قراءة في علاقة اليمن و«القاعدة» وما قد تعنيه لواشنطن اليوم

أمام أوباما تحديات جديدة.. بينها مخاطر الحرب الأهلية

يمنيون يعاينون سيارة محترقة يشتبه في أنها كانت تابعة لتنظيم القاعدة بعد استهدافها من قبل طائرة {دورن} أميركية (أ.ف.ب)
يمنيون يعاينون سيارة محترقة يشتبه في أنها كانت تابعة لتنظيم القاعدة بعد استهدافها من قبل طائرة {دورن} أميركية (أ.ف.ب)
TT

قراءة في علاقة اليمن و«القاعدة» وما قد تعنيه لواشنطن اليوم

يمنيون يعاينون سيارة محترقة يشتبه في أنها كانت تابعة لتنظيم القاعدة بعد استهدافها من قبل طائرة {دورن} أميركية (أ.ف.ب)
يمنيون يعاينون سيارة محترقة يشتبه في أنها كانت تابعة لتنظيم القاعدة بعد استهدافها من قبل طائرة {دورن} أميركية (أ.ف.ب)

مرة أخرى عاد اليمن إلى اللعبة، بعد أن كانت للولايات المتحدة الأميركية قبل 5 سنوات حكاية نجاح ونصر مبكر في الحرب ضد «القاعدة». أما الآن، فقد ضاعت تلك المكاسب وظهرت «القاعدة»، وسيحتاج الرئيس الأميركي باراك أوباما وطاقمه إلى إيجاد طريقة لخوض نوع جديد من الحروب، وسيضطرون إلى فعل ذلك في أحد أسوأ البلدان ضيافة في العالم. في أرض تنهار وتنحدر نحو الحرب الأهلية والعنف، وترتفع فيها أسعار الطعام وتجف الآبار.
صعود «القاعدة» وسقوطها ونهوضها من جديد في اليمن، قصة نجاح وإخفاق، وتحديات قرن جديد، وطريقة جديدة في فهم العالم. وهي قصة تمس أميركا كما رصدها الكاتب غريغوري دي. جونسون في كتاب تحت عنوان «اليمن والقاعدة.. الحرب الأميركية في جزيرة العرب»، أوضح خلاله أن أفغانستان كانت تمثل فكرة لـ«الجهاديين» أكثر منها مكانا جغرافيا.

ضخ تنظيم «القاعدة» كمًّا هائلا من المعلومات في شكل وثائق وفيديوهات وملفات صوتية، أصدرها في اليمن، ولاحقا في شبه الجزيرة العربية. ومنذ عام 2007 أصدر كمية كبيرة من المواد عبر المنتديات المتشددة على شبكة «الإنترنت»، وفي ما بعد عن طريق جناحه الإعلامي. ولكن مع كل ذلك ليس هناك من يستطيع أن يجزم بدقة بصحة هذه المواد وما جاء بها من معلومات. مع هذا، حاول الكاتب الأميركي غريغوري دي. جونسون في كتابه «اليمن والقاعدة.. الحرب الأميركية في جزيرة العرب» أن يستعين ببعض الصحافيين والفارين من «القاعدة» لكي يتوثق ويعيد توثيق ما أصدره التنظيم من معلومات في هذا الشأن.
الكتاب تعرض لبعض الشخصيات الرئيسية التي اعتبرها المؤلف منطلقات لمعلوماته ومصادره. ومن هذه الشخصيات محمد الأهدل، وكيل «القاعدة» والقائم على شؤونها المالية حتى عام 2003، عندما استسلم كجزء من اتفاقية سرية، وحرر عام 2006 وهو يعيش في اليمن. كذلك تعرض الكتاب لعبد الله بن حسين الأحمر، شيخ مشايخ قبائل حاشد القوية ورئيس البرلمان اليمني عام 1993 حتى وفاته عام 2007، كما ترأس أيضا حزب الإصلاح الذي كان حزب المعارضة اليمني الأبرز.
ذهب الكاتب إلى أنه في عام 2009، وتحديدا في أوائل يناير (كانون الثاني) منه، اجتمع عدة رجال في بيت صغير آمن ذي طابقين في المرتفعات المطلة من الشمال على العاصمة صنعاء، وكانوا قد جاءوا من كل أنحاء العالم العربي، إلى أفريقيا وجنوب آسيا. وخلال بضعة أشهر انضمت إليهم حفنة من الأميركيين ومجموعة من الأوروبيين. وكلهم حارب وأخفق في أماكن أخرى، وبعضهم سجن في أماكن مختلفة منها غوانتانامو واليمن، إلا أنهم صمدوا وظلوا أحياء على الرغم مما مروا به من ظروف صعبة.
جاء الرجال إلى المنزل الصغير الآمن، في ذلك اليوم، عبر خليج عدن بقوارب لتهريب الرقيق الأبيض، فضاعوا بين حشود اللاجئين اليومية من أفريقيا. وبعض السعوديين جاءوا بالسيارة عبر خط الحدود المخفي في الرمال، وغيرهم هبطوا في مطار صنعاء الدولي مدعين أنهم طلبة لغة عربية أو سياح وكانوا مستعدين لما ينتظرهم.
وعلى بعد قارتين، كان باراك أوباما – الرئيس الأميركي المنتخب آنذاك – غير مستعد لما هو على وشك أن يحدث.
كان يجلس في مكتبه المؤقت في فندق «هاي - آدامز» الفخم المجاور للبيت الأبيض في العاصمة الأميركية واشنطن، ويحضر لتطبيق التغيرات التي وعد بها خلال حملته، وكان على رأس قائمته إغلاق سجن قاعدة غوانتانامو، لأنه أزعجه وأضر بصورة أميركا في الخارج، وقسم أصوات الناخبين في الداخل، وكانت المحاكم الداخلية تهاجم أسسه الشرعية، بينما كانت تتدفق قصص التعذيب عبر أقفاص السجن الحديدية.
ومع أن أوباما لم يكن يعلم ذلك في حينه، فإن حفنة من الرجال الملتقين في البيت الصغير الآمن باليمن، كانوا على وشك إجباره على ما لا يريد، ويلزمونه في الأيام المقبلة، بالرجوع عن وعد حملته الانتخابية. وكان السؤال الصعب: كيف للولايات المتحدة الأميركية أن تحارب عدوا حاذقا.. لا دولة له من دون الدخول في اجتياح عسكري جديد مكلف لا يزيد المسألة إلا صعوبة؟
وصل أوباما إلى منصبه مستعدا للتعامل مع الحربين في أفغانستان والعراق، إلا أنه لم يمض وقتا كافيا للنظر في اليمن، فخلال الأيام الأولى من يناير، كان اليمن لا يزال مسألة ثانوية، لكنها لم تبق كذلك. وبحلول أسبوعه الأول في المنصب، وجد أوباما أنه سيحتاج إلى الإجابة عن السؤال الذي طرحه اليمن ومقاتلوه، وهو الذي لم يبدأ حتى بالتفكير في المشكلة بعد.
وعلى الرغم من إعلان أوباما اعتزامه إغلاق معتقل غوانتانامو بعد أيام، فإن الرجال في اليمن كانوا يعرفون ما يفعلونه، فمن مخبئهم الضيق في الصحراء، وباستخدام مجرد كاميرا وبضع كومبيوترات محمولة، أحرجوا رئيس الولايات المتحدة الأميركية وحلفاءه العرب باستخدام فيديو واحد لا غير. حتى الطريقة التي نشروا بها المعلومات كنت محسوبة لزيادة التأثير، فنشروا أولا خبرا تشويقيا على صفحات المنتديات المتشددة على شبكة الإنترنت في الأيام التي سبقت مراسم تنصيب الرئيس الجديد، ومن ثم، بعدما أدى أوباما القسم الرئاسي، نشروا المادة النهائية.

* قصة هشام الديلمي
* في الصباح الباكر من يوم 12 سبتمبر (أيلول) 1987، دوى رنين الهاتف الحاد على الجدران الثقيلة في منزل داخل صنعاء. ثمة صوت غير مألوف على الجانب الآخر من الخط، يطقطق عبر أميال من التشويش، قبل أن ينقل الخبر: «لقد استشهد هشام.. مبارك».
هذا كل ما ستحصل عليه العائلة.. حفنة كلمات من رجل غريب على بعد ألفي ميل. لا جثة يدفنونها ولا رسالة أخيرة تمرر إليهم، وفي الوقت الذي وصل فيه الاتصال من باكستان، كان قد مر على موت هشام 12 يوما.
هشام الديلمي ابن إحدى عائلات اليمن المتدينة العريقة، كان قد غادر اليمن قبل شهور للقتال ضد السوفيات. عبد الوهاب هو رب العائلة التي تتكون من 12 ولدا وحفنة من البنات، إلا أن هشام كان المفضل عنده؛ إذ كان يدرس القرآن، وعندما اكتشف أبناء جيله الفتيات إبان الدراسة الثانوية، وصاروا يطاردونهن كظلالهن في شوارع صنعاء الملتوية، جلس هشام يلتهم أعمال سيد قطب. لم يلمس قلب الشيخ ذي التسعة والأربعين عاما منظر مثل منظر ابنه الممتلئ منحنيا على كتبه.
ومع أن شهر سبتمبر أحد أجمل أوقات السنة في صنعاء، فإن ذلك الصباح من سبتمبر 1987، كان ثقيلا على عبد الوهاب. الذي وجد صعوبة في الكلام وهو يستمع إلى أولاده يخبرونه بأمر الاتصال الهاتفي الآتي من باكستان، وبينما هم يتحدثون، انحرف ذهنه عودة إلى قصة يعقوب القديمة في التوراة، وكيف تعامل مع خسارة ابنه المفضل، ولكن هذا أيضا لم يمنحه كثيرا من المواساة.. «كان قلبي حزينا، واغرورقت عيناي بالدموع»، يقول متذكرا: «أردت ولدي».

* بعيدا عن الجغرافيا.. أفغانستان فكرة
* يعتقد الكاتب أن أفغانستان ما كان لها أن تكون حرب هشام؛ «إذ هي صراع ضمن سياق الحرب الباردة في آسيا الوسطى، وعلاقتها بالإسلام قليلة وكذلك لا علاقة لها باليمن بتاتا. كان الدين هنا مصادفة جغرافية على رقعة شطرنج سياسة القوى العظمى، ولكن العرب جذبهم شيء أعمق.. شيء أكثر سحرا من السياسة أو السلطة.. شدهم هذا الشيء إلى الحرب الدائرة في أفغانستان.. فدخلوا متعثرين إلى بلد لم يفهموه تماما من قبل».
أفغانستان، ذات الشتاء القارس، بلاد عديمة اللون، وصحاراها مقفرة تتشقق وتتفتت تحت الأقدام، وجبالها متزاحمة في الشرق، متكسرة ومسننة بوديان تخترقها الأنهار، لا تشبه في أي شيء الصحارى الخالية والمدن المكتظة التي يدعوها معظم الشبان الآتين أوطانهم.
كانت على البقايا الرملية للحرب في البلاد قد نشطت قبائل منقسمة، وظهر «أمراء حرب» مخدرون، ومجرمون صغار، وجواسيس، وأصناف أخرى من البشر. كانت هذه هي أفغانستان من حيث التاريخ والخبرة، ولكن ثمة أفغانستان أخرى ما بعد الفوضى، تربت في عقول المراهقين النقية من أمثال هشام، الذين جاءوا ليشكلوا «جيوشا شعبية دينية» تنطلق من هذه البلاد التي كانت فكرة أكثر منها مكانا.

* شرارة الاقتتال الأولى
* انطلقت شرارة القتال مع قيام الاتحاد السوفياتي يوم الميلاد من عام 1979، بإنزال عسكري لدعم الحكومة الشيوعية في كابل. وهذا ما جعل العرب يحولون الحرب إلى «جهاد» على الفور. وبعكس كثير من الحكومات العربية، التي كانت تدعم الأمر علنا لكنها كانت تحاول في الخفاء ثني شبابها عن السفر، أرسل «اليمن الشمالي» - وكان في ذلك الوقت دولة مستقلة منفصلة عن اليمن الجنوبي - عشرات من خيرة شبانه وألمعهم. وبالنسبة إلى جيل كامل من الشباب اليمني، غدت الرحلة إلى الخطوط الأمامية في أفغانستان تعبيرا طقسيا عن النضج.
كانت هناك 3 قنوات تغذي خطوط اليمن إلى أفغانستان: القناة الأولى، الحكومة برئاسة علي عبد الله صالح الرئيس الخامس لليمن الشمالي الذي وصل للسلطة عام 1978؛ إذ كان يدعو المجندين إلى القصر الرئاسي، ويجلس المراهقين على مقاعد عملاقة فخمة ويتحدث إليهم في هذا الأمر.

* مصطفى بادي.. رفيق جديد
* وفي الوقت الذي كان فيه هشام يطلب من أبيه الإذن له بالسفر إلى أفغانستان، وصل يافع يمني آخر اسمه مصطفى بادي إلى قرار مشابه، حينما كان يستمع إلى شيخ القرية وهو يتحدث عن أفغانستان بأنها تتعرض إلى هجوم شيوعي من السوفيات. وبعد أيام اشترى تذكرة سفر واستقل طائرة متجهة إلى مدينة كراتشي؛ كبرى مدن باكستان، وفي طريقه إلى حمام الطائرة، بدأ حوارا مع شابين يمنيين، واستمع الاثنان إلى بادي يكرر خطبة شيخ القرية ويخبرهم عن جرائم السوفيات في أفغانستان التي هو الآن في الطريق إليها.
أخبر الشابان اليمنيان بادي، وهم في سماء بحر العرب، أنهما متوجهان إلى أفغانستان، فبقي تحت رعايتهما، ومن ثم أرشداه عبر معبر كراتشي الصاخب إلى فندق هادئ وأحضرا له تذكرة سفر إلى بيشاور على متن طائرتهما عبر البلاد. وفي ردهة الواصلين وقف شخص فلسطيني ينتظرهم عرف عن نفسه ببساطة بـ«أبي تراب»، فجمع اليمنيين مع مقاتل أفغاني بدا كأنه أبكم، وأصعدهم في حافلة صغيرة، ومن ثم في بيت داخل قسم المدينة الجامعية في بيشاور.

* عبد الله عزام.. «راعي الجهاد في أفغانستان»
* شرح «أبو تراب» لأولئك الشبان اليمنيين، أن البيت هو «مكتب الخدمات»، وهو نزل ومركز تبادل تعليمات بيروقراطي للمتطوعين العرب يديره عبد الله عزام وهو «راعي الجهاد في أفغانستان»، وفق المؤلف جونسون. وفي الداخل سلم الثلاثة جوازات سفرهم وبطاقات هوياتهم وأموالهم واختاروا هويات جديدة؛ إذ قيل لهم: إن «الأسماء الجهادية» ستحميهم أثناء حياتهم السرية في بيشاور. واختار بادي اسم «أبو إبراهيم» وطوال بقائه في أفغانستان، لم يعرف إلا باسم «أبو إبراهيم».

* أميركا الصديقة.. تتحول إلى عدو لـ«القاعدة»
* سافر عزام إلى الدول الأوروبية والولايات المتحدة لتجنيد الشبان المسلمين للحرب في أفغانستان. وسمحت الولايات المتحدة بالفعل لعزام بإنشاء مراكز على امتداد البلاد مثل نيويورك وكانساس سيتي وتوسون، وذلك لتشوق واشنطن لإغراق الاتحاد السوفياتي في «المستنقع الأفغاني» مثلما أغرق الشيوعيون من قبل أميركا في «مستنقع فيتنام».
وبحلول أواخر عقد الثمانينات من القرن الماضي، تحولت قطرات المتطوعين العرب إلى فيضان، وكثيرون منهم جذبهم عزام وتلميذه أسامة بن لادن. وفي 15 فبراير (شباط)، حين عبر العسكري السوفياتي الأخير في أفغانستان الجنرال بوريس غروموف «جسر الصداقة» الذي صنعه السوفيات من الحديد والإسمنت المسلح وصولا إلى أوزبكستان السوفياتية، أكمل السوفيات رحيلهم تاركين خلفهم «حكومة دمية في كابل»، برأي مؤلف الكتاب، لكن بن لادن كان يريد أن ينهي العمل.
شعر بن لادن (31 سنة في حينه) بثقة هائلة بعد الانسحاب السوفياتي، وكان يخطط لرحلة وحيدة أخيرة نحو الحدود إلى أفغانستان. ولم يكن أحد يتوقع أن يكون هناك كثير من القتال، ولكن في ضاحية لانغلي، بولاية فيرجينيا، حيث مقر وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه)، اتفق محللو الوكالة مع تحليل «المجاهدين»، ووضعوا بالاشتراك مع الاستخبارات الباكستانية خطة لدعم الثوار المقاتلين أثناء اندفاعهم غربا من باكستان نحو كابل، قبل أن تلاحقها تفاصيل كثيرة من الأحداث غيرت مسار الحرب وانتهت بمواجهة جديدة بين «القاعدة» وأميركا.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.