باريس تصعّد دبلوماسياً ضد واشنطن وكانبيرا

خلال أقل من السنوات الخمس الأخيرة التي انقضت من عهد ماكرون، لم تعمد فرنسا إلى استدعاء سفرائها سوى مرتين: الأولى، من روما، في شهر فبراير (شباط) من عام 2019، احتجاجاً على لقاء بين نائب رئيس الوزراء الإيطالي لويجي دي مايو (وزير الخارجية الحالي) مع ممثلين عن حركة «السترات الصفراء»، الأمر الذي اعتبرته باريس وقتها بمثابة «بادرة استفزازية»، والمرة الثانية، من أنقرة، في شهر أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي، للتنديد بتصرفات رئيس الجمهورية التركية رجب طيب أروغان وتصريحاته التي شكك فيها بـ«صحة الرئيس ماكرون العقلية»، واعتبرتها فرنسا «مهينة» و«لا يمكن القبول بها» بحق رئيسها. ولكونها «استثنائية» رغم أنها رمزية بالدرجة الأولى، فإنها تؤشر لحالة الغيظ، بل الغضب الدبلوماسي الذي تتسبب به مبادرات مستفزة. ومنذ ليل الخميس ــ الجمعة، حيث ذاع خبر «الشراكة الاستراتيجية» بين الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وأستراليا، وما استتبعه من فسخ عقد «صفقة القرن» الموقع بين باريس وكانبيرا بقيمة 56 مليار يورو، لشراء 12 غواصة تقليدية من الجيل الجديد واستبدال ثماني غواصات أميركية الصنع تعمل بالدفع النووي به، لم يخرج الرئيس ماكرون عن صمته رغم المناسبات التي توفرت له من أجل التطرق إلى موضوع بالغ الأهمية الدبلوماسية والاستراتيجية والاقتصادية ويمس مصالح فرنسا الأساسية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
باريس جعلت وزير خارجيتها جان إيف لو دريان في المقدمة مدعوماً بوزيرة الدفاع فلورانس بارلي، إلا أن الأول هو المعني بالدرجة الأولى، لأن العقد وقع عندما كان وزيراً للدفاع في حكومات الرئيس فرنسوا هولند المتعاقبة طيلة خمس سنوات، وبالتالي فإن فسخ العقد يمكن اعتباره فشلاً شخصياً له وتبديداً لجهود حثيثة بذلها مع الجانب الأسترالي. وتبدى غضب لو دريان منذ الساعات الأولى في حديثه عن «طعنة في الظهر» بخصوص قرار كانبيرا وتشبيهه أداء الرئيس بايدن بأداء سلفه دونالد ترمب لجهة الفظاظة في التعامل وازدراء علاقات التحالف والشراكة القائمة على ضفتي الأطلسي. كان لافتاً في البيان الصادر عن لو دريان المتضمن استدعاء السفيرين في واشنطن وكانبيرا برونو أتيان وجان ــ بيار تيبو «فوراً للتشاور» أنه جاء بطلب مباشر من الرئيس ماكرون. ومن المهم جداً الالتفات إلى المفردات والعبارات التي تضمنها البيان والمتميزة بقوتها وصرامتها وتبدو مذهلة بالنظر لكونها تتوجه إلى بلدين حليفين لفرنسا: الأول، الولايات المتحدة التي ترتبط بها باريس بعلاقة تاريخية تعود لما قبل قيامها كدولة نظراً للدور الذي قامت به القوات الفرنسية الملكية في مساعدة الثوار الأميركيين في حربهم ضد المستعمر الإنجليزي. وفي كل المناسبات الثنائية يحرص الطرفان على التذكير بهذا الفعل «التأسيسي» كما يحرصان على الإشارة إلى أن القوات الأميركية هبت مرتين لنجدة فرنسا إبان الحربين العالميتين الأولى والثانية.
وتكفي زيارة منطقة نورماندي (شمال غرب فرنسا) وتحديداً مقابر الجنود الأميركيين الذين سقطوا في معارك الإنزال ضد المحتل الألماني للتثبت من أهمية رابطة الدم. ثم إن باريس وواشنطن عضوان رئيسيان في الحلف الأطلسي وشريكان سياسيان ودبلوماسيان وعضوان رئيسيان في مجلس الأمن. أما بالنسبة لأستراليا، فلأنها شريك متعدد الصفات بالنسبة لباريس التي كانت تعول على «صفقة القرن» الممتدة إلى خمسين عاماً، لتوثيق وتعزيز علاقاتها مع أستراليا القريبة من ممتلكاتها في كاليدونيا الجديدة، المشكَّلة من مجموعة جزر والواقعة في جنوب المحيط الهادئ.
وفي السنوات الأخيرة، تكاثرت الزيارات بين الطرفين وتحوّلت أستراليا إلى أحد أركان الدبلوماسية الدفاعية التي تعتمدها باريس المعنية مباشرة بما يحصل في هذه المنطقة، بما في ذلك مواجهة التمدد الصيني الذي تم إيجاد الشراكة الاستراتيجية الجديدة من أجل مواجهته. جاء في حرفية بيان لو دريان ما يلي: «بناء على طلب من رئيس الجمهورية، قررت استدعاء سفيري فرنسا في الولايات المتحدة الأميركية وأستراليا فوراً للتشاور. وهذا القرار الاستثنائي تبرره الخطورة الاستثنائية لما أعلنه هذان البلدان في 15 سبتمبر (أيلول). إن التخلي عن عقد بيع الغواصات المحيطية الذي يربط أستراليا وفرنسا منذ عام 2016 والإعلان عن شراكة جديدة مع الولايات المتحدة الهادفة إلى إطلاق الدراسات من أجل تعاون مستقبلي (لحيازة) غواصات تعمل بالدفع النووي يعدان تصرفات لا يمكن القبول بها بين حلفاء وشركاء وإن النتائج المترتبة عليهما تمسان مفهومنا للتحالفات والشراكات وأهمية منطقة المحيطين الهندي والهادئ بالنسبة لأوروبا». وكما هو بين، فإن باريس تترك جانباً بريطانيا، الطرف الثالث في الشراكة الجديدة باعتبار أن هناك طرفين مخطئين بحقها: الأول، أستراليا التي تخلت عن عقد ضخم ورئيسي جارٍ تنفيذه رغم التأخر الذي لحق به من الناحية الفنية ولأنها لم تعمد إلى إبلاغ باريس برغبتها في فسخه وهي الرواية التي تناقضها كانبيرا، والطرف الثاني هو واشنطن التي تأخذ عليها باريس فظاظتها في التعامل وأحادية تصرفها ونسفها لبرنامج تعاون رئيسي وأساسي بالنسبة لفرنسا في منطقة تعتبرها بالغة الأهمية لها وللاتحاد الأوروبي سياسياً وأمنياً واستراتيجياً واقتصادياً. وعلى سبيل المثال، فإن الاستثمارات الأوروبية في المنطقة بلغت 12 ألف مليار دولار في السنوات الأخيرة. يضاف إلى ذلك أن «الشراكة الجديدة» الموجهة تحديداً ضد الصين يبدو أن غرضها كان إخراج فرنسا ومعها النادي الأوروبي من المعادلة والتركيز على 3 بلدان أنجلو - فونية.
وبحسب مصادر فرنسية رسمية، فإن العجب أن الرئيس بايدن لم يأخذ بعين الاعتبار المصالح الأوروبية بينما سعى، خلال قمة الحلف الأطلسي التي عقدت في بروكسل في شهر يونيو (حزيران) الماضي، إلى محاولة تعبئة الأوروبيين في مواجهته مع الصين. والحال أن عدداً من البلدان الأوروبية وعلى رأسها فرنسا وألمانيا، قاومت هذا التوجه، بل إن الرئيس ماكرون عبر عن معارضته في جملة شهيرة حين قال: «الحلف الأطلسي ليس معنياً بالصين وإلا فإن الخريطة (الجغرافية) التي اعتمد عليها تحتوي بعض الأخطاء». ومن المصادفات أن الإعلان عن الشراكة الجديدة تم بينما كان الاتحاد الأوروبي بصدد الكشف عن خططه الجديدة في التعامل مع الصين. وأهم ما جاءت به هذه الخطة التركيز على مسائل التعاون في ميداني البيئة وحمايتها والأبحاث السيبرانية والحاجة للتعاون بشأن الملفات الخلافية وحقوق الإنسان... ولكن الأوروبيين لم يعينوا الصين «منافساً استراتيجياً شاملاً»، وفق التصنيف الأميركي.
يرى المراقبون في باريس أن الأزمة الراهنة مع واشنطن تذكر بالأزمة التي نشبت بين الطرفين في عام 2003 بخصوص غزو العراق الذي كانت تخطط له واشنطن ولندن بحجة إخفائه أسلحة دمار شامل «نووية وكيميائية». وقتها، وإبان ولاية الرئيس الأسبق الديغولي جاك شيراك هددت باريس باللجوء إلى حق النقد (الفيتو) ضد أي قرار يقدم بهذا المعنى إلى مجلس الأمن الدولي. والغزو حصل من غير قرار جديد من الأمم المتحدة والنتيجة كانت قطيعة أميركية ــ فرنسية ودعوات لمقاطعة البضائع الفرنسية.
ويتذكر الجميع أن الأميركيين قاموا بإعادة تسمية البطاطس المقلية بالتخلي عن تسمية «البطاطس الفرنسية» لصالح «بطاطس الحرية». والسؤال اليوم يتناول الإجراءات التي يمكن لباريس القيام بها إزاء كانبيرا وواشنطن.
في الجانب الأسترالي، ثمة أمران لافتان: الأول، تهديد باريس بدعم أوروبي بإعاقة التوصل إلى اتفاقية للتجارة الحرة بين أستراليا والاتحاد الأوروبي، وهو ما أشار إليه وزير الشؤون الأوروبية كليمان بون ودعمه في ذلك وزير الخارجية الأوروبي جوزيب بوريل. والثاني، مطالبة شركة «نافال غروب» الفرنسية بتعويضات عن فسخ العقد. وينتظر أن تنطلق سريعاً مفاوضات بين الطرفين لتقييم هذه التعويضات، ولكن يتم الحديث في برايس عن مئات الملايين من اليوروهات. أما فيما خص واشنطن، فإن البارز أن الإدارة الأميركية تسعى بقوة لرأب الصدع. يضاف إلى ذلك أن السفير الفرنسي في واشنطن برونو أتيان تم استقباله مرتين في البيت الأبيض، فيما اتصل وزير الدفاع لويد أوستن بنظيرته الفرنسية فلورانس بارلي. وكل هذه الاتصالات تشدد على عمق وصلابة العلاقات بين الطرفين. ولا شك أن الأسبوع المقبل سيشهد مزيداً من الاتصالات بمناسبة انطلاق الأعمال السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة، وسيكون الوزير لو دريان في نيويورك هناك، ومن المتوقع حصول لقاءات ثنائية فرنسية - أميركية على هامشها. وحتى اليوم، لم يصدر تأكيد لسفر الرئيس ماكرون إلى نيويورك. وفي حال تمت هذه الخطوة، فمن المرجح لقاؤه مع نظيره بايدن وستكون العلاقة بين البلدين بطبيعة الحال من ضمن موضوعات التباحث.