«أوكوس»: المواجهة الأميركية - الصينية في ساحات جديدة (تحليل)

صورة أرشيفية تجمع الرئيس الصيني والرئيس الأميركي المنتخب عندما كان نائباً للرئيس في 2013 (أ.ب)
صورة أرشيفية تجمع الرئيس الصيني والرئيس الأميركي المنتخب عندما كان نائباً للرئيس في 2013 (أ.ب)
TT

«أوكوس»: المواجهة الأميركية - الصينية في ساحات جديدة (تحليل)

صورة أرشيفية تجمع الرئيس الصيني والرئيس الأميركي المنتخب عندما كان نائباً للرئيس في 2013 (أ.ب)
صورة أرشيفية تجمع الرئيس الصيني والرئيس الأميركي المنتخب عندما كان نائباً للرئيس في 2013 (أ.ب)

يُرسي التحالف الأميركي – البريطاني - الأسترالي (أوكوس) الذي أعلن عنه الرئيس جو بايدن، واقعاً جديداً في منطقة آسيا – المحيط الهادي، حيث تزداد نُذر المواجهة بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة وبين الصين من الجهة المقابلة.
سيضمن «أوكوس» (الأحرف الأولى من أسماء أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة بالإنجليزية)، نقل تكنولوجيا بناء السفن النووية (من دون السلاح الذري) إلى كانبيرا، إضافة إلى تعزيز التعاون في مجالات التكنولوجيا المتطورة، خصوصاً الذكاء الصناعي وأجهزة الكومبيوتر التي تعتمد على الفيزياء الكمومية (الكوانتوم فيزيكس). وعلى الرغم من أن اسم الصين لم يرد مرة واحدة في كلمة الرئيس الأميركي، فإن ذلك لم يخفِ أن الهدف الوحيد للكيان الوليد هو تطويق الصين ومنعها من بسط نفوذها بوجوهه المختلفة، العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية، على منطقة شرق آسيا والمحيط الهادي.
بكين أدانت بقسوة التحالف الجديد واعتبرته تصعيداً في نهج الحرب الباردة الذي تسير واشنطن به و«يزعزع السلام الإقليمي والاستقرار ويصعّد سباق التسلح».
المفارقة، أن فرنسا، الحليف التقليدي للولايات المتحدة، نددت بالاتفاق بعدما ألغت أستراليا عقداً لشراء 12 غواصة فرنسية تعمل بالديزل بعدما ضمنت الحصول على تكنولوجيا الغواصات النووية الأميركية. وإذا كان الاهتمام الإعلامي يركز على هذا الجانب من الاتفاق؛ فذلك بسبب الأهمية الكبرى للغواصات في أي مواجهة مسلحة أو توتر في منطقة المحيط الهادي.
لكل من أطراف التحالف الجديد تاريخ من العلاقات المتوترة مع الصين. واشنطن كانت قد أعلنت منذ 2009 أثناء حكم إدارة باراك أوباما عن استراتيجية جديدة في آسيا صارت تُعرف بـ«التحول إلى آسيا». وتقوم على التشديد على مركزية الدور الذي تؤديه هذه المنطقة في اقتصاد العالم وفي صنع مستقبله. لم تتحول الاستراتيجية تلك إلى برنامج واضح المعالم في ولايتي أوباما. وعندما أعلن دونالد ترمب ترشحه إلى منصب الرئيس، سلطت حملته الضوء على «الخطر الصيني» وعلى «سرقة الوظائف» التي تمارسها بكين على حساب العمال الأميركيين، كما أدان ترمب في العديد من خطاباته نقل الشركات الأميركية الكبرى مصانعها إلى الصين. وسرعان ما تحددت عناصر المواجهة الاقتصادية الأميركية – الصينية من خلال العقوبات على شركة «هواوي» لتكنولوجيا الاتصالات وتخفيض مستوى التعاون العلمي مع المؤسسات الصينية بذريعة استغلال العلوم الأميركية المنقولة في الصناعات الحربية الصينية.
في غضون ذلك، رفضت الولايات المتحدة الاعتراف بالمنطقة الاقتصادية الخاصة التي أعلنتها بكين في بحر الصين؛ ما أسفر عن عدد من الاحتكاكات بين قوات الدولتين. كما كانت الجزر الصناعية التي بنتها الصين قرب الممرات البحرية الدولية الحساسة موضع شكوى دائمة من واشطن وعدد من بلدان المنطقة التي تخوض مواجهات قانونية ودبلوماسية لمنع تمدد الصين إلى ما تعتبره مياهها الإقليمية، خصوصاً بعد دراسات أشارت إلى وجود كميات تجارية من النفط والغاز في البحر.
والصين بالنسبة إلى أستراليا هي الشريك التجاري الأكبر؛ إذ تستورد الصين 36 في من الصادرات الأسترالية. وكانت اللغة السائدة في العلاقة بين البلدين تركز على التعاون المشترك والربح المتبادل. تغير الواقع هذا منذ ثلاثة أعوام وفرضت الصين غرامات جمركية وصلت إلى 212 في المائة على الواردات الزراعية والمنجمية الأسترالية. واختفت عبارات التعاون المشترك لتحل مكانها حملة بدأها المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية تتناول أعمال قتل ارتكبتها القوات الأسترالية الخاصة في أفغانستان في 2012. وقعت الحملة موقعاً بالغ السوء على الرأي العام الأسترالي الذي كان يبحث عن مخارج من فضيحة القوات الأسترالية هذه.
من جهة أخرى، قد يمهد «أوكوس» لرفع درجة الحضور الأسترالي في آسيا ليوازن الدور الصيني. ويأخذ هذا الأخير شكل المبادرات الاقتصادية التي بلغت ذروتها مع مشروع «الحزام والطريق» الذي ستنفق الصين بموجبه مليارات الدولارات لإنشاء بنى تحتية تأمل السلطات الصينية أن تكون كفيلة بجعل بلادها مركز التجارة العالمي بعدما أفلحت في أن تحتل المركز الأول للصناعة في العالم. كما أن أستراليا قد تؤدي مهمات عسكرية بارزة في حال قررت الصين نقل مطالبتها بضم تايوان إلى حيز الفعل العسكري.
ويضاف «أوكوس» كذلك إلى المجموعة الرباعية «الكواد» التي تضم الولايات المتحدة واليابان والهند وكوريا الجنوبية التي تحاول واشنطن جعلها ثقلاً موازناً لبكين في آسيا، وتعكس اتساع ساحة المنافسة الأميركية – الصينية لتشمل لاعبين من الوزن الثقيل مثل الهند واليابان اللذين تعتمل علاقتهما مع الصين على الكثير من آثار العداء القديم والحساسية المستجدة.
من جهتها، لا تبدي الصين رغبة في التخلي عن طموحاتها على مستويي المنطقة والعالم. وتبدو الكلمات التي غالباً ما استخدمها الدبلوماسيون الصينيون في التسعينات والعقد الأول من القرن الحالي عن التعاون المشترك وأهمية التبادل الاقتصادي، من التاريخ القديم. وعلى الرغم من بعض المبالغات فيما تنشره وسائل الإعلام الغربية عن الدور الشيطاني للحزب الشيوعي الصيني الذي يراد له أن يحل مكان «إمبراطورية الشر السوفياتية»، فإن الغرب لا يريد الاعتراف بالصين كلاعب واثق من نفسه يحتل موقعاً كبيراً على الساحة الدولية. التركيز على سلبيات النظام السياسي والاقتصادي في الصين، بات يجد الرد عليه في حملات إعلامية تنال من سياسات الولايات المتحدة في مختلف مناطق العالم، وهذه ممارسة كانت قد توقفت منذ عهد ماو تسي تونغ. وليس تفصيلاً في هذا المجال أن تكون الصين أول من مد يد العون إلى نظام «طالبان» في أفغانستان حتى قبل خروج القوات الأميركية.
هل يسفر الكيان الأخير في سلسلة خطوات التطويق الأميركي للصين عن توتر إضافي في الإقليم والعالم؟ الأرجح أن الجواب إيجابي، وأن انتقال ثقل الاقتصاد والسياسة والعسكر إلى آسيا والمحيط الهادي سيرسم وجه الكوكب في العقود المقبلة.



موسكو تلعب على التصعيد النووي في انتظار عودة ترمب إلى البيت الأبيض

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتماع في موسكو 21 نوفمبر 2024 (رويترز)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتماع في موسكو 21 نوفمبر 2024 (رويترز)
TT

موسكو تلعب على التصعيد النووي في انتظار عودة ترمب إلى البيت الأبيض

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتماع في موسكو 21 نوفمبر 2024 (رويترز)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتماع في موسكو 21 نوفمبر 2024 (رويترز)

يشكّل تحديث العقيدة النووية لروسيا الذي أعلنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مؤخراً، تحذيراً للغرب، وفتحاً ﻟ«نافذة استراتيجية» قبل دخول الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب البيت الأبيض، وفق تحليل لصحيفة «لوفيغارو» الفرنسية.

«إن تحديث العقيدة النووية الروسية يستبعد احتمال تعرّض الجيش الروسي للهزيمة في ساحة المعركة»، بيان صادر عن رئيس الاستخبارات الخارجية الروسية، سيرغي ناريتشكين، لا يمكن أن يكون بياناً عادياً، حسب «لوفيغارو». فمن الواضح، حسب هذا التصريح الموجه إلى الغربيين، أنه من غير المجدي محاولة هزيمة الجيش الروسي على الأرض، لأن الخيار النووي واقعي. هذه هي الرسالة الرئيسة التي بعث بها فلاديمير بوتين، الثلاثاء، عندما وقّع مرسوم تحديث العقيدة النووية الروسية المعتمد في عام 2020.

ويدرك الاستراتيجيون الجيوسياسيون الحقيقة الآتية جيداً: الردع هو مسألة غموض (فيما يتعلّق باندلاع حريق نووي) ومسألة تواصل. «وفي موسكو، يمكننا أن نرى بوضوح الذعر العالمي الذي يحدث في كل مرة يتم فيها نطق كلمة نووي. ولا يتردد فلاديمير بوتين في ذكر ذلك بانتظام، وفي كل مرة بالنتيجة المتوقعة»، حسب الصحيفة. ومرة أخرى يوم الثلاثاء، وبعد توقيع المرسوم الرئاسي، انتشرت موجة الصدمة من قمة مجموعة العشرين في كييف إلى بكين؛ حيث حثّت الحكومة الصينية التي كانت دائماً شديدة الحساسية تجاه مبادرات جيرانها في ما يتصل بالمسائل النووية، على «الهدوء» وضبط النفس. فالتأثير الخارق الذي تسعى روسيا إلى تحقيقه لا يرتبط بالجوهر، إذ إن العقيدة النووية الروسية الجديدة ليست ثورية مقارنة بالمبدأ السابق، بقدر ارتباطها بالتوقيت الذي اختارته موسكو لهذا الإعلان.

صورة نشرتها وزارة الدفاع الروسية في الأول من مارس 2024 اختبار إطلاق صاروخ باليستي عابر للقارات تابع لقوات الردع النووي في البلاد (أ.ف.ب)

العقيدة النووية الروسية

في سبتمبر (أيلول) الماضي، وفي حين شنّت قوات كييف في أغسطس (آب) توغلاً غير مسبوق في منطقة كورسك في الأراضي الروسية، رد فلاديمير بوتين بتحديد أنه يمكن استخدام الأسلحة النووية ضد دولة غير نووية تتلقى دعماً من دولة نووية، في إشارة واضحة إلى أوكرانيا والولايات المتحدة. لكن في نسخة 2020 من الميثاق النووي الروسي، احتفظت موسكو بإمكانية استخدام الأسلحة الذرية أولاً، لا سيما في حالة «العدوان الذي تم تنفيذه ضد روسيا بأسلحة تقليدية ذات طبيعة تهدّد وجود الدولة ذاته».

وجاء التعديل الثاني في العقيدة النووية الروسية، الثلاثاء الماضي، عندما سمحت واشنطن لكييف باستخدام الصواريخ بعيدة المدى: رئيس الكرملين يضع ختمه على العقيدة النووية الجديدة التي تنص على أن روسيا ستكون الآن قادرة على استخدام الأسلحة النووية «إذا تلقت معلومات موثوقة عن بدء هجوم جوي واسع النطاق عبر الحدود، عن طريق الطيران الاستراتيجي والتكتيكي وصواريخ كروز والطائرات من دون طيار والأسلحة التي تفوق سرعتها سرعة الصوت». وحسب المتخصصة في قضايا الردع في المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية (إيفري)، هيلواز فايت، فإن هذا يعني توسيع شروط استخدام السلاح النووي الروسي.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يصافح الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب خلال اجتماع على هامش قمة مجموعة العشرين في أوساكا باليابان 28 يونيو 2019 (رويترز)

انتظار عودة ترمب

لفترة طويلة، لاحظ صقور الاستراتيجية الجيوستراتيجية الروسية أن الردع الروسي تلاشى. وبالنسبة إليهم، فقد حان الوقت لموسكو لإعادة تأكيد خطوطها الحمراء من خلال «إعادة ترسيخ الخوف» من الأسلحة النووية، على حد تعبير سيرغي كاراجانوف، الخبير الذي يحظى باهتمام فلاديمير بوتين. ةمن هذا المنظار أيضاً، يرى هؤلاء المختصون اندلاع الحرب في أوكرانيا، في 24 فبراير (شباط) 2022، متحدثين عن «عدوان» من الغرب لم تكن الترسانة النووية الروسية قادرة على ردعه. بالنسبة إلى هؤلاء المتعصبين النوويين، ينبغي عدم حظر التصعيد، بل على العكس تماماً. ومن الناحية الرسمية، فإن العقيدة الروسية ليست واضحة في هذا الصدد. لا تزال نسخة 2020 من العقيدة النووية الروسية تستحضر «تصعيداً لخفض التصعيد» غامضاً، بما في ذلك استخدام الوسائل غير النووية.

وحسب قناة «رايبار» المقربة من الجيش الروسي على «تلغرام»، فإنه كان من الضروري إجراء تحديث لهذه العقيدة؛ لأن «التحذيرات الروسية الأخيرة لم تُؤخذ على محمل الجد».

ومن خلال محاولته إعادة ترسيخ الغموض في الردع، فإن فلاديمير بوتين سيسعى بالتالي إلى تثبيط الجهود الغربية لدعم أوكرانيا. وفي ظل حملة عسكرية مكلفة للغاية على الأرض، يرغب رئيس «الكرملين» في الاستفادة من الفترة الاستراتيجية الفاصلة بين نهاية إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن ووصول الرئيس المنتخب دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، الذي يتوقع منه بوتين مبادرات سلام محتملة لإنهاء الحرب.

يسعى بوتين، وفق الباحثة في مؤسسة «كارنيغي»، تاتيانا ستانوفايا، لوضع الغرب أمام خيارين جذريين: «إذا كنت تريد حرباً نووية، فستحصل عليها»، أو «دعونا ننهي هذه الحرب بشروط روسيا».