نور الدين الطبوبي... «آخر القياديين» في أقوى النقابات العربية

يلعب دوراً محورياً في الأزمة التونسية الحالية

نور الدين الطبوبي... «آخر القياديين» في أقوى النقابات العربية
TT

نور الدين الطبوبي... «آخر القياديين» في أقوى النقابات العربية

نور الدين الطبوبي... «آخر القياديين» في أقوى النقابات العربية

برز نور الدين الطبوبي، أمين عام الاتحاد العام التونسي للشغل، منذ 2017 بدوره الاجتماعي والسياسي الكبير في تونس وخارجها، باعتباره زعيماً لأقوى نقابات العمال التونسية والعربية، التي فازت بجائزة نوبل للسلام عام 2015، ولعبت ولا تزال تلعب منذ استقلال تونس عن فرنسا عام 1956 دوراً «تعديلياً» بين الفرقاء السياسيين والاجتماعيين، وبين رجال الأعمال والحكومة والعمال في البلاد.
ولقد ساهمت الصراعات بين الرئيس التونسي السابق الباجي قائد السبسي ورئيس حكومته يوسف الشاهد، ثم بين الرئيس قيس سعيّد ورئيسي الحكومة هشام المشيشي والبرلمان راشد الغنوشي، في مضاعفة الدور السياسي للطبوبي والمركزية النقابية، رغم كل الانتقادات الموجهة إليها. وأوشكت وساطات الطبوبي وجهوده المبذولة منذ أشهر في احتواء الأزمة السياسية بين الرؤساء الثلاثة وكبار صناع القرار الوطني، عبر «مبادرة حوار وطني» أطلقها الطبوبي ورفاقه في اتحاد الشغل، ورحّب بها الرئيس سعيّد وخصومه وقادة معظم الأحزاب، لكن وقع التراجع عن دعمها.
نعم، أوشكت التحركات الماراثونية التي قام بها الطبوبي بين رؤساء الجمهورية والحكومة والبرلمان أن تفرز «خريطة طريق توافقية» جديدة، على غرار ما حصل في أزمة 2013. لكن تلك «الوساطات» فشلت في آخر المطاف، وتسارعت الأحداث في اتجاه القطيعة والصدام، ما أدى إلى قرارات 25 يوليو (تموز) الرئاسية، وبينها إسقاط الحكومة وتعليق عمل البرلمان وإلحاق كل السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية «مؤقتاً» بقصر رئاسة الجمهورية، بحجة «إنقاذ البلاد من خطر داهم».
نوّه نور الدين الطبوبي وقيادة نقابات العمال التونسية بالقرارات الرئاسية الأخيرة، واعتبرها «تفاعلاً مع غضب الشعب على الحكومات المتعاقبة التي فشلت اقتصادياً واجتماعياً». بيد أن القيادي النقابي البارز طالب الرئيس التونسي قيس سعيّد وفريقه بإعداد «خريطة طريق وطنية جديدة لإخراج البلاد من أزمتها»، تساهم في صياغتها «كل الأطراف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية».
الرئيس سعيّد رحّب أول الأمر بالشراكة مع زعيم النقابات العمالية ورفاقه رؤساء نقابات رجال الأعمال والفلاحين والمحامين والصحافيين. غير أنه تراجع عن ذلك، في وقت أورد مقربون منه وقياديون في النقابات أن «مسار التغيير ومحاسبة الفاسدين والمنظومة السياسية القديم» يجب أن يشمل كل الأطراف، بما في ذلك بعض الهيئات النقابية والسياسية «التي كانت جزءاً من المشهد السياسي خلال الأعوام العشرة الماضية وقبل ثورة 2011».
في الواقع، ضعف تأثير نور الدين الطبوبي وزعماء النقابات والأحزاب بعد 25 يوليو بسبب توقف الرئيس قيس سعيّد عن دعوتهم لجلسات الحوار والتفاوض معه أو مع أحد مستشاريه أو مع الوزراء «المؤقتين». بيد أن مكتب زعيم نقابات العمال ظل «قبلة للزوار». إذ توافد عليه البرلمانيون والسياسيون المعارضون والوزراء السابقون ورؤساء البعثات الدبلوماسية الأجنبية، بضمنهم سفراء فرنسا والاتحاد الأوروبي وبريطانيا.
ورغم الانتقادات التي وجّهتها عدة أطراف لظاهرة «تدويل الأزمة التونسية» واجتماعات بعض الزعماء السياسيين والنقابيين مع سفراء ومبعوثي دول أجنبية، أورد بيان توضيحي عن مكتب زعيم النقابات التونسية أن «الفرق بين بعض السياسيين وقيادة اتحاد الشغل أن السفراء والضيوف الأجانب يزورون مقر الاتحاد، وليست القيادة النقابية هي التي تنقلت إلى مقراتهم».
وللعلم، انتقد الرئيس التونسي خلال اجتماعه بوفد من الكونغرس الأميركي أخيراً مقابلات بعض الزعماء النقابيين والسياسيين مع شخصيات أجنبية، من دون تسميتهم، واتهمهم بـ«تشويه صورة وطنهم وصورة رئيسهم». لكن مكتب الطبوبي بقي يستقطب الزوار من كل التيارات السياسية والنقابية التي تلتقي معه ومع مساعديه في مطالبة رئيس الجمهورية بالتعجيل في تشكيل حكومة جديدة تتفاوض مع النقابات والقوى الوطنية حول «خريطة طريق» المرحلة المقبلة.
في المقابل، ردّ سعيّد على الطبوبي والقيادات النقابية والسياسية، متهكماً: «مَن يبحث عن الخرائط فليبحث عنها في كتب الجغرافيا»، وتابع القول إن أولويته المطلقة مواصلة «الحرب على الفساد» والضغط على الأسعار وتحسين ظروف عيش الشعب. ومن ثم، اتهم النخب السياسية و«مسؤولين في كل المواقع» بالانقلاب على ثورته ووصفهم بـ«الخطر الداهم» و«الخطر الجاثم» فوق صدور الشعب. وهنا، ردّ بعض مساعدي الطبوبي، بينهم الزعيم اليساري سامي الطاهري، على تصريحات رئيس الجمهورية، فأعلن الطاهري أن المركزية النقابية تطالب رئيس الدولة بـ«خريطة طريق سياسية، وليس خريطة بمفهوم كتب الجغرافيا».

حق المعارضة
ومن جانبه، عاد الطبوبي عند إشرافه على مؤتمر نقابة عمال قطاع التربية والتعليم خلال الأسبوعين الأخيرين إلى مطالبة رئاسة الجمهورية بـ«الكشف عن برنامج عملها الإصلاحي». واعتبر الأمين العام أن من حقه ومن حق كل الأطراف النقابية والسياسية أن تسانده أو أن تعارضه أو تقترح تعديلات. كذلك شدد الطبوبي على علوية صناديق الاقتراع وواجب احترام الرأي والرأي المخالف وحق المعارضة في التعبير عن رأيها والمطالبة بحرية التعبير والتنقل والتظاهر، بما يكشف إصراراً منه على لعب دور وطني أكبر في المرحلة المقبلة أيضاً.
ومن ناحية ثانية، ذهب محمد المسلمي، أحد نواب الطبوبي في المركزية النقابية، بعيداً، إذ أعلن في مؤتمر نقابة قطاع الكهرباء والغاز، فقال: «(الرئيس) قيس سعيّد يعتبر القيادة النقابية والمنظمات العمالية جزءاً من المنظومة القديمة» التي يجب تغييرها، وهو لا يكتفي بنقد الأحزاب والبرلمان والحكومات السابقة.

حوار وخلافات قديمة
في أي حال، إذ نجح الزعيم النقابي نور الدين الطبوبي في تصدر المشهد السياسي والاجتماعي على غرار أغلب زعماء اتحاد الشغل منذ محمد الفاضل بن عاشور وفرحات حشاد قبل 1952، ثم أحمد بن صالح وأحمد التليلي والحبيب عاشور في عهد الحبيب بورقيبة، فإن مؤشرات كثيرة توحي بأن قصر قرطاج يسعى للحد من التأثير المباشر لزعيم «أقوى النقابات التونسية والعربية منذ 75 سنة» في قرارات الدولة.
هنا، نشير إلى أن الرئيس سعيّد كان قد حافظ منذ دخوله قصر قرطاج في نوفمبر (تشرين الثاني) 2019 على تقليد ورثه عن الرئيس الباجي قائد السبسي، يتمثل في عقد جلسات حوار وتفاوض دورية مع أمين عام نقابات العمال. ثم إنه استقبل في بداية دورته كل أعضاء المركزية النقابية، وفتح بالمناسبة حواراً مفتوحاً مع رموزها «اليسارية والقومية» التي كان بعضها انتقد مواقف سعيد السابقة المعارضة للمساواة في الإرث بين الجنسين ولحقوق المثليين وللاجتهاد فيما فيه نص قرآني واضح.
أيضاً، نجح سعيّد، على غرار سلفه قائد السبسي، في توظيف علاقته بزعيم النقابات لإضعاف بعض خصومه، وخاصة رئيسي البرلمان والحكومة راشد الغنوشي وهشام المشيشي. ثم سعى إلى توظيفها لإضعاف «حزامهما السياسي»، وخاصة حزب «حركة النهضة» والكتل البرلمانية المتحالفة معه، بينها حزب «تحيا تونس» بزعامة رئيس الحكومة السابق يوسف الشاهد وحزب «ائتلاف الكرامة» بزعامة المحامي سيف الدين مخلوف وحزب «قلب تونس» بزعامة رجل الأعمال والإعلام نبيل القروي. لكن يبدو أن المقرّبين من الرئيس سعيّد لم يغفروا للطبوبي وبعض القريبين منه، وبينهم نائبه الأول كمال سعد، الأمين العام المساعد المكلف بالهياكل، والناطق الرسمي سامي الطاهري، انتقاداتهم للرئيس قبل أسابيع لـ«تعطيله» مشروع الحوار الوطني الذي اقترحته المركزية النقابية منذ أواخر العام الماضي. كذلك، لم يغفروا لهم تلويحهم بـ«تنظيم حوار وطني مستقل» عن رئاسة الجمهورية أو «موازٍ» له.
وبلغت أزمة الثقة أقصاها عندما أعلن مساعدا الطبوبي «سحب مشروع الحوار الوطني من رئاسة الجمهورية»، ثم عندما دعا الطبوبي نفسه في يونيو (حزيران) الرئيس التونسي ورئيسي الحكومة والبرلمان إلى الاستقالة و«إرجاع الأمانة إلى الناخبين» بحجة عجزهم عن معالجة مشكلات البلاد الاقتصادية والاجتماعية والصحية المتراكمة. وبينما يعتقد بعض الخبراء والمتابعين أن أزمة الثقة تعمقت بين الرئيس سعيّد وزعيم نقابات العمال منذ أواخر يناير (كانون الثاني) الماضي ومصادقة البرلمان على حكومة هشام المشيشي الثانية، رفض الطبوبي الانخراط في مسار دعوة سعيّد لإسقاطها... وطالب بعقد عدة جلسات عمل في قصر قرطاج وفي قصري الحكومة والبرلمان لدعمها، مقابل تعويض 4 وزراء اتهمهم الرئيس والمقربون منه بـ«شبهات فساد».

سيرة شخصية
ولد نور الدين الطبوبي يوم 8 فبراير (شباط) 1961، في محافظة باجة بريف الشمال الغربي التونسي (100 كيلومتر غرب العاصمة تونس). وهو متزوج وله 4 أولاد.
بعدما تجاوز الـ30 من عمره، خاض الطبوبي عدة تجارب في نقابة العمال، وترأس لأول مرة نقابة أساسية محلية في شركة اللحوم الحكومية بضاحية الوردية، جنوب غربي العاصمة. وعلى الرغم من استقلاليته الحزبية، فإنه ساند خلال عقد التسعينات مَن تبقى من القيادات النقابية الوفية للزعيم النقابي الحبيب عاشور. وكان عاشور قد سُجن مراراً إبان حكم الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة، بعدما اتهمه بالمشاركة في «معركة خلافته» مع عدد من كبار الوزراء ومع زوجته وسيلة بن عمار والزعيم الليبي معمر القذافي ومعارضين للحكم.
هذا الانحياز لـ«النقابيين العاشوريين» و«اليسار الوسطي المعتدل»، بزعامة علي رمضان، الأمين العام المساعد لاتحاد الشغل والمسؤول السابق عن قطاع الفلاحة والصيد البحري، ساعد الطبوبي على تحمل مسؤوليات في النقابة العامة لقطاع الفلاحة.
ومع أن الطبوبي بقي لبعض الوقت في الصف الثاني للمسؤوليات النقابية، فإنه تلقى الدعم من عدد من القياديين المحسوبين على الحبيب عاشور الذين دعموه، لعل أبرزهم عبد النور المداحي الأمين العام المساعد لاتحاد الشغل، وعبد الجليل البدوي، وكمال سعد، وعلي رمضان (الزعيم النقابي العاشوري منذ إضرابات 1978). وكذلك الطيب الورايري الكاتب العام لنقابة الكهرباء والغاز.
بعدها شغل نور الدين الطبوبي مسؤوليات كثيرة، بينها عضوية المكتب التنفيذي لاتحاد الشغل في جهة العاصمة، التي كانت تضم بمفردها نحو 100 ألف عضو، وكانت فعلياً تتحكم في سير العمل والإضرابات والمفاوضات مع كبريات الشركات الاقتصادية ومع الحكومة. ولقد أسهم وصول الطبوبي إلى هذا الموقع، الذي يتميز بثقله الانتخابي والسياسي الكبير، بتقريبه أكثر من زعماء النقابة «العاشوريين» عبد السلام جراد وعلي رمضان وعبد النور المداحي ورشيد النجار وحلفائهم من «اليسار المعتدل» مثل محمد الطرابلسي وحسين العباسي.
ومن ثم، عمل الطبوبي أميناً عاماً مساعداً للمكتب الجهوي بتونس. وعندما قرر الأمين العام لاتحاد الشغل عبد السلام جراد عام 2009 «تجميد» النقابي الكبير توفيق التواتي من منصب الكتابة العامة، فإنه أسند هذا المنصب إلى الطبوبي. وبعد سنتين، انتخب الطبوبي عضواً في المكتب التنفيذي الوطني للاتحاد، مستفيداً من قرار انسحاب أغلب أعضاء القيادة المتخلية بحجة أنهم أمضوا 10 سنوات فيها. وكان بين المنسحبين القيادي النقابي المخضرم علي رمضان، فخلفه في مسؤولية «النظام الداخلي» وهي أهم موقع بعد موقع الأمين العام.
وجاء مؤتمر عام 2017، الذي كان فيه على غالبية القياديين الانسحاب، بينهم الأمين العام حسين العباسي (وهو شيوعي سابق أمضى 10 سنوات في القيادة). وخلال المؤتمر، انتخب الطبوبي أميناً عاماً جديداً إثر فوز قائمة «الوحدة النقابية» التي ترأسها بجميع مقاعد المكتب الجديد.

التوازن الصعب
لقد نجح نور الدين الطبوبي منذ توليه القيادة النقابية في تحقيق قدر لافت من التوازن في علاقاته بمختلف التوجهات الفكرية والسياسية العاملة داخل الاتحاد العام التونسي للشغل، ما جعل منه أحد آخر «الزعماء الكاريزميين» في أقوى نقابة عمال تونسية وعربية، إلا أن مصيره ومصير غيره من «القادة النقابيين والسياسيين» في تونس يظل رهين تطورات المشهد السياسي والأوضاع الأمنية والاجتماعية الاقتصادية... ولا سيما بعد «زلزال 25 يوليو» الماضي الذي أطاح بالحكومة والبرلمان، ويوشك أن يطيح بمزيد من الرؤوس والمؤسسات.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.