أفغانستان ملتقى اهتمام «الجيران» في عهد قيادتها الجديدة

الحسابات والاتصالات مع «طالبان» بعد الرحيل الأميركي

أفغانستان ملتقى اهتمام «الجيران» في عهد قيادتها الجديدة
TT

أفغانستان ملتقى اهتمام «الجيران» في عهد قيادتها الجديدة

أفغانستان ملتقى اهتمام «الجيران» في عهد قيادتها الجديدة

يتمثل السؤال الأهم أمام حكومة «حركة طالبان» المشكلة حديثاً في العاصمة الأفغانية كابُل بكيفية السيطرة على العنف أو احتوائه داخل حدود أفغانستان والحؤول دون تسربه أو امتداده إلى الدول المجاورة. ويرى المراقبون والمحللون أن الإجابة على هذا السؤال ستحدد إلى حد بعيد مصير نظام «طالبان» الجديد الذي استعاد السيطرة على البلاد في أعقاب الاحتلال الأميركي... الذي جاء في أعقاب هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 على الولايات المتحدة.
حسب هؤلاء المراقبين ستؤثر سيطرة الحركة على العنف، وقدرتها على احتوائه، على الآراء في العواصم الإقليمية حول دعم أو معارضة الحكومة المؤلفة حديثاً. والواضح أنه في الوقت الراهن، تخشى كل دولة متاخمة لأفغانستان من امتداد العنف إلى أراضيها. كذلك، ملاحظٌ حالياً أن ثمة جماعات إرهابية مسلحة وانفصالية تستخدم أفغانستان كملاذ يصعب السيطرة عليه، وفي صميم جدول أعمالها الرئيسي نشر العنف في دولة أو أخرى متاخمة أو مجاورة.
لم يفلح تكرار قادة «حركة طالبان» الأفغانية الإعلان عن أنهم لن يسمحوا باستخدام الأراضي الأفغانية ضد أي دولة، في تهدئة مخاوف المجتمع الدولي. ومعلوم أنه مرة تلو أخرى، أكد زعماء العالم لـ«طالبان» أنهم سيصدرون الحكم عليهم من خلال أفعالهم لا أقوالهم. وبناءً عليه، فإن المواقف والسياسات الظاهرة المختلفة للدول الغربية من ناحية، والقوى الإقليمية مثل الصين وروسيا وإيران من ناحية أخرى، لا ينبغي أن تغري «طالبان» بالشعور بالرضا... أو الظن بأن ثمة قوى إقليمية ستدعمها من دون قيد أو شرط. وهذا الأمر على جانب من الأهمية، وبالأخص في ظل وجود مؤشرات - بالفعل - في مواقف القوى الإقليمية حتى الآن من شأنها أن تربك قيادة «طالبان» وتوقعها في فخ التوهم بأنها تحظى بدعم غير مشروط من جانب هذه القوى.

مواقف الجيران

في سياق متصل، بينما كان الأميركيون حاضرين على الأراضي الأفغانية، كانت هذه القوى الإقليمية سعيدة بدعم «حركة طالبان» المزعجة، بغية إبقاء الأميركيين في حالة تأهب. غير أن الأميركيين الآن رحلوا في الوقت الذي تشعر هذه القوى الإقليمية بالقلق إزاء الحركات المسلحة السنية المتشددة... وترى هذه القوى تهديدات صادرة عن جماعات متطرفة وأخرى إرهابية ما زالت مختبئة داخل أفغانستان. ومن جهتها، يساور إيران قلق بالغ إزاء صعود «داعش» في أفغانستان المتاخمة لحدودها الشرقية. ويرى مراقبون أن «تنظيم داعش» بآيديولوجيته الطائفية العنيفة وأجندته الإرهابية يمكن أن يشكل تهديداً للمجتمعات الشيعية داخل أفغانستان. كذلك تتخوف إيران من أن يتوغل «تنظيم داعش» والشراذم التابعة له في عمق الأراضي الإيرانية عبر الحدود الطويلة بين البلدين «الجارين». وحقاً، توجد بالفعل مؤشرات توحي بـ«اختراق» شراذم متطرفة سنية إقليم سيستان وبلوشستان الإيراني، حيث تضرب النزعات الانفصالية بجذور عميقة وقديمة.
وبالمثل، يخشى الروس من صعود «تنظيم داعش» في شمال أفغانستان، وتحديداً المناطق القريبة من حدود البلاد مع دول آسيا الوسطى، بما في ذلك تركمانستان وأوزبكستان وتاجيكستان - وكلها جمهوريات سوفياتية سابقة – لا سيما أن روسيا لا تزال تعتبر هذه الدول الثلاث ضمن نطاقها الأمني. وهنا، تجدر الإشارة إلى أنه تنشط في الجمهوريات الثلاث مجموعات سنية متطرفة تعمل داخل حدودها، وبعضها يستخدم أفغانستان كملاذ آمن وقاعدة خلفية. وبالفعل، أوضح الروس، من جانبهم، لشركائهم الإقليميين، بما في ذلك الجيش الباكستاني وأجهزة الاستخبارات، تصورهم للتهديد الناجم عن صعود «تنظيم داعش» داخل أفغانستان.
ثم إن القلق لا يقتصر الآن على الروس والإيرانيين، إذ يخشى الصينيون أيضاً من وجود عناصر انفصالية تنتمي إلى «حركة تركستان الشرقية» الانفصالية تستخدم أراضي أفغانستان كملاذ وقاعدة خلفية. وعندما زار وفد من «طالبان» العاصمة الصينية بكين، قبل فترة قصيرة، أعرب مسؤول في وزارة الخارجية الصينية صراحة عن مخاوفه بشأن هذه العناصر الانفصالية المعروفة لقادة «طالبان»، حسبما ذكرت وسائل الإعلام الحكومية الصينية.
أخيراً، تأتي باكستان، الظهير التاريخي لـ«طالبان». وهنا يساور الباكستانيين قلق مماثل إزاء صعود «تنظيم داعش» في شرق أفغانستان وصلاته بالجماعات الطائفية الباكستانية المتمركزة داخل الأراضي الأفغانية. والملاحظ أن معظم الهجمات الطائفية في كويتا (عاصمة إقليم بلوشستان الباكستاني) ومحيطها خلال عامي 2018 و2019 نفذها «تنظيم داعش» بمساعدة شركائه الباكستانيين، وفق تقارير الاستخبارات الباكستانية. والجلي للمراقبين أن مصدر إزعاج آخر لمسؤولي الأمن الباكستانيين، هو وجود قيادة وكوادر حركة «طالبان باكستان» داخل الأراضي الأفغانية. وحول هذه المسألة، يرى كثيرون أن ادعاء قوات الأمن الباكستانية «النجاح في كسر ظهر التشدد» يظل ادعاءً ينبغي التعامل معه بحذر شديد. فالآن، يمكن أن يؤدي إحكام «طالبان» قبضتها العسكرية والسياسية على كابُل والمدن الرئيسة الأخرى في أفغانستان إلى تشجيع حركة «طالبان باكستان» على العمل بحرية أكبر. ولكن مع هذا، فإن ما نراه في أروقة السلطة في إسلام آباد لحظات بهيجة، وليست متخوفة أو قلقة إزاء حقيقة أن «طالبان» استعادت السلطة وفرضت نفوذها بقوة السلاح.

تحدي احتواء العنف

على أي حال، السؤال الأمني الأساسي الذي يواجه نظام «طالبان» هو ذلك الذي يدور حول ما إذا كان سيتمكن من السيطرة واحتواء كل مصادر العنف هذه داخل الحدود الأفغانية.
هل يملك النظام الجديد - القديم الإمكانيات التقنية لإدارة هذا الوضع الأمني المعقد للغاية؟ وهل قادته مقتنعون آيديولوجياً بضرورة منع المتشددين الإرهابيين والانفصاليين المختبئين داخل الأراضي الواقعة تحت سيطرتهم من زرع الفوضى في البلدان المجاورة؟ وبمعنى آخر، هل لدى قادة «طالبان» الإرادة السياسية لكبح جماح هذه الجماعات والشراذم؟
من الحقائق المعروفة أن «حركة طالبان» الأفغانية على خلاف مع «تنظيم داعش» - الذي يتألف في معظمه من أعضاء «طالبان» الراديكاليين الذين انشقوا عن التنظيم - الأم في الآونة الأخيرة، إلا أن فريق المراقبة التابع للأمم المتحدة لاحظ خلال الفترة الأخيرة في أحد تقاريره أن «حركة طالبان» الأفغانية ما زالت تحتفظ بصلات مع «القاعدة»، بل ولديهم صلات أيضاً مع حركة «طالبان باكستان». ثم إن الحركة كانت تستضيف ناشطين ومقاتلين انفصاليين من تركستان الصينية – أي إقليم سنكيانغ الذاتي الحكم في أقصى غرب الصين – إبان فترة حكمهم السابقة، ناهيك عن استضافتهم أيضا جماعات متطرفة سنية من جمهوريات آسيا الوسطى في الماضي.
ومن ثم، يُطرح هنا السؤال: إلى أي مدى يمكن لـ«طالبان» أن تذهب لمنع هذه الجماعات والشراذم من نشر العنف في الدول المجاورة؟ وإلى أي مدى ستتسامح دول الجوار مع وجود هذه الجماعات على الأراضي الأفغانية؟ وهل ستسمح هذه الدول المجاورة لـ«ـطالبان» بتعزيز قبضتها على السلطة... حتى لو فشلت في القيام على الفور بإجراءات للسيطرة على العنف واحتوائه داخل حدودها؟
هنا نعود إلى القول، إن الإجابة عن هذه التساؤلات ستحدد مصير نظام «طالبان». ولا بد من الوضع في الحساب حقيقة أنه لا يمكن للعناصر المحلية داخل المجتمع الأفغاني أن تقاوم وتفجر حرباً أهلية في أفغانستان إلا بمساعدة عسكرية من الدول المجاورة. وبالتالي، فإن التساؤل المحير الآن هو ما إذا كان أولئك الذين يديرون السياسة الخارجية لباكستان قد توقعوا وضعاً ستخفق معه «طالبان» في السيطرة بنجاح على الموقف واحتواء العنف داخل حدودها. في الواقع، تبدو هذه النتيجة المحتملة للوضع الحالي، لكن يبدو أن الضحكات المتهورة لمن هم في السلطة داخل مطار كابُل يشير إلى أن الباكستانيين ما زالوا يتمتعون باللحظة الراهنة، وسيستغرق الأمر وقتاً طويلاً قبل أن يبدأوا في الشعور بالقلق إزاء تطور الوضع.
حتى اللحظة، يبدو أن «طالبان» هي المستفيد الرئيسي من هذا الإجماع الإقليمي القادر على خلق بيئة مواتية لمنع اندلاع حرب أهلية أخرى في أفغانستان. والواضح أن هذه الاستجابة الإقليمية مواتية للغاية للحركة، خاصة أنه في الماضي، كانت الحروب الأهلية الأفغانية تؤجج واحدة بجهود أو تبعاً لمصالح الدول المتاخمة والمجاورة، وذلك عبر تقديم الأسلحة والتدريب والتمويل إلى هذا الجانب أو خصومه في الصراع الداخلي على السلطة في أفغانستان. وهذا بخلاف الصورة الحالية حيث يبدو الكل - علناً على الأقل - سعداء بصعود «طالبان» كقوة عسكرية مهيمنة في البلاد.
من ناحية أخرى يتناقض هذا الرضا بشكل ملحوظ مع افتقار «طالبان» للقدرات التنظيمية والإدارية والسياسية لإدارة شؤون الحكومة على أسس حديثة. وهنا، يرى خبراء باكستانيون أن أي محاولة للإبقاء على النزاعات المسلحة والتطرف في شكلهما الأصلي، مع إفساح المجال للاستثمار الأجنبي والتكنولوجيا الحديثة في المجتمع الأفغاني يمكن أن تؤتي بنتائج كارثية.
وحسب المراقبين، يكشف تاريخ الإرهاب والتشدد في أعقاب هجمات 11 سبتمبر بوضوح أن التكنولوجيا والتطرف الديني مزيج قاتل. واللافت أن عدداً كبيراً من الإرهابيين القتلة على مدار السنوات العشرين الماضية كانوا من المتخصصين في التكنولوجيا المتقدمة وتخرجوا في جامعات مشهود لها دولياً أو وطنياً. وفي المقابل، فإن تحول «طالبان» إلى قوة تقليدية قد يعزز قوة وجاذبية الجماعات المتطرفة الراديكالية التي تنشط في أفغانستان.

العلاقة بين إيران و«طالبان»
> بدأت إيران و«طالبان» التعاون عسكرياً خلال الفترة من 2014 حتى 2016 العام الذي شهد صعود «داعش» داخل أفغانستان. وبعد ظهور «تنظيم داعش في ولاية خراسان» داخل أفغانستان عام 2015، وجدت طهران مبرراً آخر للتعاون مع «طالبان»، إلا وهو احتواء أعضاء «داعش» الذين تعتبرهم طهران مصدر تهديد لحدودها.
بعد هذا التعاون، نقلت تقارير صحافية عن المتحدث باسم «طالبان»، ذبيح الله مجاهد، في يوليو (تموز) 2016، قوله إن «الجماعة تقيم علاقات جديدة مع طهران»، حسبما أفاد معهد الشرق الأوسط في العاصمة الأميركية واشنطن.
من جهته، نفذ «فيلق القدس» التابع للحرس الثوري الإيراني و«طالبان» عمليات مشتركة ضد «تنظيم داعش» في وسط أفغانستان عام 2016 وأواخر عام 2018 اعترفت إيران لأول مرة بأنها تستضيف مبعوثي «طالبان» لإجراء مباحثات ثنائية، لكن طهران شددت على أن الحكومة الأفغانية كانت على علم بالاجتماع، وأن الهدف من المباحثات «حل المشاكل الأمنية في أفغانستان».
ثم في أواخر يناير (كانون الثاني) 2021 توجه وفد رفيع من «طالبان»، بقيادة برادر إلى طهران، الأمر الذي جرى تداوله على نطاق واسع عبر وسائل إعلام إيرانية. ومع ذلك، يعتقد خبراء أن هذا التعاون جاء على أساس العداء المشترك لواشنطن وقواتها العسكرية في أفغانستان. ومع رحيل الأميركيين الآن، يتوقع أن يلحق الضعف بأساس هذا التعاون إلى حد كبير. ومن جهته، قال خبير باكستاني معلقاً: «سيحكم الإيرانيون والروس على (طالبان) الآن على أساس أدائهم في احتواء العنف داخل حدودهم».
وبالفعل، لهذا السبب، عُقد مؤتمر لرؤساء ثماني وكالات استخباراتية إقليمية في العاصمة الباكستانية إسلام آباد أخيراً، استضافه رئيس الاستخبارات الباكستانية الجنرال فايز حميد، وشارك فيه رؤساء الاستخبارات الروسية والصينية والإيرانية وعدد من دول آسيا الوسطى. واستعرض المشاركون خلال المؤتمر الوضع الأمني في أفغانستان ووافقوا على تبادل المعلومات الاستخباراتية مع حكومة «طالبان» حول أي تهديد أمني وشيك.

الصين وأفغانستان: الاستثمار أم الإرهاب؟
> تكره الطبيعة الفراغ، وينطبق القول ذاته على حال السياسة، فمع سقوط إمبراطورية، تقف أخرى في انتظار سد الفراغ. وبالمثل، في الوقت الذي يعكف الأميركيون على حزم حقائبهم للعودة إلى ديارهم، يبدو الصينيون متحمسين لملء الفراغ الناجم عن رحيلهم. وكما ورد في مقال رأي كتبه تشو بو، الخبير الصيني في الشؤون الاستراتيجية، ونشرته صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية قبل أيام قليلة رأى الكاتب أن الصين تدخل أفغانستان الآن وهي «ليست مسلحة بالقنابل، بل بمخططات البناء». وللعلم، كان تشو عقيداً بارزاً في «جيش التحرير الشعبي» الصيني من عام 2003 إلى عام 2020، كما أنه خبير في التفكير الاستراتيجي للجيش الصيني بشأن الأمن الدولي. وأوضح الخبير الصيني مفصلاً كلامه «في الواقع، لطالما اعتبرت أفغانستان مقبرة للغزاة... الإسكندر الأكبر، والإمبراطورية البريطانية، والاتحاد السوفياتي، والآن الولايات المتحدة. الآن تدخل الصين... ليست مسلحة بالقنابل، وإنما بمخططات البناء، وفرصة لإثبات أن اللعنة (لعنة التدخل الخارجي) يمكن كسرها».
تشو يعتبر أن كلاً من أفغانستان والصين، على الترتيب، تملكان أكثر ما يحتاجه كل منهما. ومع الانسحاب الأميركي، يمكن لبكين أن تقدم أكثر ما تحتاجه كابُل: الحياد السياسي والاستثمار الاقتصادي. وفي المقابل، تملك أفغانستان أهم الجوائز التي يمكن للصين اغتنامها وهي: فرص في البنية التحتية وبناء الصناعة، وهذان مجالان تتمتع الصين فيهما بقدرات لا نظير لها، إضافة لإمكانية الوصول إلى احتياطيات معدنية غير مستغلة تقدر قيمتها بتريليون دولار، بما في ذلك معادن صناعية حيوية، مثل الليثيوم والحديد والنحاس والكوبالت. ومع أن بعض النقاد دفعوا بأن الاستثمار الصيني ليس أولوية استراتيجية داخل أفغانستان الأقل أمناً، فإنني أعتقد خلاف ذلك.
وتابع تشو قراءته معرباً عن اعتقاده بأن «الشركات الصينية تتمتع بسمعة طيبة في الاستثمار بالبلدان الأقل استقراراً، طالما أنها تستطيع جني الثمار». مشيراً إلى نجاحها في ذلك بالفعل داخل العديد من الدول الأفريقية. وهنا تجدر الإشارة هنا إلى أن الخطط الصينية لأفغانستان لا تنطوي على أي نوع من الوجود العسكري، لكن هناك لإدخال أفغانستان في مجال نفوذها من خلال إضافة طرق جديدة في مبادرة «الحزام والطريق».
هذا يعني تدفق استثمارات صينية ضخمة على أفغانستان تحت قيادة «طالبان»، والواضح أن الاقتصاد الصيني متعطش للموارد الطبيعية من أجل توفير مواد خام لصناعته. وإذا أخذنا بما كتبه تشو، فإن هناك تريليون دولار من المخزونات المعدنية غير المستغلة في أفغانستان، يمكن للمرء أن يتخيل مستوى الاستثمار الذي ستكون الصين على استعداد لتقديمه من أجل استغلال هذه الموارد المعدنية غير المستغلة التي تحتاجها بشدة من أجل نموها الصناعي.
في ظل هذه الخلفية، يبدو أن الإجماع السياسي الإقليمي حول الانتصارات العسكرية لـ«طالبان» منطقي. وعلى ما يظهر، ينظر اللاعبون الإقليميون إلى «طالبان» الآن باعتبارها حصناً في مواجهة الخطر الإقليمي المتصور المتمثل في صعود الجماعات السنية المتطرفة - مثل «داعش» - في أفغانستان. والجدير بالذكر هنا أن وجود «داعش» في أفغانستان تنامى بين عامي 2014 و2016 ووصل الأمر إلى حد تقديم كل من روسيا وإيران بأسلحة حديثة لـ«حركة طالبان» كي تشن عمليات ضد التنظيم المتطرف داخل مناطق سيطرتها.
أما الصينيون - كما سبقت الإشارة - فيشعرون بالقلق خصوصاً إزاء وجود مسلحين ينتمون إلى «حركة تركستان الشرقية» في الأراضي الأفغانية القريبة من ممر واخان الذي يربط أفغانستان والصين. ووفقاً لما ذكره تشو، فإنه عندما زار الملا عبد الغني برادر (نائب رئيس حكومة «طالبان» الجديدة) بكين «قال وزير الخارجية الصيني وانغ يي... إنه يأمل في أن تقطع (طالبان) تماماً علاقتها مع مجموعة تركستان الشرقية لأنها تشكل تهديداً مباشرا للأمن الوطني للصين وسلامة أراضيها».



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.