انتصار البديل الليبرالي يعيد رسم المشهد السياسي في المغرب

قراءة في أسباب تهاوي الإسلاميين بعد 10 سنوات من السيطرة

انتصار البديل الليبرالي يعيد رسم المشهد السياسي في المغرب
TT

انتصار البديل الليبرالي يعيد رسم المشهد السياسي في المغرب

انتصار البديل الليبرالي يعيد رسم المشهد السياسي في المغرب

تعدّدت وجهات النظر إزاء نتائج انتخابات 8 سبتمبر (أيلول) الجاري في المغرب، التي مكّنت حزب «التجّمع الوطني للأحرار» (وسط ليبرالي) بقيادة رجل الأعمال عزيز أخنّوش من الحصول على المرتبة الأولى، وأدّت في المقابل إلى تقهقر حزب «العدالة والتنمية» (مرجعية إسلامية) من الصدارة في انتخابات عام 2016 إلى المرتبة الثامنة. إلا أن ثمة شبه إجماع على أن هذه الانتخابات خلقت واقعاً سياسياً جديداً، بعدما بسط «العدالة والتنمية» سيطرته على تدبير الشأن الحكومي لولايتين اثنتين متواصلتين طالتا نحو عقدين من الزمن بين 2012 و2021.
ثم، لئن كان «التجمع الوطني للأحرار» قد تصدّر الانتخابات، بحصوله على 102 مقعد في مجلس النواب البالغ مجموع أعضائه 395 نائباً، فإن حجم الهزيمة الثقيلة لـ«العدالة والتنمية» كان مفاجئاً، إذ بالكاد حصل على 13 مقعداً، بعدما كان لديه 125 مقعداً في مجلس النواب المنتهية ولايته. أما المراتب التالية بعد الحزب المتصدر فاحتلّها على التوالي حزب «الأصالة والمعاصرة» (87 مقعداً)، وحزب الاستقلال (81 مقعداً)، وحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية (35 مقعداً).
أُسّس حزب «التجمّع الوطني للأحرار»، متصدر انتخابات 8 سبتمبر، عام 1978 من طرف أحمد عصمان، صهر الملك الراحل الحسن الثاني، الذي سبق له أن تولّى منصب رئيس الوزراء. وكان الحزب يُصنّف على أنه حزب وسط ليبرالي، وعُرف عموماً بأنه حزب البورجوازية والأعيان. غير أنه في انتخابات 2016 لم يحصل «الأحرار» إلا على 37 مقعداً نيابياً، ما أدى إلى استقالة رئيسه السابق صلاح الدين مزوار، وعقد مؤتمر استثنائي في بداية 2017 انتُخب خلاله أخنّوش رئيساً جديداً للحزب.
وبمجرد صعود أخنّوش إلى موقع القيادة، عمد إلى تشكيل تحالف مع حزب الاتحاد الدستوري (يمين) لمواجهة تقدم «العدالة والتنمية»، وتمكّن من المشاركة بقوة في حكومة سعد الدين العثماني، وحاز وزارات أساسية مثل الفلاحة والصيد البحري، والمالية والتجارة والصناعة. ولكن على أي حال، تُعد النتيجة الانتخابية التي حصل عليها «الأحرار» غير مسبوقة في تاريخ الحزب.

هزيمة فاقت التوقعات
من ناحية أخرى، مع أن المؤشرات السابقة ليوم الاقتراع كانت تشير إلى أن «العدالة والتنمية» لن يحتل صدارة نتائج الاقتراع، بل ربما يحتل المرتبة الثالثة أو الرابعة، فإن لا أحد من خصوم الحزب أو أنصاره توقع اندحاره بهذه الصورة في وجه «التجمع الوطني للأحرار» بمعية حزبين آخرين هما «الأصالة والمعاصرة» و«الاستقلال»، وذلك ليس فقط على مستوى الانتخابات التشريعية بل أيضاً على مستوى الانتخابات الجماعية (البلدية) والجهوية.
وهنا يعلّق بنيونس المرزوقي، الأستاذ الباحث بكلية الحقوق في وجدة (أقصى شرق المغرب) لـ«الشرق الأوسط» قائلاً إن «النتيجة التي حصل عليها (العدالة والتنمية) كانت درساً بليغاً أبان عن قدرة الكتلة الناخبة على معاقبة الواقفين وراء الوعود العامة والمس بوضعية الفئات الشعبية». ولاحظ أن النتائج كشفت أيضاً عن إمكانية الحصول على غالبية مريحة عبر تحالف ثلاثة أحزاب فقط (270 مقعداً: الأحرار والأصالة والاستقلال)، وإمكانية تشكيل قطب يساري يجمع 65 مقعداً. ثم يضيف: «هناك أحزاب بوضعيات مختلفة اعتادت على المشاركة في كل الغالبيات المتعاقبة، كحزب الحركة الشعبية (29 مقعداً)، والاتحاد الدستوري (18 مقعداً)، أو حتى حزب الحركة الديمقراطية الاجتماعي الذي يُساند عملياً أي غالبية حكومية ما دام عدد مقاعده لا يسمح له بالقيام بمعارضة قوية (5 مقاعد)». وهنا يفضل المرزوقي قراءة نتائج اقتراع 8 سبتمبر من زوايا مُتعددة، منها أن القطب الليبرالي حصل على 189 مقعداً (الأحرار 102، والأصالة والمعاصرة 87)، في حين حصلت أحزاب الكتلة الديمقراطية على 140 مقعداً (الاستقلال 81، والاتحاد الاشتراكي 35، والتقدم والاشتراكية 21، إضافةً لمقاعد جبهة القوى الديمقراطية «3» التي خرجت من معطف «التقدم والاشتراكية» في زمن «الكتلة الديمقراطية»).

عودة لأحزاب الموالاة
من جهته، يقول يونس برادة، الأستاذ الباحث في الشأن الحزبي بجامعة مولاي إسماعيل في مكناس، خلال لقاء مع «الشرق الأوسط»، إن الانتخابات الأخيرة «أفرزت واقعاً آخر يتمثل في العودة اللافتة لما تسمى الأحزاب الموالية استراتيجياً، مقابل التداعي المتعدّد الأبعاد لحزب العدالة والتنمية». ويوضح أن هذا الأخير «فشل في إثبات نفسه كجزء من البنية الحزبية الاستراتيجية، وكذلك لم ينجح في إسماع صوته إزاء الفاعلين المركزيين، دون أن يغيب عن أعيننا أن بنيته التنظيمية المزدوجة فعلياً، لم تكن لتساير تفاعلات جيو - سياسية طارئة».
وحسب برادة، فـ«إن تجربة حزب العدالة والتنمية لا تختلف كثيراً عن تجربة بعض أحزاب الحركة الوطنية، خصوصاً ضمن ما يُصطلح عليها بحكومة التناوب التوافقي، ما بين 1998 و2002، إذ كان مآلها التآكل تنظيمياً وآيديولوجياً».

سببان رئيسيان
هناك سببان رئيسيان قد يفسّران، أيضاً، ظاهرة التراجع في الحصيلة الانتخابية لـ«العدالة والتنمية» التي أرجعها برادة أولاً «إلى طبيعة السياسة التي تبقى انسدادية في أساسها، فلا تتيح إفراز فاعلين منافسين حقيقيين، وإن كان توجههم موالياً من حيث المبدأ... أي لا يشككون في بُنيات الحكم، ويُبدون في أحايين كثيرة انجذاباً مفرطاً للاختيارات الاستراتيجية للنظام».
أما السبب الثاني، وفق برادة، «فيجد سنده في عجز الفاعلين عن إنتاج سياسي مستقل، وهو ما يؤدي إلى نوع من (التهاوي الحتمي) تحت وطأة التدبير الحكومي مثلاً، أو العمل التشريعي المقيّد، أو الدفاع عن الحقوق والحريات أو التماهي مع مصالح الشعب».

العقاب والمكافأة
أما إسماعيل حمودي، الأستاذ بجامعة محمد بنعبد الله في مدينة فاس، فقال لـ«الشرق الأوسط» إن من أبرز نتائج انتخابات 8 سبتمبر التي صدّرت «التجمع الوطني للأحرار» وألحقت هزيمة مدوية بـ«العدالة والتنمية» هو أن «الناخب المغربي عاقب الحزب الأول في الحكومة السابقة، وكافأ الحزب الثاني فيها، أي التجمع الوطني للأحرار، وهذه إحدى مفارقات هذه الانتخابات». ثم رأى أن الحصيلة مكّنت «الأصالة والمعاصرة»، الذي كان مصطفّاً في المعارضة، من المحافظة على مركزه كقوة ثانية في الخريطة السياسية، ومكّنت حزب الاستقلال، الذي كان بدوره في صفوف المعارضة، من الحفاظ على مركزه كقوة ثالثة، لكن بعدد مقاعد إضافية، في حين ضاعف حزب «التقدم والاشتراكية» (الحزب الشيوعي سابقاً) عدد مقاعده مقارنةً مع انتخابات 2016. ورأى حمودي أن ارتفاع نسبة أوراق الاقتراع الملغاة في المدن، وحصول هذه الأوراق على المرتبة الأولى غالباً، بيّن وجود غضب ورفض من الطبقة الوسطى المسيّسة تجاه العرض السياسي المقدم لها.
وتبعاً لذلك فإن أكثر التساؤلات التي شدّت أنظار المراقبين للشأن الانتخابي في المغرب، خلال الأيام الماضية بموازاة انطلاق مشاورات تشكيل الحكومة، ما كانت حول مَن سيكون في حكومة عزيز أخنوش -إذ بدا واضحاً أن الغالبية الجديدة ستتكوّن من الأحزاب الثلاثة الأولى المتصدرة لنتائج الاقتراع- بل من هي الهيئات السياسية التي ستلعب دور المعارضة، إلى جانب «العدالة والتنمية» و«التقدم والاشتراكية»... مع أن هذا الأمر أيضاً بات شبه معروف. والحال أن عوامل عدة تضافرت لفرز نتائج استحقاقات 8 سبتمبر، أبرزها:
- إجراء ثلاثة استحقاقات انتخابية في يوم واحد، وهي العملية التي كان لها تأثير على طريقة تصويت الناخبات والناخبين الذين لم يألفوا هذا الأسلوب. بل إن التأثير طال حتى الأحزاب السياسية التي وجدت نفسها ملزمة بترشيح أسماء قادرة على العمل كفريق منسجم وليس فقط مجرد ترشيحات مُنفصلة.
- التعديلات التي لحقت النظام الانتخابي، منها القاسم الانتخابي الذي جرى اعتماده لتوزيع المقاعد وفق نظام «الاقتراع اللائحي» بأكبر بقية، إذ أصبح يُحتسب على أساس عدد الناخبات والناخبين المسجلين والمعروف مسبقاً، بدلاً من عدد الأصوات الصحيحة التي تظهر بعد فرز الأصوات.

مستقبل مجهول
في هذه الأثناء، حاول الكثير من المراقبين تحليل أسباب هزيمة «العدالة والتنمية». وهنا أوردنا بعض العوامل، منها عوامل ذاتية، كالصراعات التي ظهرت داخل تيارات الحزب منذ إعفاء عبد الإله ابن كيران، الأمين العام للحزب، في مارس (آذار) 2017، من تشكيل الحكومة، وتعيين سعد الدين العثماني مكانه. وأيضاً الخلافات الحادة في الحزب حول الترشيحات الانتخابية التي أدت إلى استقالات. وفي المقابل، هناك أسباب موضوعية، تتعلق بعجز الحزب عن تحقيق عدد من تعهداته، وغضب الناخبين من أدائه، إلى جانب طموحهم للتغيير.
هذه العوامل مجتمعة أدت إلى التراجع الذي أفضى إلى استقالة جماعية للأمانة العامة للحزب، والدعوة إلى عقد مجلس وطني استثنائي اليوم (السبت) 18 سبتمبر، في انتظار تحديد موعد مؤتمر وطني استثنائي لانتخاب قيادة جديدة.
في سياق كل ذلك، يبقى السؤال الذي يطرح نفسه بشدة هو: هل سيتمكن حزب «العدالة والتنمية» من الصمود وسط عاصفة فشله الانتخابي، وضمان حضوره على الساحة السياسية؟ هذا الأمر يستبعده محمد حفيظ، الأستاذ الباحث بجامعة الحسن الثاني في الدار البيضاء، الذي وصف الهزيمة بـ«الاندحار الكبير والانتكاسة الهائلة»، مشيراً إلى أن «نتائج الحزب الذي ترأس الحكومة لولايتين متتاليتين، جعلته كأنه لم يعد موجوداً، وهو ما يطرح -في نظره- بإلحاح سؤالاً عن مدى تمكنه من المحافظة على حضوره في الحياة السياسية، بل أكثر من ذلك حفاظه على وجوده وكينونته كحزب يحمل الاسم نفسه (العدالة والتنمية)، على المدى المنظور القريب». وأشار حفيظ إلى أن «العدالة والتنمية»، الذي لطالما ردّد إبان «الربيع العربي» و«حركة 20 فبراير (شباط)»، وبعد إقرار دستور 2011، ورئاسته الحكومة لولايتين متتاليتين، أنه «يعود إليه الفضل في إنقاذ البلاد والدولة»... أنقده هذه المرة «القاسم الانتخابي الجديد»، فلولاه لحصل الحزب على أقل من 13 مقعداً بكثير. ويُذكر أن «العدالة والتنمية» كان الحزب الوحيد الذي وقف ضد اعتماد القاسم الانتخابي الجديد، والمفارقة أن الحزب كان أكبر المستفيدين منه.

سيطرة الأعيان والتجار
على صعيد ذي صلة بنتائج الانتخابات، لاحظ حمودي «تراجع السياسة» في الانتخابات الأخيرة، موضحاً أن النتائج المعلن عنها حتى الآن تكشف عن ضعف نسبة المشاركة في المدن، في مقابل ارتفاع نسبتها في البوادي. ويرى حمودي أن البادية هي التي حسمت هذه الانتخابات، ومن تداعيات ذلك أن مجلس النواب المنتخب «يسيطر عليه الأعيان والتجار، في غياب السياسيين، وهذه أيضاً إحدى مفارقات هذه الانتخابات».

كيف تعيش قيادة «العدالة والتنمية» النكسة الانتخابية؟
> يعيش حزب «العدالة والتنمية» اليوم حالة من الجمود السياسي والتنظيمي، منذ نكسته الانتخابية في 8 سبتمبر (أيلول) الجاري. واكتفت الأمانة العامة للحزب بإصدار بيان في 9 سبتمبر أشارت فيه إلى «خروقات» عرفتها الانتخابات ولكنها أعلنت استقالتها الجماعية من قيادة الحزب، وعقد دورة استثنائية للمجلس الوطني للحزب (أعلى هيئة تقريرية فيه بعد المؤتمر)، اليوم (السبت)، كما قررت تنظيم مؤتمر وطني استثنائي لانتخاب قيادة جديدة لم يحدَّد موعده بعد.
المراقبون يلاحظون أن الحزب لم يطعن سياسياً في نتائج الانتخابات، كما أن الاستقالة الجماعية للأمانة العامة مؤشر على الاعتراف بالهزيمة. ويلاحظ أنه منذ صدور البيان، لم يصدر أي تصريح من أي قيادي في الحزب، ولم تُعقد لقاءات لمسؤولي الحزب لشرح ما جرى. بل خلا المقر المركزي للحزب، في حي الليمون بالرباط، من الحركة الدؤوبة التي عُرف بها خلال الانتخابات، وغابت عنه قيادات الحزب باستثناء حضور بعض الموظفين.
قيادي في الحزب قال لـ«الشرق الأوسط» إن أعضاء الأمانة العامة للحزب، بمن فيهم الأمين العام سعد الدين العثماني، لزموا بيوتهم، وأوقفوا الأنشطة واللقاءات، إلى حين انعقاد دورة المجلس الوطني اليوم. وقد خُصص جدول أعمال الدورة لدراسة نتائج الانتخابات ومستقبل الحزب. في حين اعتذر العثماني عن تلبية دعوة عزيز أخنّوش، رئيس الحكومة المكلف، لاستقباله في مقر حزبه في حي الرياض أمس، في سياق مشاورات تشكيل الحكومة.
وحسب مصدر من الحزب، فإن اعتذار العثماني يأتي نظراً للنتائج السلبية التي حصل عليها الحزب، كما أن العثماني بدأ من الآن يعدّ العدة للابتعاد عن قيادة الحزب بعدما جرى تحميله مسؤولية النتائج الهزيلة التي حصل عليها الحزب.
هذا، ولن تقف تداعيات ما يعيشه «العدالة والتنمية» عند هذا الحد، بل يرجح أن تمتد إلى تقليص إمكانياته المالية والبشرية في العمل السياسي. ذلك أن فقدانه لفريقه في مجلس النواب، أدى إلى فقدانه إمكانياته مهمة في عمله السياسي، لأن النظام الداخلي لمجلس النواب ينص على ضرورة توفر 20 عضواً لكل هيئة سياسية تريد تشكيل فريق نيابي، في حين لا يتوافر لـ«العدالة والتنمية» سوى 13، ومن جانب آخر، وهنا مفارقة لافتة، فإن حزب «التقدم والاشتراكية» اليساري، الذي كان حليفاً لحزب «العدالة والتنمية» إبان حكومتي عبد الإله ابن كيران الأولى والثانية وحكومة العثماني الأولى قبل أن يلتحق بالمعارضة، حصل على 21 مقعداً... وهو ما أتاح له الحصول على فريق نيابي.
يُذكر أن «العدالة والتنمية» كان قد رفض تغيير القانون الداخلي لمجلس النواب، وتغيير شرط الحصول على فريق نيابي من 20 إلى 12 مقعداً، بعدما حصل «التقدم والاشتراكية» على 12 مقعداً في الانتخابات السابقة، وحاول حزب «الأصالة والمعاصرة» دعم ذلك، بيد أن «العدالة والتنمية» رفض، وها هو الزمن يدور دورته فيحصل العكس. وبات من المستحيلات أن يشكّل «العدالة والتنمية» فريقاً نيابياً مع مجموعة نيابية أخرى مثلما حصل مع «الاتحاد الدستوري» حين التحق بالفريق النيابي لـ«التجمع الوطني للأحرار» لأنه عجز عن تشكيل فريق نيابي.
هذا وتخوّل صفة الفريق النيابي (أو الكتلة النيابية) للهيئة السياسية عدة امتيازات، منها توفير مقر داخل المجلس، وميزانية، وموظفين. وكان فريق «العدالة والتنمية» يتوفر على نحو 40 موظفاً في مجلس النواب المنتهية ولايته، لكنه سيفقدهم جميعاً، بعد فقدان الفريق النيابي. ثم إن إدارة المجلس كانت تؤمّن له مقراً عبارة عن طابق كامل في بناية المجلس، إضافةً إلى ميزانية مهمة، وكل ذلك سينتهي بسبب تراجعه الانتخابي. وبخصوص الدعم المالي التي تقدمه الدولة للأحزاب السياسية، فإنه أيضاً سيخضع لمراجعة على ضوء نتائج الانتخابات، لأن الدولة تمنح للأحزاب دعماً عن كل مقعد نيابي جرى الحصول عليه في مجلس النواب. وفي الماضي، دأب «العدالة والتنمية» على الحصول على حصة الأسد من الدعم العمومي، منذ انتخابات 2011، لكنه اليوم سيفقد ما يناهز 80% من هذه الموارد المالية.
وعلى مستوى الجماعات المحلية (البلديات) ومجالس الجهات، وجد «العدالة والتنمية» نفسه خارج معظم التحالفات التي ستسيّر المدن الكبرى، وربما لن يسيّر أي بلدية فوق تراب المملكة، وذلك بعدما كان يهيمن على تسيير المدن الكبرى في المغرب بعد الانتخابات المحلية في 2015.
أخيراً، بغضّ النظر عن تراجع الحزب سياسياً وانتخابياً، يبقى السؤال الأهم الذي يُطرح في الساحة السياسية المغربية يتعلق بمستقبله السياسي، فبعد استقالة قيادته، تتجه الأنظار إلى المؤتمر الاستثنائي المقبل لمعرفة طبيعة القيادة الجديدة التي ستدبر المرحلة المقبلة، وهل ستستطيع إنهاض الحزب من جديد وبعثه من رماد؟



موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
TT

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ مستوياتها منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي السابق، وجرى تقويض كل قنوات الاتصال السياسية والدبلوماسية والأمنية. وحتى «الخط الساخن» الذي طالما عوّل عليه البلدان لمواجهة الظروف الطارئة وتجنّب الانزلاق إلى احتكاكات مقصودة أو غير مقصودة، جرى تجميده كلياً. كانت تلك، وفقاً لمسؤولين روس، أسوأ أربع سنوات في العلاقات، ولقد تحوّلت فيها الولايات المتحدة إلى خصم مباشر، و«شريك رئيس في الحرب الهجينة ضد روسيا». ولم ينعكس التدهور فقط في ملفات أوكرانيا والأمن الاستراتيجي والوضع في أوروبا - وهي القضايا المركزية التي تشغل بال الكرملين - بل أيضاً امتد في تأثيره بعيداً عن الجغرافيا الحيوية لروسيا... ليصل إلى الملفات الإقليمية الساخنة في الشرق الأوسط التي شهدت تصعيداً متواصلاً فاقم تأجيج الأزمة في العلاقات.

بمجرد اتضاح نتائج الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، بدأ محللون روس في وضع «سيناريوهات» للتقارب مع الإدارة الجمهورية الجديدة في واشنطن. ولطالما كان ينظر في موسكو للرئيس المنتخب دونالد ترمب على أنه «قادر على إعادة تشغيل العلاقات مع موسكو»، والتوصل إلى تسويات أو «صفقات» حول القضايا الأكثر خلافية.

بيد أن الكرملين كان قد خاض تجربة مريرة مع ولاية ترمب الأولى، عندما بدا الرئيس - المتهم بالتعاون سرّاً مع روسيا - عاجزاً عن مواجهة تركة باراك أوباما الثقيلة في العلاقة مع موسكو. لذلك لم ينجح التفاؤل الروسي في حينه، ولا الخطوات المحدودة التي انتهجها ترمب في تحسين العلاقات جدياً، ووضع «سيناريوهات» للتعاون في ملفات دولية أو إقليمية. بل بالعكس من ذلك، فقد واجهت روسيا في ولاية ترمب السابقة أضخم رُزم عقوبات فرضتها واشنطن. ومن ناحية ثانية، فشل الطرفان أيضاً في تحسين شروط التعاون حيال ملفات إقليمية مهمة، فتدهور الوضع حول إيران بعد انسحاب ترمب من الاتفاقية النووية، وتراجع الأخير عن تنفيذ تعهد الانسحاب من سوريا.

ثلاثة أفخاخ

بناءً عليه، بدت موسكو أكثر حذراً هذه المرة وهي تستقبل أنباء فوز ترمب الساحق. وحقاً، تجنّبت تعليق آمال جدية، بانتظار ما ستقدم عليه الإدارة الجديدة من خطوات عملية فور تسلم الرئيس منصبه رسمياً في يناير (كانون الثاني) المقبل.

لكن هذا لم يمنع التوقّعات المتشائمة، التي غلبت على العلاقة، من البروز بشكل مباشر أو غير مباشر. والحال أن موسكو تبدو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة. وفي هذا الإطار، أجمل أليكسي بوشكوف، عضو مجلس الشيوخ الروسي وأحد خبراء السياسة المقربين من الرئيس فلاديمير بوتين، المأزق الذي يواجه ترمب بأنه يشتمل على «ثلاثة أفخاخ صعبة».

الفخ الأول، بطبيعة الحال، هو ملف أوكرانيا: فلقد استثمرت الولايات المتحدة بالفعل الكثير في أوكرانيا لدرجة أنها ما عادت تعرف كيفية الخروج من هذه الأزمة. وهنا لا تتوقف موسكو كثيراً عند الوعود الانتخابية لترمب بإنهاء الحرب في 24 ساعة. ويتساءل بوشكوف: «هل ستتخلى واشنطن عنها مثل أفغانستان؟ لم يعد يمكنها ذلك». أو تكمل ما بدأته الإدارة الديمقراطية؟ عندها... وكما حذّر ترمب بحق، فإن هذا قد يؤدي إلى صراع نووي مع روسيا. تدرك موسكو حجم الصعوبات التي تواجه ترمب في هذا الملف.

أما الفخ الثاني، فهو شرق أوسطي. وهنا - حسب بوشكوف - «لا يمكن لترمب التراجع عن دعم إسرائيل بسبب وجود لوبي قوي جدّاً مؤيد لإسرائيل في الولايات المتحدة. لكنه لا يستطيع دعم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو علناً في كل ما يفعله، لأن هذا يضرّ بمكانة الولايات المتحدة في العالم العربي (...) ولأن المخطط الأميركي لمصالحة إسرائيل مع جيرانها ما زال موضع شك. لقد حاولت الولايات المتحدة إخراج إسرائيل من عزلتها في المنطقة... لكن هذا المدخل لم يعد يعمل. وعلاوة على ذلك: يُصرّ العالم العربي على إقامة الدولة الفلسطينية، وهو ما ترفضه إسرائيل بشكل قاطع. إذن فهذا أيضًاً فخ».

وأما الفخ الثالث فهو تايوان. ووفقاً لبوشكوف: «من الممكن أن تصبح قضية تايوان فخاً كبيراً للولايات المتحدة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل ستدعم أوروبا الأميركيين إذا دخلت الولايات المتحدة في صراع مع الصين؟ لقد قوّضت أوروبا نفسها اقتصادياً بشدة بالفعل بسبب انفصالها عن روسيا. وإذا فتحت أيضاً معركة مع الصين، التي يبلغ حجم تجارة الاتحاد الأوروبي معها تريليون دولار أميركي، فمن المرجح أن ينهار الاقتصاد الأوروبي ببساطة».

قنابل موقوتة

السياسي الروسي يرى أن «الأفخاخ الثلاثة» تمثل قنابل موقوتة بالنسبة إلى دونالد ترمب... مهما كانت طبيعة التركيبة النهائية لفريقه الرئاسي، أو خطواته الأولى على صعيد السياسة الخارجية.

فضلاً عن ذلك، يرى بوشكوف، أن ترمب الذي تعهد بإيلاء القدر الأكبر من الاهتمام للإصلاح الداخلي، سيواجه صعوبة كبرى في إيجاد توازن بين الانكفاء إلى الداخل من أجل تحسين الأداء الاقتصادي ومواجهة الهجرة و«إعادة أميركا عظيمة» بقدراتها واقتصادها ومستوى المعيشة لشعبها، وبين العمل بسرعة لتنفيذ وعود انتخابية بإنهاء حروب وتقليص التوتر في أزمات خارجية. ويضيف متسائلاً: «كيف يمكن أن تكون أميركا عظيمة مجدّداً... وهي تنكفئ في السياسة الدولية؟».

تبدو موسكو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز

التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة

تباين حيال التسوية في الشرق الأوسط

لا يبدو أن موسكو تثق كثيراً بقدرة ترمب على لعب دور نشط لإنهاء الحرب على غزة ولبنان، ودفع الإسرائيليين إلى التوصّل لحلول سياسية تعيد الهدوء - ولو نسبياً - إلى الشرق الأوسط.

وهنا، يذكر خبراء أن المدخل الأميركي السابق قام على أساس تعزيز اتفاقات تطبيع وفرض سلام من نوع خاص، لا يؤدي إلى تسوية سياسية حقيقية تنهي العنف في المنطقة وتنزع ذرائعه.

وترمب نفسه أعرب خلال فترة ولايته الرئاسية الأولى عن نيته التوسط في حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لكنه أظهر لاحقاً التقارب مع إسرائيل من أجل كسب دعم المانحين الرئيسيين والناخبين الرئيسيين، وخاصة الصهاينة المسيحيين الإيفانجيليين.

بحسب خبراء، هذا الموقف يتوافق مع النهج القائل: «أميركا تفعل ما تريد، وبالتالي أصدقاء أميركا يفعلون ما يريدون». مع الإشارة هنا إلى أن هذا النهج المائل إلى عقد «صفقات» ينصّ على «امتيازات خاصة للحلفاء كدفعة مقابل الأمن». غير أن موسكو ليست مقتنعة بأن هذا المدخل سيعزّز طريق الحلول النهائية للمنطقة.

ومقابل القناعة الروسية بالعودة إلى الآليات التي توافر عليها نوعٌ من الإجماع الدولي، كإحياء «الرباعية الدولية» وتوسيعها بضم بعض الأطراف الإقليمية المهمة (المملكة العربية السعودية ومصر وجامعة الدول العربية)، وأيضاً العودة إلى مبادئ التسوية القائمة على أساس رفض التوسّع الجغرافي للاحتلال، وإعلاء «مبدأ حل الدولتين» ووضع خرائط طريق جديدة بينها «المبادرة العربية للسلام»، فإن مدخل ترمب يقوم على عقد صفقات سريعة للتهدئة، وترك المناطق أمام «برميل بارود» قابل للانفجار مجدداً في أي وقت.

في هذا الإطار لا يتوقّع خبراء روس أن تكون التسوية في الشرق الأوسط بين أولويات الحوار المنتظر مع الإدارة الأميركية الجديدة، بالنظر إلى أن هذا الموضوع فيه تباعد واسع في وجهات النظر، ولا يدخل ضمن الملفات التي قد يكون بوسع الطرفين التوصل إلى صفقات حولها.

وفي الوقت ذاته، ترى موسكو - وفقاً لتحركات محدَّدة برزت في سوريا، ومن خلال حوارات مكثفة أجريت غالباً خلف أبواب مغلقة مع الجانب الإسرائيلي - أن بوسعها لعب دور أساسي في تأكيد دورها بضمان أمن إسرائيل من جهة سوريا وإيران مستقبلاً. وهو ما يعني أن هذا الموضوع قد يكون جزئياً على طاولة حوار روسي - أميركي في وقت لاحق.

تأهب للحوار حول سوريا

في هذه الأثناء، لدى الأوساط الروسية نظرة إيجابية، ولكن حذرة، بشأن احتمالات سحب ترمب القوات الأميركية من سوريا إبان ولاية ترمب الجديدة.

موسكو تتذكر الإرادة الأميركية في الانسحاب من سوريا إبان ولاية ترمب السابقة، لكن يومذاك كان التهديد الإرهابي ما زال نشطاً، والخطوط الفاصلة ومناطق النفوذ لم تكن قد تبلورت بشكل شبه نهائي. لذا يرى خبراء روس أن ترمب عندما يتكلّم عن سحب القوات حالياً فهو ينطلق من واقع ميداني وسياسي جديد. وبالتالي، سيكون حذراً للغاية عند مناقشة هذه المشكلة مجدداً.

أيضاً، ونظراً لوعود ترمب الانتخابية المتكررة، يُرجح أن ترغب واشنطن في سحب قواتها من سوريا، لكن لا يبدو لموسكو أن هذه القضية ستكون مُدرجة على جدول الأعمال ضمن أولويات التحرك الأميركي حالياً.

لقد قوبلت خطط ترمب لسحب القوات في السابق بمقاومة مفتوحة، خاصة من «القيادة الوسطى» الأميركية وشخصيات، مثل بريت ماكغورك، الذي عمل مبعوثاً خاصاً لمكافحة «داعش» حتى أواخر عام 2018، واستقال قبل شهرين من انتهاء فترة ولايته، مباشرة بعد قرار إدارة ترمب سحب القوات من سوريا في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018. بعدها عيّن جو بايدن، الرئيس الأميركي المنتخب، عام 2020، ماكغورك منسقاً لمجلس الأمن القومي الأميركي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، واكتسبت سياسة واشنطن في سوريا لدعم حزب العمال الكردستاني «وحدات حماية الشعب» زخماً.

حالياً يعود الملف إلى دائرة النقاش، ولقد برز بشكل واضح خلال اجتماعات «جولة آستانة للحوار» التي انعقدت أخيراً. وأكد المبعوث الرئاسي الروسي ألكسندر لافرنتييف إلى سوريا في ختام الاجتماعات أن موسكو منفتحة على الحوار مع الإدارة الأميركية الجديدة فور تشكيلها، لبحث الملفات المتعلقة بسوريا. وقال الدبلوماسي الروسي: «إذا كانت هناك مقترحات، فإن الجانب الروسي منفتح، ونحن على استعداد لمواصلة الاتصالات مع الأميركيين».

وفي هذا المجال، تنطلق موسكو من قناعة بأنه لا يمكن التوصل إلى بعض الحلول الوسط إلا من خلال المفاوضات المباشرة. وهي هنا مستعدة للاستماع إلى وجهات النظر الأخرى، وربما تقديم بعض الضمانات التي تحتاج إليها واشنطن لتسريع عملية الانسحاب ودعم التسوية في سوريا برعاية روسية تضمن مصالح الأخيرة.