صديق أم عدو... أم مجرد «علاقة براغماتية»؟

عربة عسكرية روسية في ريف القامشلي شمال شرقي سوريا في 4 فبراير الماضي (أ.ف.ب)
عربة عسكرية روسية في ريف القامشلي شمال شرقي سوريا في 4 فبراير الماضي (أ.ف.ب)
TT

صديق أم عدو... أم مجرد «علاقة براغماتية»؟

عربة عسكرية روسية في ريف القامشلي شمال شرقي سوريا في 4 فبراير الماضي (أ.ف.ب)
عربة عسكرية روسية في ريف القامشلي شمال شرقي سوريا في 4 فبراير الماضي (أ.ف.ب)

لطالما كان للعلاقات التركية - الروسية عمق تاريخي يتسم في الغالب بالصراع، فقد خاضت الإمبراطورية العثمانية وروسيا القيصرية عشرات الحروب، وكانتا خلال الحرب العالمية الأولى على طرفي نقيض، وقد تمتعت الاثنتان بعلاقات تتراوح بين المقبولة والجيدة خلال حرب الاستقلال التركية. ولكن حتى في ذلك الحين، لم تكن الأمور جيدة كما كانت تبدو.
فبعد الحرب العالمية الثانية، طالب السوفيات ببعض الأراضي التركية في شرق الأناضول، وشككوا في سيادة البلاد على المضائق التركية، فيما انضمت أنقرة إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) في عام 1952، وظلت في الجناح الجنوبي للحلف طوال فترة الحرب الباردة. ولكن بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، دخلت تركيا وروسيا في منافسة على ما يحب بعضهم تسميته «اللعبة الجديدة الكبرى من أجل القوقاز وآسيا الوسطى».
وفي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، اضطر تتار القرم والشركس والنوغيين (مجموعة عرقية تركية تعيش في منطقة شمال القوقاز)، وغيرهم كثير من شعوب الإمبراطورية العثمانية المتقلصة، إلى الفرار من ديار أجدادهم بسبب التقدم الروسي. وهؤلاء الأشخاص الذين وجدوا في الأناضول مستقراً جديداً لهم كانوا أيضاً عاملاً في تشكيل العلاقات التركية - الروسية.
وبالنظر لهذه الخلفية، وفي إطار البيئة والتطورات الاستراتيجية الجديدة على الساحة الدولية، اكتسبت العلاقات التركية - الروسية زخماً جديداً في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
- بوتين وإردوغان
ينظر كثيرون إلى الرئيسين التركي رجب طيب إردوغان والروسي فلاديمير بوتين على أنهما متشابهان في طريقتهما في ممارسة السياسة بشكل عام. صحيح أنهما قد لا يكونان أفضل صديقين (الصداقة التي تحددها المثل العليا وأنماط الحياة المشتركة)، لكنهما أقاما شكلاً من أشكال علاقات العمل التي تقوم على أساس المصلحة والمنفعة المتبادلة، وهي العلاقة التي تؤدي دوراً رئيسياً، بل مركزياً، في إدارة العلاقات التركية - الروسية في الوقت الحالي.
وتبدو العلاقات الثنائية الآن بين البلدين نشطة للغاية، إذ يبلغ حجم التجارة بينهما 25 مليار دولار أميركي، في المتوسط، حيث بلغ في وقت ما نحو 30 مليار دولار أميركي. وعلى الرغم من انخفاض حصتها، لا تزال روسيا هي المورِّد الرئيسي للطاقة إلى تركيا، حيث توفر لها 34 في المائة من الغاز الطبيعي، و11 في المائة من النفط، فيما تتمثل الصادرات التركية إلى روسيا بشكل أساسي في المنتجات الزراعية والآلات والمركبات والمنسوجات.
وبشكل عام، فإن نحو 80 في المائة من حجم التجارة الثنائية يصب في صالح روسيا، ولكن تركيا تعوض هذا النقص في مجالات الخدمات والبناء، حيث لا تزال أنقرة هي الوجهة الرئيسية للروس الذين يعشقون منتجعاتها ذات الأسعار المعتدلة الشاملة للخدمات كافة، حيث وصل عدد السياح الروس إلى تركيا عام 2019 إلى 7 ملايين سائح. أما بالنسبة لقطاع البناء، فقد أنجزت تركيا حتى الآن نحو 1980 مشروعاً في موسكو، بقيمة إجمالية تبلغ نحو 75 مليار دولار أميركي.
وتُعد تركيا، أيضاً، بمثابة ناقل للغاز الطبيعي الروسي. وأحدث مشروع مشترك في هذه المنطقة هو مشروع «ترك ستريم» الذي تم افتتاحه رسمياً في عام 2020، والذي يربط روسيا وتركيا بخطين من خطوط الأنابيب البحرية بطول 930 كيلومتراً تحت البحر الأسود، ويجلب أحدهما الغاز الطبيعي إلى تركيا، فيما يعد الآخر مخصصاً للغاز الموجه إلى أوروبا.
وهناك كذلك محطة «أكويو» للطاقة النووية التي تقدر تكلفتها الإجمالية بـ20 مليار دولار أميركي، والتي تمثل مجال تعاون ذا قيمة استراتيجية أخرى بين البلدين. ومن المقرر أن يبدأ تشغيل مفاعلها الأول في عام 2023.
وعلى المسرح العالمي، تستمر روسيا وتركيا في مواجهة إحداهما الأخرى في أماكن مختلفة، مثل سوريا وأوكرانيا وليبيا وجنوب القوقاز، حيث تكونان في الغالب في جانبين متعارضين، كما أنهما في بعض الأحيان تؤذيان إحداهما الأخرى، ولكنهما نجحتا -بشكل عام- في إنشاء شكل من أشكال الحوار والتعاون في كل المسارح التي تتضمن وجودهما فيها معاً.
- صدع في إدلب
وتعد روسيا طرفاً فاعلاً رئيسياً في سوريا، كما أنها ناشطة عسكرياً في المعركة هناك. وقد مهدت عملية آستانة الطريق للتعاون بين أنقرة وموسكو، ولكن احتمال حدوث صدع لا يزال موجوداً إلى حد كبير، لا سيما في إدلب. فعلى الرغم من اتفاق عام 2018، استولى النظام السوري وروسيا على نصف المحافظة. وتضم المعارضة الموجودة في إدلب التي يتم استهدافها بشكل متكرر من قبل النظام آلاف المسلحين من «هيئة تحرير الشام» وغيرها من الجماعات المتطرفة في الغالب.
وفي مؤتمر صحافي عقده وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في موسكو، يوم 9 سبتمبر (أيلول)، مع وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لبيد، قال لافروف: «يحتاج الزملاء الأتراك إلى تنفيذ الاتفاقات التي توصل إليها رئيسا روسيا وتركيا في سبتمبر (أيلول) 2018، وتنص هذه الاتفاقات على فصل المعارضة الطبيعية المعقولة عن الإرهابيين، وبشكل أساسي عن (هيئة تحرير الشام). صحيح أن هذا العمل جارٍ، ولكنه للأسف لم يكتمل بعد». وفي سياق التطورات الأخيرة في درعا، قال لافروف: «بالنسبة لدرعا، وعلى مستوى أوسع في سوريا، فإنه لا يجب أن تسيطر أي فصائل مسلحة غير الجيش السوري على أي أرض».
ويمكن اعتبار ما يقوله لافروف بمثابة رسالة لما يمكن توقعه في المستقبل. فما سيحدث لإدلب، وسكانها البالغ عددهم 3.4 مليون نسمة، في حال شن حملة عسكرية شاملة من قبل نظام الأسد والروس، يشير إلى احتمال المواجهة. وفي هذا الصدد، فإن الهجوم الذي تم على دورية تركية في إدلب، وأدى لمقتل جنديين تركيين، وإصابة 3 آخرين، يبدو أنه جاء في وقت حرج. فقد كانت حادثة 24 نوفمبر (تشرين الثاني) 2015، عندما أسقطت تركيا طائرة عسكرية روسية من طراز (SU-24) في سوريا، بمثابة مثال واضح على الكيفية التي يمكن أن تتحول بها الأمور بين البلدين، إذ أوقفت روسيا كل خدمات الشركات التركية تقريباً في أراضيها، فضلاً عن منع زيارة الروس لتركيا، كما تأثرت الأنشطة العسكرية التركية في سوريا بشكل خطير، وعززت روسيا وجودها في دمشق بمعدات عسكرية متطورة، بما في ذلك أنظمة الدفاع الجوي. وقد تطلب إصلاح العلاقات كثيرًا من الجهد، واستغرق الأمر نحو عام.
وفي ليبيا، واجهت تركيا وروسيا إحداهما الأخرى بعناصر قتالية مختلفة. فقد أدى التدخل التركي، بطلب من حكومة الوفاق الوطني الليبية، إلى تغيير مسار الحرب. صحيح أن روسيا والدول المؤيدة لموقفها في ليبيا لم ينتهِ بهم الأمر إلى السيطرة على الأوضاع، ولكن لا يبدو أنهم غير راضين عن مجريات الأحداث، على الأقل في الوقت الحالي.
- صدام في القوقاز
وفي عام 2020، تمكنت أذربيجان، بدعم من تركيا، من استرجاع أراضيها الواقعة تحت الاحتلال الأرميني. وحينها، استطاعت أنقرة وضع بصماتها في القوقاز، لتثبت أنها قوة لها أهميتها هناك، كما عززت تحالفها مع أذربيجان، وسجلت نقاطاً عدة لدى حلفائها في القوقاز وآسيا الوسطى. ومن جانب روسيا، فإن رئيس الوزراء الأرميني، نيكول باشينيان، الذي لم يكن صديقاً لموسكو لم يتعلم الدرس. فقد تمكنت الأخيرة من هندسة قرار وقف إطلاق النار. وبموجب شروط الاتفاق، استرجعت أذربيجان أراضيها لأول مرة منذ عام 1990. وعلى أي حال، فقد لعبت كل من تركيا وروسيا دوراً جيداً في منع الأمور من اتخاذ شكل مختلف، والتحول إلى صراع فيما بينهما في هذه الساحة.
أما في أوكرانيا، فإن تركيا وروسيا تقفان على طرفي نقيض، وذلك لأن موقف أنقرة المعلن صراحة هو أنها لا تعترف بضم شبه جزيرة القرم. ولا يبدو أن روسيا تمانع في ذلك، ما دام أن المواقف السياسية لم تتحول إلى شكل من أشكال العمل الفعلي. ولكن الروس يتابعون ببعض الاستياء والقلق التعاون الدفاعي الأخير بين تركيا وأوكرانيا، لا سيما نقل الطائرات التركية المقاتلة من دون طيار.
وقد تصبح أفغانستان ملفاً آخر إما للتعاون أو المواجهة بين البلدين، وذلك حسب كيفية تطور الأمور هناك. والأسباب ليست واضحة تماماً للجميع، لكن يبدو أن تركيا حريصة على لعب دور في كابول الجديدة، فيما تنظر روسيا إلى أفغانستان -بشكل أساسي- من وجهة نظر أمنية، مع اهتمام خاص بدول آسيا الوسطى. فهذه المنطقة مهمة لروسيا، من حيث قيمتها الاستراتيجية، ولكونها الجوار الخارجي القريب منها، كما أنها مهمة لمنظمة الأمن الجماعي التي تقودها موسكو.
وهناك قضية أخرى ذات أهمية خاصة، وذلك من زاوية حلف الأطلسي (الناتو)، وهي البحر الأسود واتفاقية مونترو (اتفاقية عقدت في مونترو في 1936، منحت تركيا السيطرة على مضيقي البوسفور والدردنيل التركيين)، إذ لا تريد روسيا وجود سفن حلف شمال الأطلسي في البحر الأسود، وتصر على الحفاظ على الاتفاقية التي تنظم مرور السفن الحربية عبر المضيق التركي، وتحد من وجودها. وقد أثار مشروع قناة إسطنبول الذي تم تسويقه سياسياً من قبل الرئيس التركي بعض التساؤلات حول ما إذا كان سيتعين تغيير الاتفاقية أم لا. لكن لا يبدو أن موقف تركيا يتعارض مع موقف روسيا في هذه القضية.
- «إس ـ 400»
وكان أهم تطور في العلاقات الثنائية بين أنقرة وموسكو هو التداعيات بعيدة المدى لاستحواذ تركيا على أنظمة الدفاع الجوي «إس-400» من روسيا، حيث ردت الولايات المتحدة وبعض الحلفاء الآخرين في «الناتو» بقوة على الأمر، حتى ذهبوا إلى حد فرض عقوبات ينص عليها قانون مكافحة خصوم أميركا على تركيا، فيما تواصل كثير من الدول الغربية تقديم قضية «إس-400» بصفتها دليلاً آخر على ابتعاد تركيا عن «الناتو» والغرب.
أما الجانب التركي من القصة، فيبدو مختلفاً تماماً. فقد ظلت تركيا، لبعض الوقت، تشعر بمعاملة غير عادلة من قبل الاتحاد الأوروبي، والغرب بشكل عام، كما شعرت بأنها مهملة من قبل الحلفاء في عدد من المناسبات. وتشهد مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي حالة من الجمود العميق، فيما أصبحت مبيعات الأسلحة من كثير من دول الحلفاء، بما في ذلك الولايات المتحدة الأميركية وكندا وفرنسا وألمانيا، إما مقيدة أو محظورة تماماً في بعض الحالات.
وأكدت تركيا أنها حاولت شراء أنظمة دفاع جوي من الولايات المتحدة ودول غربية أخرى، لكنها قوبلت بالرفض. وفي المقابل، كانت روسيا مستعدة للغاية لبيع الأسلحة لأنقرة، واختارتها تركيا بصفتها المكان الذي يمكنها شراء النظام الدفاعي منه، والذي تشتد الحاجة إليه. حتى أن الأتراك، من مختلف المعتقدات السياسية، الذين نادراً ما يتفقون على أي شيء، لديهم الرأي نفسه القائل إن تحركات بلادهم ليست بدافع الحب لروسيا، ولكنها نتيجة للمعاملة السيئة لحلفائها الغربيين وشركائها.
وعلى أي حال، فإن روسيا تبدو سعيدة. فقد تمكنت من بيع أحد أنظمة أسلحتها التي تبلغ قيمتها مليارات الدولارات، وخلقت صدعاً داخل «الناتو»، وزادت من اضطراب العلاقات المتوترة بالفعل بين تركيا والغرب.
صحيح أن تركيا عضو في التحالف الذي تُعد روسيا التهديد الرئيسي له في البيئة الأمنية المتدهورة حالياً، ولكن لا يوجد ما يمنع أنقرة، أو أي دولة أخرى في «الناتو»، من الانخراط مع روسيا في مختلف المجالات، وذلك على أساس المنفعة والاحترام المتبادلين، بشكل لا يتناقض مع التزاماتها في الحلف.
وفي الختام، فإنه قد يكون لتركيا وروسيا مواقف متباينة بشأن عدد من القضايا التي يحمل بعضها احتمالات المواجهة المباشرة أو غير المباشرة، ولكن في الوقت الحالي يبدو أن البراغماتية هي التي تحكم علاقات الطرفين. وعلى الرغم من أنه قد تكون هناك حاجة إلى كثير من الصبر وغض الطرف من حين لآخر في هذه العلاقات، فإنه يبدو أن كلا البلدين يدرك أن الحوار والتعاون سيكون أفضل من المواجهة، ما دام ذلك ممكناً.
- خاص بـ«الشرق الأوسط»



«دبلوماسية البندورة» تخرق المقاطعة بين أنقرة وتل أبيب... بوساطة فلسطينية

بائع خضار ينسق علب البندورة في سوق خضار في تل أبيب (غيتي)
بائع خضار ينسق علب البندورة في سوق خضار في تل أبيب (غيتي)
TT

«دبلوماسية البندورة» تخرق المقاطعة بين أنقرة وتل أبيب... بوساطة فلسطينية

بائع خضار ينسق علب البندورة في سوق خضار في تل أبيب (غيتي)
بائع خضار ينسق علب البندورة في سوق خضار في تل أبيب (غيتي)

في بداية الحرب غضب الإسرائيليون كثيراً على الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، ليس فقط لأنه شبَّه الحرب العدوانية على غزة بجرائم النازية، بل لأنه أعلن مقاطعة اقتصادية لإسرائيل. وردَّ عليه وزير الخارجية الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، آنذاك بإعلان مقاطعة مضادة. وأعلن وزير المالية، بتسلئيل سموتريتش، عن رفع نسبة الجمارك على كل البضائع التي تصل من تركيا بنسبة 100 في المائة، فيما أُلغيت الرحلات المباشرة التي كانت مزدهرة بين البلدين وكانت تصل في مواسم الذروة السياحية إلى 40 رحلة جوية في اليوم.

كان الهدف الذي وضعته الحكومتان من زيادة قيمة التبادل التجاري من 9 مليارات دولار في سنة 2022 إلى 10 مليارات في 2023، لم يتحقق، بل تراجع إلى 7.5 مليار بمعدل 5.3 مليار دولار استيراد من تركيا، والبقية صادرات إسرائيلية إلى تركيا.

ونظراً إلى أن قسماً كبيراً من الواردات من تركيا يتعلق بمواد البناء (22 في المائة) والمنتجات الزراعية (9 في المائة)، فقد بدا أن فرع البناء الإسرائيلي سيواجه أزمة شديدة. أما فرع الزراعة فسيواجه أزمة خطيرة، لأن السوق الإسرائيلية كانت تعتمد أيضاً على منتجات فلسطينية من قطاع غزة.

وظهرت الأزمة فوراً في إسرائيل، إذ قفزت أسعار الخضراوات والفاكهة عشرات النسب المئوية. وأسهم ذلك في ارتفاع نسبة التضخم. وأُضيفت إلى ذلك عناصر أخرى تسببت في خسائر اقتصادية فادحة في إسرائيل من جراء الحرب.

وفي مطلع الأسبوع، أكد وزير المالية سموتريتش، ما قاله قبل عدة شهور، محافظ بنك إسرائيل، أمير يارون، من أن تكلفة الحرب على غزة ستصل إلى 250 مليار شيقل، أي نحو 67 مليار دولار حتى 2025، محذراً من أنه لا يمكن إعطاء شيك مفتوح للجيش في الإنفاق الأمني. وقال سموتريتش: «نحن في الحرب الأطول والأكثر تكلفة في تاريخ دولة إسرائيل، مع إنفاق مباشر بمبلغ 200 – 250 مليار شيقل (الدولار يساوي اليوم 3.7 شيقل)».

رجل يعبر وسط شارع البورصة في تل أبيب (غيتي)

البندورة المنقذة

هنا، تدخلت البندورة. البندورة التركية بشكل خاص.

فقبل الحرب كانت إسرائيل تستورد نحو 1.2 ألف طن في الأسبوع، تشكل 30 في المائة من الكميات التي يستهلكها الإسرائيليون. ووقف توريدها تسبب في أزمة، نظراً إلى أن بقية الإنتاج في إسرائيل تعطَّل بسبب الحرب. فالحقول التي تنتج البندورة هي تلك القائمة غربي النقب، على حدود غزة. والحرب منعت قطافها.

في البداية استوردت إسرائيل من الأردن 500 طن من البندورة. لكنَّ هذه الكمية لا تكفي الاستهلاك المحلي وليس من سوق بديلة. وإذ بدأت أسعار الفواكه والخضار تقفز أيضاً وتزعج المواطنين، جاء الحل من تركيا.

فبعد مداولات طويلة في الدوائر الحكومية المتخصصة، تبخرت الاتهامات الموجَّهة إلى إردوغان. وقررت الحكومة الإسرائيلية الامتناع عن أي إجراء مقاطعة لتركيا. وحاول الإعلام الإسرائيلي معرفة سر هذا التحول، ولم يجتهد كثيراً. البندورة أعطت الجواب. فقد تبين أنه من وراء الكواليس، وبلا ضجيج، وصلت إلى إسرائيل كميات كبيرة من البندورة التركية قاربت 700 طن في أسبوع واحد. وبنفس الطريقة وصلت كميات كبيرة من البضائع الأخرى.

سوق خضار في تل أبيب (غيتي)

كيف تم ذلك؟

ببساطة، وافقت الدولتان على تنظيم عملية التفاف على قرارات المقاطعة. يدير هذه العملية التجار في البلدين، بمعرفة السلطات. لكن، وكي لا يظهر الأمر على أنه خرق للقانون ودوس على قرارات القيادات العليا، يتم إرسال البضائع من تركيا باعتبار أنها موجهة إلى فلسطين. ويتم تسجيلها فعلاً باسم تجار فلسطينيين من الضفة الغربية، الذين يقبضون عمولة غير قليلة. والبضائع التي تصل عادةً إلى السلطة الفلسطينية تمر عبر الموانئ الإسرائيلية. وبعد تحريرها من الجمرك الإسرائيلي يتسلمها الوكلاء الفلسطينيون ويسلمونها إلى التجار الإسرائيليين. وعندما سلكت الأمور واستقرت أسبوعاً تلو أسبوع، لم تعد هناك حاجة لأن يحضر التجار الفلسطينيون إلى الموانئ، وأوكلوا المهمة لوكلاء إسرائيليين يحصلون على البضاعة ويرسلون العمولة مباشرة إليهم.

وكُشف النقاب هذا الأسبوع عن أمر صادر في 26 أغسطس (آب) الماضي عن وزارة الزراعة، يتيح استيراد البندورة من تركيا رغم الحظر، وذلك عن طريق دولة ثالثة، شرط أن يكون مسار نقل هذه البضائع واضحاً بدقة

جدوى المقاطعة

السؤال هو: هل هذا النمط التركي فريد ووحيد، أم أن دول أخرى تتبعه، فتعلن المقاطعة لكنها تجد وسيلة التفافية للاستمرار في العلاقات فتعلن مقاطعة إسرائيل لكن على أرض الواقع تجد بدائل؟

يقول د. موشي بن ديفيد (72 عاماً)، وهو دكتور في التاريخ وفلسفة الأفكار، وعقيد في جيش الاحتياط الإسرائيلي، وخدم في الجيش بالأساس في سلاح الاستخبارات العسكرية، إن المقاطعة غير ممكنة في عصرنا. ويضيف: «غنيٌّ عن القول إنه كان بالإمكان أن يكون حالنا أفضل بكثير، لولا الحرب. لكن علينا الاعتراف بصراحة أنّ النقص في الموارد وفي المقاتلين، وحظر الأسلحة، أو المقاطعة والعزلة الدوليّة، ليست أسباباً كافية لوقف الحرب في هذه المرحلة، أولاً لأن هذه الأمور بدأت تتغيّر. وفقط إذا أتاحت الولايات المُتّحدة لمجلس الأمن أن يرفع بطاقة حمراء لا سمح الله، يمكن الحديث عن مقاطعة مؤثرة، لكنَّ الولايات المتحدة لا تفعل ذلك».

الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في البرلمان لحضور خطاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس (إ.ب.أ)

ويرى بن ديفيد، الذي يعد من المقربين من نتنياهو، أن «تكلفة الحرب الإسرائيلية كبيرة جداً وثقيلة ولكنها غير صعبة الاحتمال». ويقول، خلال ندوة في تل أبيب، إن التقدير لدى محافظ بنك إسرائيل في شهر مايو (أيار) الأخير ولدى وزير المالية اليوم بأن تكلفة الحرب في السنوات ما بين 2023 و2025 ستبلغ 250 مليار شيقل، تشمل كل التكاليف المباشرة من تشغيل طائرات، وذخائر، ووقود، وغذاء، وأيّام خدمة جنود الاحتياط، وإخلاء المواطنين من الشمال والجنوب، وإعادة تأهيل المصابين، وما شابه ذلك، والتكاليف غير المباشرة مثل أضرار السياحة، وتعويضات مستقبليّة لرجال الأعمال، والبيوت والأملاك المُتضرّرة.

لكنَّ إسرائيل تمتلك احتياطياً بقيمة 200 مليار دولار، ويدرك السوق أنّ «لدينا عدّة مخازن مليئة بالمواد الحيوية تعافت بأعجوبة منذ اندلاع الحرب حتّى اليوم»، على ما قال بن ديفيد. ويتابع: «يبلغ الناتج المحلّي الإجمالي في وضعنا الحالي نحو 400 مليار دولار، وهو قريب جداً مما كان عليه الحال قبل السابع من أكتوبر (تشرين الأول). ويشير الإنفاق اليومي من خلال بطاقات الائتمان، الذي يُشكّل 50 في المائة من الناتج المحلّي الإجماليّ، من ضمن أمور أخرى، إلى قدرات المستهلكين الاقتصاديّة، وإلى ميل هامشي للاستهلاك، وهو ارتفع بنحو 25 في المائة. وكذلك الحال بالنسبة لمعدّل العائد السنوي لسداد السندات الحكوميّة، الذي يعكس توقّعات المستثمرين بالربح، إذ ارتفع بالفعل إلى 5 في المائة، أكثر بما يقارب نصف في المائة من ذروته في فترة جائحة كورونا، لكنّه توقّف عند هذا الحدّ».

وأضاف بن ديفيد: «نجحت وزارة الماليّة في تجنيد الأموال حتّى في هذه الفترة، والتقدير هو أنّ المؤسّسات ستنشئ طلبات سندات بقيمة 100 مليار شيقل، ستحوَّل إلى خزينة الدولة خلال هذا العام. هذا على الرغم من علاوة المخاطرة لإسرائيل الممتدّة على 5 أعوام بنسبة 1.4 في المائة، والتي عرضتها وزارة الماليّة الأميركيّة العام الماضي».

من جهته، تباهى سموتريتش بأن «خروج المستثمرين الأجانب من البورصة في تل أبيب، والذي وصل إلى نحو 34 مليار في الربع الأخير من عام 2023، قد توقف ولا يتعدّى الآن نسبة 1 في المائة. يصل ملف الأملاك الماليّة العامّة إلى قيمة 5.68 تريليون شيقل، وهي أعلى قيمة له تاريخياً. ويتعافى مجال العقارات، إذ ترتفع أسعار الشقق مُجدّداً». ويضيف: «صحيح أنّ العجز في الميزانيّة يقترب من نسبة 7 في المائة، لكنّه أقلّ من نسبة 12 في المائة في فترة جائحة كورونا والذي تمّ تداركه خلال عامٍ واحد –مما يدعو إلى التفاؤل. لقد تعافت سوق العمل، وعاد الطلب على العمّال، الذي كان قد انخفض في الأشهر الثلاثة الأولى من الحرب، تقريباً إلى طبيعته، مما أعاد مستويات الأجور إلى ما كانت عليه عشيّة الحرب. حتى صناعة الهاي تك التي تشغّل نحو 16 في المائة من الموظّفين في قطاع الأعمال والمسؤولة اليوم عن 58 في المائة من التصدير، الذي تعرض لضربة في الحرب، فإنها لا تزال تشكّل المحرّك الاقتصاديّ، وتمكن من تجنيد أموال بقيمة 3.5 مليار دولار في الربع الأخير الذي انتهى في شهر يونيو (حزيران) من هذا العام، وهو الأعلى منذ سنتين».

الأمور ليست وردية

لكنَّ اليمين الإسرائيلي يتجاهل بذلك التراجعات الكبيرة في أداء لاقتصاد ويبدو كمن يُخفي نصف الحقيقة. فالأمور ليست ورديّة، على هذا النحو. فالحكومة رصدت مبلغ 7.5 مليار شيقل من الميزانية مخصصة لتمويل أحزاب الائتلاف الحكومي. والعجز في الموازنة مرتفع بمقاييس غير مسبوقة ويبلغ نحو 30 مليار دولار، الأمر الذي سيتطلب تخفيضات في الميزانية وزيادة الضرائب بما يصل إلى أكثر من 18 مليار دولار، وهو ما سيتم الشعور به بشدة في نوعية الحياة وانخفاض الخدمات للجمهور الإسرائيلي بشكل عام. ومظاهر مقاطعة إسرائيل في العالم تتسع. وشركات التصنيف الائتماني قررت خفض التدريج الائتماني لإسرائيل. وفرع السياحة في إسرائيل انخفض بنسبة 81 في المائة، وفرع البناء يعاني الشلل منذ أن غاب العمال الفلسطينيون (150 ألف عامل منهم 70 ألفاً في البناء). وفشلت إسرائيل في جلب عمال أجانب يحلون محل عمال الضفة الغربية.

وسبق لصحيفة «يديعوت أحرونوت» أن ذكرت أن الحرب في غزة تسبب تحديات وصعوبات لم يسبق لها مثيل في إسرائيل، مع تأزم وضع المجتمعات المحلية، ورغبة جنود الاحتياط في العودة إلى ديارهم، وممارسة العالم ضغوطاً عديدة للتخفيف من الخسائر في صفوف المدنيين في غزة، وتعرض الاقتصاد الإسرائيلي لأزمة تلو الأخرى.

وتُضاف إلى كل ذلك تكاليف الخدمة في جيش الاحتياط، حيث تم تجنيد 300 ألف جندي في بداية الحرب وانخفض العدد حالياً إلى 50 ألفاً. فكل جندي احتياطي يتقاضى 82 دولاراً يومياً، وبلغ إجمالي هذه المدفوعات وحدها 2.5 مليار دولار في أول 3 أشهر من الحرب. وعلى الجبهة المدنية، بلغت التعويضات التي تُدفع للنازحين عن بيوتهم 2.7 مليار دولار لتلك الأشهر الثلاثة، علماً بأن عدد هؤلاء النازحين يبلغ نحو 125 ألف شخص.

وباتت تكلفة الحرب على غزة موضع نقاش وانتقادات داخل إسرائيل، خصوصاً في ظل استمرارها مع عدم تحقيق النتائج التي أعلنتها الحكومة الإسرائيلية حتى الآن، وفقاً لمراقبين.