية» وأصرّ على الهجرة. وقال: «أفشلت عدة محاولات له للهروب من البلاد، لكنه نجح أخيراً وقد سحب مبلغاً كبيراً من المال دون علمي». ورغم حزن الصائغ على فقدان ولده الوحيد يقول: «بعد تعرُّض محلات الصاغة في الأشهر الأخيرة لمداهمات الأمن والجمارك وإذلالنا بتهمة التعامل بغير الليرة والتي وصلت إلى حد تفتيش جيوبنا واعتقال العشرات، اقتنعت أن ابني على حق وعليّ أن ألحق به سريعاً».
وشهدت مناطق سيطرة النظام، في الأشهر الأخيرة، زيادة ملحوظة في عروض مكاتب السفريات لا سيما عروض السفر إلى بيلاروسيا الممهورة بعبارة «بسعر مميز»، وتتضمن: «تذكرة طيران ودعوةً وتأميناً صحياً وحجزاً فندقياً وسفراً مباشراً من مطار دمشق إلى بيلاروسيا»، فيما عروض السفر إلى أربيل بـ«أسرع الطرق وأقل التكاليف» تتضمن: «فيزا + إقامة». أما عروض السفر إلى مصر، فتتضمن «إنجاز موافقات دخول مصر (فيزا + تذكرة)». وتتراوح تكاليف تلك الرحلات بين 2500 و4000 دولار أميركي، والمسافرون عبر بيلاروسيا إلى أوروبا يضاف إلى تلك التكاليف مبالغ تصل إلى 4000 دولار للتهريب عبر الحدود سيراً على الأقدام.
وضجّت الأوساط السورية اليومين الماضيين بأنباء عن سوريين عالقين في مطار مينسك بيلاروسيا كانوا ضحية عمليات نصب واحتيال، إذ تبيّن أن وثائق سفرهم مزوَّرة والدعوات التي اشتروها من المكاتب وهمية، وذلك رغم أن بعض الجهات السورية غير الرسمية دأبت على التحذير من عمليات الاحتيال وبيع تأشيرات السفر المزورة التي تنشط سوقها عبر الإنترنت.
تنقسم طرق الفرار من مناطق سيطرة النظام إلى قسمين: الأول الهجرة عبر إجراءات سفر نظامية أغلبها يتجه إلى مصر، والسودان، وأربيل، وبيلاروسيا، وأخرى غير نظامية عبر الفرار إلى مناطق سيطرة «قسد» ومن هناك إلى كردستان العراق أو تركيا ثم إلى أوروبا.
وكان «المرصد السوري لحقوق الإنسان» قد أفاد قبل أيام عن «تزايد في نسبة الهجرة من مناطق النظام بشكل كبير جداً أشبه بموجة الهجرة الكبيرة للسوريين التي كانت ذروتها بين عامي 2012 و2016». وقال: «إن عشرات الشبان والعوائل يخرجون بشكل يومي إلى مناطق سيطرة الفصائل في شمال غربي وشمال شرقي سوريا، بهدف الوصول إلى تركيا رغم الإجراءات التي تتخذها الحكومة التركية بحق السوريين للحد من دخولهم إلى أراضيها، إلا أن العشرات يدخلون أراضيها بشكل يومي قادمين من مناطق النظام بهدف الوصول إلى أوروبا، كما باتت مصر محطة طريق للبعض، نحو ليبيا ومنها إلى أوروبا عبر البحر».
وأشار «المرصد» إلى أن حواجز النظام المتمركزة على مداخل مدينة دير الزور عمدت خلال الأيام الأخيرة إلى منع دخول المسافرين من أبناء المحافظات السورية الأخرى إلى مدينة دير الزور والتضييق عليهم، من خلال سؤالهم عن وجهتهم والتحقيق معهم.
وأوضحت مصادر أهلية في ريف دمشق لـ«الشرق الأوسط» أن التوجه إلى مناطق «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) ليس بالضرورة للفرار خارج سوريا بل إن هناك من يهاجر إلى تلك المناطق للحصول على فرص عمل في المنظمات الأجنبية الناشطة هناك، لأن هذه المنظمات تدفع رواتب بالعملات الأجنبية، كما أن الوضع المعيشي والأمني هناك أفضل من مناطق النظام، ولفتت المصادر إلى وجود الكثير ممن تم تهجيرهم قسرياً خلال الحرب من مناطق النظام إلى شمال وشرق البلاد يعيشون بمستوى معيشي أفضل من أقاربهم في مناطق النظام وهم يشجعونهم على المغادرة.
«السفر» أو «الفرار» من سوريا هو اليوم حديث الساعة، كهاجس يؤرق الغالبية في مناطق النظام مع تفاقم تردي الوضع المعيشي، فبينما كانت الهجرة في السنوات السابقة هاجس الشباب المطلوبين للخدمة الإلزامية والملاحَقين أمنياً، أصبح في الأشهر الأخيرة هاجس جميع الأعمار لا سيما المسنين الحالمين بـ«موت أقل وجعاً»، حسب تعبير أستاذ جامعي متقاعد، وقال لـ«الشرق الأوسط» إنه يقوم بإتمام معاملات سفره إلى ألمانيا تلبيةً لدعوة ابنته: «راتبي التقاعدي لا يغطي قيمة أدويتي، العام الماضي تجمدت أطرافي من البرد لعدم وجود مازوت تدفئة، وفي الصيف كدت أُقتل من الحرّ وقلة النوم... لم أعد أتحمل، سأغادر إلى حيث أموت بمعاناة أقل».
ومع منح مصر تسهيلات للسوريين لا سيما رجال الأعمال والصناعيين للحصول خلال الأشهر الثلاث الأخيرة على الفيزا، امتلأت حجوزات الطيران من سوريا إلى القاهرة لغاية الشهر العاشر من العام الجاري، وانتشرت صورة ساخرة لطائرة سورية يكتظ سلّمها بالمسافرين مع تعليق «دمشق - القاهرة - كراجات» في تشبيه للطائرة بحافلات النقل العام الشعبية.
موجة الهجرة التي بدأت قبل ثلاثة أشهر بمغادرة أعداد كبيرة من رجال الأعمال والصناعيين إلى مصر، أثارت القلق، إذ لحقتها موجة هجرة كبيرة للحرفيين والصناع المَهَرة في مختلف المجالات التي كانت تميز الحرف السورية النسيجية والجلديات والنحاس والموازييك وغيرها، وهو ما عدّه رجل الأعمال ورئيس مجلس الإدارة‏ لدى ‏اتحاد غرف الصناعة السورية‏ فارس الشهابي، «كارثة». وقال في منشور عبر حسابه على «فيسبوك»: «مَن يرفض الاعتراف بأننا أمام كارثة هجرة جديدة للعقول والآمال أخطر بكثير مما شهدناه عام 2012 هو شخص منفصل عن الواقع».
ومع تزايد أعداد الحرفيين المقبلين على استصدار وثائق إثبات حرفية وشهادات حرفية بـ«داعي السفر»، حذّر رئيس الاتحاد العام للحرفيين، ناجي الحضوة، في تصريحات للإعلام المحلي من الخسارات المادية التي يتعرض لها الحرفيون وتدفعهم إلى الهجرة، وقال: «ارتفاع تكاليف الإنتاج وأسعار المواد الأولية للعديد من المهن، بالإضافة إلى زيادة فترات تقنين الكهرباء، يضطران الحرفيين للهجرة».
ويشار إلى أن الكثير من المصانع والورشات الصغيرة أُغلقت خلال فترة الصيف المنصرم بسبب عدم توفر حوامل الطاقة وارتفاع تكاليف الإنتاج كورشات صناعة الألبان والأجبان والمثلجات واللحوم وكل ما يتطلب إنتاجه عمليات تبريد، كما تعطلت ورشات التصنيع الحرفية التي تحتاج إلى كهرباء لتشغيل آلات قص وخياطة ولحام وغيرها. وقال صاحب ورشة جلديات في سوق الحريقة بدمشق لـ«الشرق الأوسط»، إن ورشته «خسرت أكثر من عشرة من أمهر الصناع خلال أقل من شهر وليس بإمكانه تعويضهم، منهم من باع بيته وكل ما يملك وملابس عائلته لتأمين تكاليف السفر ورمى نفسه بالبحر للخلاص من هذه البلاد»، مشيراً إلى أنه قبل عامين كان يدفع أجور الصناع رواتب شهرية مقطوعة لكن بعد تدني الإنتاج بسبب انقطاع الكهرباء وارتفاع النفقات راح يدفع للعامل على القطعة فتدنت الأجور وفي المقابل ارتفعت تكاليف المعيشة وهو ما اضطر الكثير من العمال إلى ترك العمل. وأضاف: «بدل أن تدعم الحكومة الورشات التي قاومت خلال الحرب راحت تعاقبنا بضرائب المالية تارةً وبالجمارك تارةً أخرى... قبل أسبوع عثرت دورية للجمارك في إحدى ورشات خياطة بدلات العرائس على قطعة قماش قيل إنها موجودة في المحل من قبل الحرب تبين أن مصدرها تركي فقاموا بإغلاق الورشة وتكبيد صاحبها غرامة طائلة».
كانت وزيرة الاقتصاد السابقة لمياء عاصي، قد حذّرت من أن سوريا أصبحت الأقل دخلاً في العالم، مؤكدةً أن هجرة المنتجين سواء الصناعيين أم الحرفيين ستفاقم الوضع الاقتصادي لسوريا، واصفة الوضع بـ«الخطير».



الحوثيون يكثّفون حملة الاعتقالات في معقلهم الرئيسي

جنود حوثيون يركبون شاحنة في أثناء قيامهم بدورية في مطار صنعاء (إ.ب.أ)
جنود حوثيون يركبون شاحنة في أثناء قيامهم بدورية في مطار صنعاء (إ.ب.أ)
TT

الحوثيون يكثّفون حملة الاعتقالات في معقلهم الرئيسي

جنود حوثيون يركبون شاحنة في أثناء قيامهم بدورية في مطار صنعاء (إ.ب.أ)
جنود حوثيون يركبون شاحنة في أثناء قيامهم بدورية في مطار صنعاء (إ.ب.أ)

أطلقت الجماعة الحوثية سراح خمسة من قيادات جناح حزب «المؤتمر الشعبي» في مناطق سيطرتها، بضمانة عدم المشاركة في أي نشاط احتجاجي أو الاحتفال بالمناسبات الوطنية، وفي المقابل كثّفت في معقلها الرئيسي، حيث محافظة صعدة، حملة الاعتقالات التي تنفّذها منذ انهيار النظام السوري؛ إذ تخشى تكرار هذه التجربة في مناطق سيطرتها.

وذكرت مصادر في جناح حزب «المؤتمر الشعبي» لـ«الشرق الأوسط»، أن الوساطة التي قادها عضو مجلس حكم الانقلاب الحوثي سلطان السامعي، ومحافظ محافظة إب عبد الواحد صلاح، أفضت، وبعد أربعة أشهر من الاعتقال، إلى إطلاق سراح خمسة من أعضاء اللجنة المركزية للحزب، بضمانة من الرجلين بعدم ممارستهم أي نشاط معارض لحكم الجماعة.

وعلى الرغم من الشراكة الصورية بين جناح حزب «المؤتمر» والجماعة الحوثية، أكدت المصادر أن كل المساعي التي بذلها زعيم الجناح صادق أبو راس، وهو عضو أيضاً في مجلس حكم الجماعة، فشلت في تأمين إطلاق سراح القادة الخمسة وغيرهم من الأعضاء؛ لأن قرار الاعتقال والإفراج مرتبط بمكتب عبد الملك الحوثي الذي يشرف بشكل مباشر على تلك الحملة التي طالت المئات من قيادات الحزب وكوادره بتهمة الدعوة إلى الاحتفال بالذكرى السنوية للإطاحة بأسلاف الحوثيين في شمال اليمن عام 1962.

قيادات جناح حزب «المؤتمر الشعبي» في صنعاء يتعرّضون لقمع حوثي رغم شراكتهم الصورية مع الجماعة (إكس)

في غضون ذلك، ذكرت وسائل إعلام محلية أن الجماعة الحوثية واصلت حملة الاعتقالات الواسعة التي تنفّذها منذ أسبوعين في محافظة صعدة، المعقل الرئيسي لها (شمال)، وأكدت أنها طالت المئات من المدنيين؛ حيث داهمت عناصر ما يُسمّى «جهاز الأمن والمخابرات»، الذين يقودهم عبد الرب جرفان منازلهم وأماكن عملهم، واقتادتهم إلى معتقلات سرية ومنعتهم من التواصل مع أسرهم أو محامين.

300 معتقل

مع حالة الاستنفار التي أعلنها الحوثيون وسط مخاوف من استهداف قادتهم من قبل إسرائيل، قدّرت المصادر عدد المعتقلين في الحملة الأخيرة بمحافظة صعدة بنحو 300 شخص، من بينهم 50 امرأة.

وذكرت المصادر أن المعتقلين يواجهون تهمة التجسس لصالح الولايات المتحدة وإسرائيل ودول أخرى؛ حيث تخشى الجماعة من تحديد مواقع زعيمها وقادة الجناح العسكري، على غرار ما حصل مع «حزب الله» اللبناني، الذي أشرف على تشكيل جماعة الحوثي وقاد جناحيها العسكري والمخابراتي.

عناصر من الحوثيين خلال حشد للجماعة في صنعاء (إ.ب.أ)

ونفت المصادر صحة التهم الموجهة إلى المعتقلين المدنيين، وقالت إن الجماعة تسعى لبث حالة من الرعب وسط السكان، خصوصاً في محافظة صعدة، التي تستخدم بصفتها مقراً أساسياً لاختباء زعيم الجماعة وقادة الجناح العسكري والأمني.

وحسب المصادر، تتزايد مخاوف قادة الجماعة من قيام تل أبيب بجمع معلومات عن أماكن اختبائهم في المرتفعات الجبلية بالمحافظة التي شهدت ولادة هذه الجماعة وانطلاق حركة التمرد ضد السلطة المركزية منذ منتصف عام 2004، والتي تحولت إلى مركز لتخزين الصواريخ والطائرات المسيّرة ومقر لقيادة العمليات والتدريب وتخزين الأموال.

ومنذ سقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد وانهيار المحور الإيراني، استنفرت الجماعة الحوثية أمنياً وعسكرياً بشكل غير مسبوق، خشية تكرار التجربة السورية في المناطق التي تسيطر عليها؛ حيث نفّذت حملة تجنيد شاملة وألزمت الموظفين العموميين بحمل السلاح، ودفعت بتعزيزات كبيرة إلى مناطق التماس مع القوات الحكومية خشية هجوم مباغت.

خلق حالة رعب

بالتزامن مع ذلك، شنّ الحوثيون حملة اعتقالات شملت كل من يُشتبه بمعارضته لسلطتهم، وبررت منذ أيام تلك الحملة بالقبض على ثلاثة أفراد قالت إنهم كانوا يعملون لصالح المخابرات البريطانية، وإن مهمتهم كانت مراقبة أماكن وجود قادتها ومواقع تخزين الأسلحة في صنعاء.

وشككت مصادر سياسية وحقوقية في صحة الرواية الحوثية، وقالت إنه ومن خلال تجربة عشرة أعوام تبيّن أن الحوثيين يعلنون مثل هذه العمليات فقط لخلق حالة من الرعب بين السكان، ومنع أي محاولة لرصد تحركات قادتهم أو مواقع تخزين الصواريخ والمسيرات.

انقلاب الحوثيين وحربهم على اليمنيين تسببا في معاناة ملايين السكان (أ.ف.ب)

ووفق هذه المصادر، فإن قادة الحوثيين اعتادوا توجيه مثل هذه التهم إلى أشخاص يعارضون سلطتهم وممارساتهم، أو أشخاص لديهم ممتلكات يسعى قادة الجماعة للاستيلاء عليها، ولهذا يعمدون إلى ترويج مثل هذه التهم التي تصل عقوبتها إلى الإعدام لمساومة هؤلاء على السكوت والتنازل عن ممتلكاتهم مقابل إسقاط تلك التهم.

وبيّنت المصادر أن المئات من المعارضين أو الناشطين قد وُجهت إليهم مثل هذه التهم منذ بداية الحرب التي أشعلتها الجماعة الحوثية بانقلابها على السلطة الشرعية في 21 سبتمبر (أيلول) عام 2014، وهي تهم ثبت زيفها، ولم تتمكن مخابرات الجماعة من تقديم أدلة تؤيد تلك الاتهامات.

وكان آخرهم المعتقلون على ذمة الاحتفال بذكرى الإطاحة بنظام حكم أسلافهم في شمال اليمن، وكذلك مالك شركة «برودجي» التي كانت تعمل لصالح الأمم المتحدة، للتأكد من هوية المستفيدين من المساعدات الإغاثية ومتابعة تسلمهم تلك المساعدات؛ حيث حُكم على مدير الشركة بالإعدام بتهمة التخابر؛ لأنه استخدم نظام تحديد المواقع في عملية المسح، التي تمت بموافقة سلطة الحوثيين أنفسهم