امرأة الحُلم.. رواية مثقلة بوقائع تاريخية مقحمة على النص

لجأ المؤلف إلى تقنية الأحلام والكوابيس والاستعادات الذهنية

امرأة الحُلم.. رواية مثقلة بوقائع تاريخية مقحمة على النص
TT

امرأة الحُلم.. رواية مثقلة بوقائع تاريخية مقحمة على النص

امرأة الحُلم.. رواية مثقلة بوقائع تاريخية مقحمة على النص

نادرا ما تنجو الرواية العراقية من سطوة السياسة على أجوائها وفضاءاتها السردية، وربما تذهب أبعد من ذلك حينما تكون لسان حال شخصيتها الرئيسية التي تُخبِّئ خلفها، في الأعم الأغلب، صوت الكاتب الذي ينطوي على جوانب متعددة من رؤاه الفنية والفكرية والثقافية. ورواية «امرأة الحلم» لحمّودي عبد محسن لا تخرج عن هذا الإطار «المُسيّس» إن صحَّ التعبير، فهي رواية سياسية بامتياز لكنها لا تهمل مناحي الحياة العاطفية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية على حدٍّ سواء.
تتمحور هذه الرواية برُمتها على شخصية المعلّم المتقاعد رياض رسول لكننا لم نتحسس أبعاد هذه المهنة العظيمة على مدار النص الروائي حتى ولو في استعادة ذهنية واحدة، إذ سارع الكاتب إلى تقديمه كمناضل شيوعي مخضرم قارعَ السلطة الاستبدادية من أجل تحقيق شعارٍ سياسي مقدّس يتمثل في «وطنٍ حرٍّ وشعبٍ سعيد» لكن هذا الوطن ظلَّ مكبّلا ومحتلا منذ سقوط بغداد على يد هولاكو عام 1258 حتى ثورة 14 يوليو (تموز) التي فجّرها عبد الكريم قاسم عام 1958 ثم تناهبتها الأنظمة العسكرية المتخلفة والأحزاب القومية والدينية المتطرفة حتى يومنا هذا.
وتمهيدا لتقديم هذه الشخصية التي تتنازعها السياسة والثقافة في آنٍ معا نرى رياض رسول في الفصل الأول من الرواية وهو عائد من ساحة الفردوس يرفع علما أحمرَ تطرزه مطرقة ومنجل بعد مشاركته في تظاهرة احتفالية بالذكرى الثانية والخمسين لثورة 14 تموز 1958. وعلى الرغم من أنه يرى صبيا مُعدما يبيع قناني الماء للمتظاهرين فإنه لا يزال مُستغرقا في الحلم الاشتراكي الذي تنتهي فيه السلطة، ويدير المجتمع نفسه بنفسه، ويكون كل حسب حاجته وقدرته!
وبما أن السجون والمعتقلات هي قدر السياسيين والمثقفين العراقيين المناوئين للسلطة أو المعارضين لها فإن رياض رسول هو سجين سياسي بالضرورة، فقد سُجن في العهد الملكي، وتعرض للتعذيب بسبب أفكاره التقدمية، وسوف يتعرض للضرب على أيدي شرطة المالكي في واحدة من المظاهرات الاحتجاجية في ساحة التحرير. فهذه الرواية لا تخرج عن ثنائية الضحية والجلاد، وأدب السجون والمعتقلات، فلا غرابة أن نراه أحد الصامدين الذين لم ينكسروا أمام وحشية الجلاد في مختلف السجون العراقية في بغداد وبعقوبة ونقرة السلمان التي أسسها العثمانيون كنقطة حراسة في بادية السماوة لكنها تحولت إلى منفى للشيوعيين ومعارضي النظام الملكي وما تبعته من أنظمة شمولية مستبدة.
تتمحور الرواية، على الرغم من عمقها التاريخي البعيد الذي يمتد إلى سومر وأكد وملحمة جلجامش، على السنوات التي أعقبت احتلال بغداد عام 2003 لكي يقدّم لنا صورة مؤسية عن الحكومات الفاشلة التي طُبعت بطابع النهب العلني، والسرقة المنظمة من قبل اللصوص الجدد الذين سطوا على مئات المليارات من الدولارات وحولوها إلى أرصدتهم الشخصية من دون أن يرف لهم جفن أو ترتعد لهم فريصة.
اختار الروائي حمودي عبد محسن منطقة البتّاويين في قلب بغداد كبؤرة مركزية تدور فيها أحداث الرواية. واستطاع من خلال تقنية الأحلام، والكوابيس، والاستعادات الذهنية، وقراءة المخطوطات، والخُطب الملكية وما إلى ذلك أن يأخذنا إلى دلمون واليمن السعيد وبغداد التي سلّمها المستعصم بالله للجنود المغول الذين أشبعوه رفسا حتى فارق الحياة من دون أن تُراق منه قطرة دمٍ واحدة كما اشترط هولاكو!
ثمة أحداث فرعية تُسهم في تعزيز البنية الروائية وتعمّق أنساقها السردية الحقيقية والحُلمية في آنٍ معا مثل الحملة التي تشنّها القوى الأمنية ضد الكلاب السائبة بدلا عن الإرهاب المستشري في مختلف أرجاء العاصمة وما يترتب عليها من تداعيات مؤثرة على نفسية الأطفال على وجه الخصوص. ثم ينعطف بنا الروائي إلى العالم الذي يتداخل فيه الحُلم بالحقيقة. فمقهى الحجي الذي تحوّل في لحظة من الزمن المعاصر إلى مجمّع «العراقي الأصيل» وتحدث فيه عن تموز، ثم أخرج حمورابي مجموعة أوراق من جيبه وبدأ يقرأ ما كتبه ابنه سنحاريب في سجون الظلم ودهاليز الاستبداد حيث يقتاده الجلاوزة إثر وشاية كاذبة من مخبر سرّي إلى محاجر السود ومنها إلى وحدة الجرائم الكبرى كي ينال قسطا من التعذيب، والصعق الكهربائي، والحرمان من متطلبات الحياة اليومية. لعل أبرز ما في هذه الأحداث الفرعية هو العثور على طفل رضيع في قُمامة الحي يُطلق عليه رياض اسم «وليد العراق»، وحينما تتعهّد «أم خولة» بتربيته ورعايته أسوة بأولادها يوافق رياض أن يمنحه لها شرط أن تسمّيه «تموز».
ينوء رياض بثقل الماضي العراقي، ويسترجع العديد من أحداثه المؤسية وربما يكون احتلال هولاكو لبغداد هو الحدث الأبرز الذي تتداعى تفاصيله وكأننا نشاهد فيلما سينمائيا فانتازيا، فالخليفة المستعصم بالله كان سادرا في غيّه ومجونه حتى أن سهما من سهام العدو قد أصاب جاريته «عرفة» دون أن يكلّف نفسه عناء الدفاع عن محظياته في الأقل. ثم تتوالى سلسلة الاحتلالات من تيمورلنك إلى السلطان أحمد، ومن دولة الخروف الأبيض إلى الخروف الأسود، ومنها إلى إسماعيل الصفوي الذي ترك أثرا سيئا في نفوس العراقيين. ولكي يتخلص رياض من هذه المتاعب الذهنية قرر أن يمارس عزلته المشدّدة مكتفيا بقراءة الكتب والمراجع التاريخية التي تكتظ بها مكتبته المنزلية.
يعود رياض إلى عام 1978 حينما اختطف أزلام الديكتاتور زوجته وحشروها في سجن مظلم حيث تعرضت فيه إلى مختلف أشكال التعذيب قبل أن تفارق الحياة، وقرر ألا يتزوج بعدها على الإطلاق لأنها تمثل بالنسبة إليه الجمال والكمال والرُقي ولذلك سماها «امرأة الحُلم» وكتب لها ست رسائل مليئة بالحُب واللوعة والاشتياق. ثم يستغرق السارد في الحديث عن الملك السومري زيوسدرا الذي أنقذ الجنس البشري من الطوفان، كما يعرِّج في الحديث عن جلجامش الباحث عن الخلود له ولشعبه.
يشكِّل الفصل الخامس منعطفا أساسيا في الرواية حينما ينتبه رياض إلى المطعم الذي يشوي صاحبه العصافير والزرازير والحمام الفاخت، وتهتز مشاعره كثيرا حينما يشاهد كيسا مكتظا بالطيور حيث يُطلقها في الهواء ويرقص رقصة التمرد في منتصف الشارع التي تُوحي للآخرين أنه قد أُصيب بمسٍ من الجنون وحينما يستنفد قواه يُغمى عليه فيأخذنا خلال إغماءته معه إلى اليمن السعيد ليقتل الذئب الإنسان ثم يموت ويُدفن في موضع «حُب الغريب»، وحينما يستفيق يجد نفسه في بيت أم محمد في حي البتاويين حيث تراوده بائعة هوى عن نفسه لكنه يخرج من البيت مستاءً مشوّش الذهن.
لا تقدّم الفصول الثلاثة التالية سوى معلومات مبتسرة عن الفيضان الذي اجتاح بغداد وأخذ رياض يطوف مثل سفينة نوح، كما حلُم بذي القرنين الذي مزّق حُليّهُ، ونزع تاج عرشه في مقاربة واضحة لما قام به رياض في رقصة التمرد التي مزّق فيها ثيابه أيضا. وبحث أيضا عن امرأة الحلم التي زارته في اليمن وكسرت جدران عزلته، ثم تلاشت وكأنها صعدت إلى السماء ولم يبقَ منها سوى بقع الدم ورموز الإخصاب على الملاءات البيض.
الفصل التاسع قد يكون من أهم فصول الرواية التي تتكثّف زبدتها في جمعات الغضب، والكرامة، والقصاص ومحاكمة المالكي، وارحل قبل فوات الأوان وشعاراتها التي توزعت على 3 محاور وهي: «إيران برّة برّة بغداد تبقى حرّة» و«يا أميركي اسمع زين، اطلع من بلد النهرين» والشعار الثالث الذي يمس اللصوص الجدد «نفط الشعب للشعب مو للحرامية». ثم يصعّد رياض موقفه حينما يطالب بإسقاط النظام فتتعرض المظاهرة برمتها إلى الاعتداء من قبل أزلام ما يسمى «دولة القانون» فيسقط رياض مغشيا عليه وحينما يستفيق يجد نفسه مستلقيا في مقهى الحجي، ويزداد قناعة بأن البطش لا ينتهي في بغداد وكأنه مثل لعنة أبدية حلّت بدُرّة النهرين.
لم يخرق حمودي عبد محسن الإيهام السردي، ولم يحطّم البنية الكلاسيكية المتعارف عليها، وكانت فرصته كبيرة في الفصل العاشر تحديدا فبدلا من أن يقرأ المخطوطة التي تتحدث عن أرض دلمون وقصة حُب أنكي لننبرساج وزواجه منها بغية ديمومة الوجود البشري كان عليه أن يتناص مع هذه المخطوطة أو يشتبك مع أحداثها وشخصياتها على حد سواء. وهذا الأمر ينطبق على قراءته لملحمة جلجامش بوصفها جزءا حيويا من سفر أرض دلمون وما انطوت عليه من معانٍ عديدة لعل أبرزها البحث عن هاجس الخلود له ولشعبه لكن هذه العملية لم تخرج عن إطاره القراءة السردية العادية التي أبقت هذه القصص والملاحم السومرية على طبيعتها ولم يتناص معها الروائي، أو يستفد من أنساقها الفنية عبر التقنية الميتاسردية التي عرفناها عند عبد الخالق الركابي، حازم كمال الدين، أحمد خلف، لطفية الدليمي، علي بدر، وآخرين. وعلى الرغم من القراءة التقليدية لرياض فإنه يستنبط في خاتمة المطاف بأن الحرية من أجمل الكلمات، ولكنها ستكون أجمل بكثير إذا ما اشتبكت في بنية ميتاروائية لا تتكئ على الرؤية التقليدية ولا تكتفي بها.
ولكي يلملم حمودي عبد محسن معطيات الرواية المبعثرة بين الوقائع الحقيقية التي تدور في حي البتاويين، وساحة التحرير، والسجون المبثوثة في بغداد وبقية المدن العراقية، وبين الأحلام والأوهام والكوابيس العديدة التي انتابت رياض على مدى النص الروائي الذي يختمه بجلاء المحتل والتقاط العراقيين لأنفاسهم بعد سنوات الاحتلال المريرة، وحضور امرأة الحلم مع رجل دين بارع في تزوير الأنساب، وامرأة ساحرة تدّعي أنها تطرد الجن والأرواح الشريرة من أجساد المسحورين والمصابين بالأعين الشريرة الحاسدة حيث يعقد قرانهما ويغادر المكان تاركا رياض مع امرأة الحلم التي بكت على مصير العراق المجهول على الرغم من الوعد الذي قطعته على نفسها بأنها سوف تنجب له تموز العراقي، فيتذكر ما قاله الحموي عن بغداد بأنها «سيدة الدنيا» التي ستنتفض مثل العنقاء من تحت الرماد مثلما ستنجب امرأة الحلم تموز الذي سوف ينبثق إلى الوجود حيا سواء من غشاوة الحلم أم من تضاعيف الواقع الأسيان.
نخلص إلى القول بأن «امرأة الحلم» هي رواية مثقلة بالعديد من الوقائع والأحداث التاريخية المُقحمة على بنية النص الروائي وكان على الكاتب أن يكتفي ببعض الإحالات التاريخية المهمة ويشتبك معها عبر تقنية التناص التي تجعل من المادة التاريخية جزءا من لحمة النص وسداته لا أن تظل مادة طارئة تشكِّل عبئا على الرواية بدل أن تتماهى مع أحداثها وتصبح جزءا حيويا من المعطيات المكوِّنة لنسيجها السردي.
إن منْ يجرّب قراءة هذه الرواية من دون الإحالات التاريخية سيجد نفسه أمام نص روائي مكثفٍ رشيق يُذكِّرنا بالأعمال الروائية الناجحة التي أنجزها الكاتب الدؤوب حمودي عبد محسن لعل أبرزها «الدفّان والغجرية» و«المزمار» و«حكاية من النجف» التي قال فيها أشياءَ كثيرة حتى وإن جاءت ضمن أنساق سردية تقليدية لم تكلّف نفسها عناء الخوض في مجازفة التجريب أو الحداثة الفنية غير مضمونة العواقب.



أنا والمعري ورسالة الغفران

تدشين نصب تذكاري لأبي العلاء عام 2023 في ضواحي العاصمة الفرنسية. وهو من إنجاز النحات السوري عاضم الباشا.
تدشين نصب تذكاري لأبي العلاء عام 2023 في ضواحي العاصمة الفرنسية. وهو من إنجاز النحات السوري عاضم الباشا.
TT

أنا والمعري ورسالة الغفران

تدشين نصب تذكاري لأبي العلاء عام 2023 في ضواحي العاصمة الفرنسية. وهو من إنجاز النحات السوري عاضم الباشا.
تدشين نصب تذكاري لأبي العلاء عام 2023 في ضواحي العاصمة الفرنسية. وهو من إنجاز النحات السوري عاضم الباشا.

في كتابي الأخير الصادر عن «دار المدى» بعنوان «العباقرة وتنوير الشعوب»، أزعم أني ارتفعت إلى مستوى المعري في رسالة الغفران. صدقوا أو لا تصدقوا، أنتم أحرار. لماذا كل هذه الفخفخة والمنفخة؟ لماذا كل هذه الغطرسة الفارغة؟ هذه ليست من شيمي وعاداتي. بل إن عاداتي العكس تماماً؛ أي التضاؤل والتصاغر إلى درجة الاضمحلال. وقد لامني على ذلك، برفق، سمير عطا الله يوماً ما. عاداتي المزمنة والمتواصلة هي أنني أختبئ وراء أساتذتي الكبار. ولكن هذه المرة أصابتني نوبة مفاجئة من جنون العظمة ولا أعرف لماذا. ولله في خلقه شؤون. وعلى ذكر رسالة الغفران، ينبغي العلم أنها ترجمت إلى الفرنسية عام 1984. وصدرت عن أشهر دار نشر باريسية: «غاليمار» في 320 صفحة. ولكن من يستطيع أن يشتريها: 150 يورو فقط. من يصدق ذلك؟ من يستطيع ترجمتها؟ حتى في العربية يصعب فهمها، فما بالك بالفرنسية. ينبغي أن نترجمها أولاً إلى العربية الحديثة قبل الفرنسية. ولكن لا يسعنا إلا أن نشكر المستشرق الفرنسي فانسان مونتيل على هذا الجهد الكبير والشاق العسير الذي بذله في نقل إحدى روائع أدبنا الكبرى إلى لغة موليير وفولتير. شكراً له وألف شكر. كيف استطاع تحقيق ذلك؟ معجزة حقيقية. والباحث المذكور أصبح اسمه الكامل فانسان منصور مونتيل عندما اعتنق الإسلام بعد أن أعجب به كل الإعجاب: ديناً وفلسفة وحضارة.

كان ديكارت يقول هذه العبارة اللافتة: الفيلسوف يتقدم مقنّعاً على مسرح التاريخ. بمعنى أنه لا يستطيع أن يكشف كل أوراقه دفعة واحدة، وإلا لكانوا قد ذبحوه حتى قبل أن يفتح فمه. إنه مجبر على أن يضع قناعاً على وجهه لكي يستطيع أن يُكمل مهمته على أفضل وجه ممكن، لكي يستطيع أن ينجز مؤلفاته وكشوفاته الكبرى قبل أن يقتلوه. وما هي مهمته في الحياة؟ تفكيك الأفكار التراثية الشعبوية الطاغية التي تتخذ صفة اليقينيات المطلقة التي لا تقبل النقاش. هل نعلم بأن المعري طبق هذه القاعدة حرفياً قبل ديكارت بسبعة قرون؟ وراء كل صفحة من صفحات رسالة الغفران تقريباً تبدو شخصية المعري مقنعة وماكرة إلى أقصى الحدود. إنه مجبر على الظهور بمظهر الإنسان المتدين التراثي التقليدي الذي لا تشوبه شائبة. ولكن خلف ذلك تكمن شخصيته الحقيقية. يكفي أن نقرأ ما بين السطور أو ما خلف السطور لكي ندرك ذلك. إنه يحلف بأغلظ الأيمان أنه مخلص كل الإخلاص للتصورات التراثية وملتزم بها كلياً. ولذلك ينبغي أن نقرأ رسالة الغفران قراءة مبطنة عميقة لكي نفهمها على حقيقتها. المعري أكثر مكراً مما نظن. تكاد تموت من الفرح والابتهاج، تكاد تنفجر من الضحك والانشراح، عندما تقرأ رسالة الغفران. لست بحاجة لأن تذهب إلى المسرح أو السينما لكي ترفّه عن نفسك. يكفي أن تقرأها. مسرحها أعظم وأكبر من كل المسارح العالمية. مسرحها العالم الآخر وجنة عرضها السماوات والأرض. إنك تسرح وتمرح في فضاءات شاسعة واسعة منتشرة على مد النظر. من هنا الطابع التحريري الهائل والإبداعي الخارق لرسالة الغفران.

تشعر بأنك أصبحت أكثر ذكاء عندما تقرأها، هذا إذا ما استطعت أن تصبر عليها حتى النهاية. ولهذا السبب قال عنها عباس محمود العقاد: «إن رسالة الغفران نمط وحدها في آدابنا العربية، وأسلوب شائق، ونسق ظريف في النقد والرواية. إنها فكرة لبقة لا نعلم أن أحداً سبق المعري إليها». هذا أقل ما يمكن أن يقال يا عملاق الفكر العربي. كان بإمكانك أن تقول أكثر بل كان يجب أن تقول أكثر. تأمل جيداً كيف يوزع المعري بكل مهارة واستمتاع، وأكاد أقول بكل خبث ودهاء، مشاهير العرب على الجنة والنار. يقول مثلاً:

«وينظر الشيخ في رياض الجنة فيرى قصرين منيفين فيقول في نفسه: لأبلغن هذين القصرين فأسأل لمن هما؟ فإذا قُرب إليهما رأى على أحدهما مكتوباً: هذا القصر لزُهير بن أبي سُلمى المُزني، وعلى الآخر: هذا القصر لعَبيد بن الأبرص الأسديّ، فيعجب من ذلك ويقول: هذان ماتا في الجاهلية ولكن رحمة ربنا وسعت كل شيء. فيسأل زهير: بم غُفر لك وقد كنت في زمان الفترة والناس هَمَلٌ لا يحسن منهم العمل؟ فيقول: كانت نفسي من الباطل نفوراً، فصادفت ملكاً غفوراً...

ثم ينصرف إلى عبيد فإذا هو قد أُعطي بقاء التأبيد، فيقول: السلام عليك يا أخا بني أسد. فيقول: وعليك السلام، وأهل الجنة أذكياء لا يخالطهم الأغبياء، لعلك تريد أن تسألني بم غُفر لي؟ فيقول: أجل وإن في ذلك لعجباً، أألفيت حُكماً للمغفرة موجباً، ولم يكن عن الرحمة محجباً؟ فيقول عبيد: أُخبرك أني دخلت الهاوية، وكنت قد قلت في الحياة:

من يسأل الناس يحرموه

وسائل الله لا يخيبُ

وسار هذا البيت في آفاق البلاد، فلم يزل يُنشَد ويخف عني العذاب حتى أطلقت من القيود والأصفاد، ثم كُرر إلى أن شملَتني الرحمة ببركة ذلك البيت، وإن الله لغفور رحيم.

فإذا سمع الشيخ - ثبت الله وطأته - ما قال ذانك الرجلان، طمع في سلامة كثير من أصناف الشعراء».

صفحات خالدة

أخيراً، ماذا نستنتج من كل هذه المهزلة، من كل هذه الفضيحة، من كل هذه التحفة العبقرية؟ نستنتج أن المعري استمتع كل الاستمتاع بتوزيع بعض المشاهير على الجنة وبعضهم الآخر على النار. ونستنتج أنه على الرغم من كل تظاهره بالوقار وصحة الاعتقاد لم يسلم من القيل والقال. على العكس، لقد شكوا فيه وكفّروه وزندقوه ومسحوا به الأرض مسحاً كما هو معلوم. وهذا يعني أن القناع الذي وضعه على وجهه لم يَدُم طويلاً ولم ينفعه شيئاً في نهاية المطاف. وهكذا حصل له ما سيحصل لديكارت من بعده بسبعة قرون. فهو الآخر كشف الأصوليون المسيحيون القناع اللاهوتي الكاثوليكي عن وجهه وكفّروه ووضعوا كتبه على لائحة الكتب المحرّمة أو الممنوع قراءتها. بل وقتله أحد الكهنة اللاهوتيين في السويد عن طريق دس السمّ له في القربان المقدّس، كما كشف أحد الباحثين الألمان. وهو اكتشاف انفجر مؤخراً كالقنبلة الموقوتة. ولكن بالله عليكم قولوا لي: من يستطيع أن يستشهد بمقولات شيوخنا القروسطيين التكفيريين في أي مؤتمر عالمي يُعقد عن الإسلام والفكر العربي؟ أتحدى أي مثقف عربي أن يتجرأ على ذلك. ولكن بإمكانك أن تُفحم الغرب كل الغرب بعبقرية شخص كأبي العلاء المعري. بإمكانك أن تفاخر العالم كله برسالة الغفران.