المبدع والنص... الصراع المفتوح

كُتاب عرب يتحدثون عن تجاربهم الخاصة

TT

المبدع والنص... الصراع المفتوح

يحدث كثيراً أن يعاني الكُتاب من ظاهرة «متلازمة الورقة البيضاء»، أو الحبسة أو العجز عن الكتابة، ولو لفترة قصيرة. وقد يحدث الأمر معكوساً، أن يتمرد المبدع على ما يكتبه خشية تكرار نفسه، أو نتيجة إحباط فكري ونفسي لعوامل كثيرة، متعلقة به أو بالوسط الاجتماعي والثقافي الذي يعيش فيه. وفي الحالتين، تبقى العلاقة بين الحالتين، علاقة معقدة، غامضة، وهي تنتج، بسبب ذلك، إشكاليات كبيرة قد تتفاقم مع مرور الزمن، إذا لم يتداركها الكاتب نفسه.
في هذا التحقيق، آراء لعدد من الكُتاب حول العلاقة الشائكة بين الكاتب ونصه...

- رضوى الأسود (روائية مصرية): صراع الكاتب مع نفسه
أعتقد أن ثنائية الكتابة والتمرد لا تخضع لقاعدة ثابتة، حتى لا يمكن الوقوف على أسبابها بشكل واضح، وبالتأكيد تختلف من شخص لآخر. لكنني سأتحدث عن تجربتي الشخصية، فعندما كنت في الثلث الأخير من أحدث رواياتي «بالأمس كنت ميتاً»، وجدتني أتوقف عاجزة عن استكمالها، بعدها بدأت أحداث محنة شخصية مررت بها وكانت الأمرّ والأصعب على الإطلاق، فوجدت الكتابة تأتيني بغير ميعاد، وكم كانت معي جزيلة العطاء، ووجدتني أكتب بلا توقف، وكأن أحدهم يملي عليّ الأحداث، وانتهيت منها في وقت قياسيّ، لتسجل تلك الرواية نجاحاً غير مسبوق، وتصبح علامة فارقة ونقلة نوعية في مشواري الأدبيّ.
بعدها، استعصت عليّ الكتابة الروائية لمدة عام أو أكثر وظلّت تتمرد عليّ، ومررت بما يسمى بـ«متلازمة الورقة البيضاء»، حتى نصحني صديق، حين شكوت له، بأن أكتب عن تلك التجربة الشخصية التي مررت بها، وتداعياتها، شجعني كثيراً ولم يتركني، فوجدت فكرة تهبط على رأسي، ثم شرعت في كتابة رواية جديدة، صحيح أنها لا تمت بصِلة لحياتي، لكنني في نهاية الأمر أمسكت بتلابيب الكتابة، وتمكنت من إخضاعها.
الآن، ومنذ نحو 14 شهراً، وأنا في تلك الحالة من تمرد الكتابة عليّ، تأتيني أفكار عدة، لكن تتبخر سريعاً دون أن أتمكن من اللحاق بها وتدوينها، وحين أفكر في سبب ذلك لا أعلم، فأجدني أقول؛ لمن أكتب إذن؟
أما عن تمردي على الكتابة خوفاً من التكرار، فلم تشغلني تلك الفكرة من قبل، ومنتجي في العموم سواء من الكتب الفكرية أو الروائية ليس بها تشابه على مستوى الفكرة أو البناء أو الشخوص.

- أحمد ولد إسلم (روائي موريتاني): الكتابة فعل تمرد
العلاقة بين الكاتب والكتابة مُعقدة وتحكمها عوامل نفسية واجتماعية، ويصعب وضعها في إطار محدد، فمهما كتب الأدباء عن تلك العلاقة فإن طبيعتها الذاتية تبقى المسيطرة. فلدى الكاتب الواحد تختلف تلك العلاقة بين نص وآخر، هناك نص يكتب تزجية، ونص يكتب رغبة، وآخر يكتب مشاركة، بل هناك نصوص تكتب فقط من أجل الكتابة، لا يريد منها الكاتب إلا أن تخرج من عقله ليستريح.
هل يمكن وصف الكتابة بالمُتمردة؟ أعتقد أن ذلك الوصف فيه شيء من القسوة، ولو اكتسى بصبغة المديح، ربما يكون الوصف لائقاً بالكاتب أكثر، لأن فعل الكتابة على بساطته ليس سوى تمرد على اللحظة، رغبة إنسانية خالدة في تشويه أو تحسين الموجود، تلك الرغبة الدفينة في النفس البشرية منذ الرسوم الأولى على الكهوف، كأن شيئاً ما يدفع الإنسان إلى ترك أثره على الصخر، ثم على الطين، وعلى ورق البردي، وجلود الحيوانات، كان يصرّ كل مرة على تخليد نفسه بوصفه متمرداً غير راضٍ عن الهيئة التي وجد عليها الكون.
ومنذ صارت الكتابة مهنة، حاول من كرّسوا لها أنفسهم تطويعها بالاحتكار، ووضع قواعد لها، وإضفاء صفاتهم البشرية على فعل محايد، والحقيقة أن حالة امتناع الأفكار عن التدوين ليست تمرداً من الكتابة، بقدر ما هي عجر بشري طبيعي، كما لا يمكن وصف تدفق الأفكار واستجابتها للتدوين بانصياع الكتابة. وعلى المبدع التوقف عن التهرب من الاعتراف بعجزه، فليس للكتابة ذنب في ذلك.

- أريج جمال (روائية مصرية): جزء من الحالة الإبداعية
اختبرتُ التمرد حسب المفهومين، كانت الكتابة في أوقاتٍ عصيّةً عليّ، عندما خضعتُ مثلاً لضرورة إنجاز روايتي «أنا أروى يا مريم»، وفقاً لخط زمني معين يتوافق مع شروط منحة «آفاق» التي كنتُ حاصلة عليها آنذاك. وصل حدّ التمرد أن اختفت الكتابة تماماً، عانيت بشدة كي أنتج مشهداً واحداً، لم أستطع أن أتجاوز هذه الحالة، ولكسرها بدأتُ ارتجالاً طويلاً، كتبتُ على ورق أبيض، وبأقلام تلوين، سجلتُ بعض المقاطع على تليفوني، توقفتُ في الشارع فجأة لأكتب استناداً إلى مؤخرة سيارة مصفوفة، جلستُ على الرصيف وشخبطتُ وسط استغراب المارّة. تلك الفترة على صعوبتها علمتني الصبر الجميل، أحب كثيراً تعبير النبي يعقوب هذا، الصبر الجميل، يعني أنكِ تحاولين وتصبرين على النتيجة، تمارسين الحياة ثم تعودين للكتابة وتصبرين، وهكذا. الصبر هو كلمة السرّ برأيي، وهو صعب، لكنه تمرين، وأعتقد أنه تجربة روحية لا غنى عنها للكاتب، واختبار حقيقي لتمسكه بحِرفته. أنتِ تتمسكين بالكتابة، وقد تكون المكافأة سكينة داخلية، ولا يصحّ الاستخفاف بها. في النهاية أنجزتُ روايتي، لكن بعد أن خالفتُ خطتي الأولى.
أما حالة أن أتمرد على ما أكتب، فهي لا تقل إيلاماً عن الحالة الأولى. ورغم أنها قد تبدو للناظر حالة اختيارية، فإن حقيقة الأمر ليست كذلك. فبعد انتهائي من كتابة «أنا أروى يا مريم» كانت شهيتي مفتوحة للكتابة إلى ما لا نهاية، فكرت أن أعمل جزءاً ثانياً وثالثاً من الرواية، لكني انتبهتُ إلى أني أكتب بنفس الروح والأسلوب. في البداية فرحتُ بالطلاقة، ثم بدأت أكتشف الفخ، واضطررتُ في النهاية إلى التسليم. استثمرتُ هذه الحالة في الكتابة الصحافية، وفي دراسة الترجمة، ثم بدأت أكتب قصصاً قصيرة «بضمير الغائب»، وكذا كنتُ أفعل مع يومياتي، لأن الرواية تمت بضمير المُتكلم، وكانت تلك طريقتي في التمرد.
التمرد في رأيي جزء من الحالة الإبداعية، إذا كان الكاتبة - الكاتب يتحليان بدرجة من الوعي، سواء بالذات أو بحيوية الكتابة نفسها. هي شُعلة كي تحافظين عليها مُتجددة، عليكِ أن توافقي على المرور باختبارات. على طريقة الأساطير، هناك دائماً شيء مطلوب لن تعرفيه سوى بالتقدم. لا أقول هذا كي أُعقّد الناس، بالعكس. لديّ أصدقاء يتخذون قراراً بالكتابة، فيجلسون وينتجون عدد الكلمات التي حدّدوها سلفاً. لكن الكتابة بالنسبة لي رحلة متواصلة، أكتشف فيها العالم من جديد، أزور عوالم صغرى، أستمتع وأفهم نفسي على نحو أفضل. أحتاج إلى هذه الاكتشافات، في الرحلة، وهذا هو الإبداع بالنسبة لي، هو تمرد على تاريخ مضى، على لحظة سابقة، والتجريب الحُر من كل قيد إلى ما لا نهاية.

- عادل آيت أزكاغ (ناقد مغربي): تمرد وتساؤل معاً
بدءاً، لا مناص من القول إن علاقة التمرّد بالإبداع محكومة بطابع جدلي، مركب، معقد، متعدد الوجوه. لكن لا بأس من الإفصاح أن المبدع ربما يتمرد على الكتابة إذا كان يخشى تكرار نفسه، ويبحث عن أسلوب جديد أو موضوع لم يُطرق قبْلاً، في ظل سعيه للإتيان بالمُبتَكَر الممتع الغني، للإضافة إلى هذا المجال أو ذاك وإخصابهما في الإبداع أو الحياة. وهذا شيء صحي تماماً.
بينما أعتقد بالمقابل أن الكتابة تتمرّد إلى حد العصيان على المبدع - الكاتب، ويتوقف عنها، حين لا يكون مبدعاً حقيقياً، أي مزيفاً، لأن الإبداع عملية تساؤلٍ وخيال وانفعال وتجريبٍ مرنة، ومحاولة إنشاء وتوليد، وحالة بحثٍ واكتشافٍ مستمرة. ما يجعل المبدع الحقيقي دائم الإبداع، دائم البحث عن الجديد، دائم الإنجاز والإضافات اللافتة التي تملأ نقصاً هنا وثغرات هناك. تتمرد عليه أيضاً حينما تتداخل عوامل خارجية وداخلية عدة في ذلك أو أحدها (نفسية - اجتماعية - سياسية...). هكذا قد تصبح ذاتية عندما يكفهر مزاجه، أو تضطرب عاطفته، أو لا يكون عقله مهيأ لاستقبال الأفكار المُبدِعة التي لا تزور عادة «إلا العقول المستعدة لاستقبالها» كما قال المفكر الفرنسي «باستور»، أو عندما يكون خياله عاجزاً عن التقاط الإشارات أو العلامات أو الومضات الإبداعية. وإذا ما طرحنا سؤال؛ متى يحدث ذلك؟ فأظن أن الإجابة تتحدد من خلال تموقعه في حالة نفسية سلبية، كأن يعاني من الحبسة أو الاكتئاب أو الإحباط، أو يعيش في حالة من الهوس (السلبي - اللاواعي بطبعه) الذي هو ضد الشغف (الوعي بالعمل ورغبة إنجازه منظماً بمحبة - الإيجابي بطبعه)، أو يعاني من الإحساس بالمصادرة والمنع وتسليط الرقابة عليه أو على إبداعه أينما افتقد حريته التعبيرية الكاملة التي هي أحد شروط الإبداع وأساساته، أو أن يشعر بالتجاهل واللامبالاة وعدم التقدير له ولإبداعه.
لكن الثابت، عطفاً على هذا، هو أن المبدع «الهش» لا يمكن أن يبدع إذا كان محاطاً بظروف غير سليمة أو عائشاً في حالة غير صحية كيفما كان نوعها، ما يتطلب تمرداً معيناً منه، يساعده على إثبات وجوده بجرأة مقبولة وبجدارة، فضلاً عن أنّ إنجازه ناتجٌ عن نزعته الإنسانية المُتجذّرة التي تقوده لنفع الغير، وعمله صادقاً، في حالة توازن نفسي بين عقله وعواطفه وتصالحه معهما. إضافة إلى الفن والحياة، وإثراء لجوانبهما، ثم تنويراً لذاته وللآخرين.
المبدع الحقيقي الغني لا يمكنه أن يعاني من الفقر في حسه الإبداعي أو من الجفاف الذهني، كما أنه متمرّد بطبعه على كل الأشياء المعيقة، التي لن تشكل أي تأثير عليه، سواء كانت ضده أو في صالحه، لأنه واثق من نفسه بلا غرور، واعٍ بإمكاناته، وبوجوده وحدوده، وبنوعية تفكيره الذي يسميه د. شاكر عبد الحميد «الإبداعي، لا الاتباعي، الافتراقي لا الاتفاقي». بل متمرد كذلك ومترفع عن كل مظاهر التخلّف، والعقليات السطحية الجافة، ثم إنه متمرد أيضاً على جميع الأشكال المفتقرة للجمال.



عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف
TT

عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف

كنت أتهيأ للكتابة حين باغتتني رغبة في تصفح محتوى صفحة «الثقافة» في جريدة أجنبية. فوقع بصري، لحظة انبساط محتواها أمامي، على عنوان مُرَكبٍ من جزأين؛ الجزء الأول «مُلائِمَةٌ للقراءةِ في ليالي الشتاء»، وعرفت من الجزء الثاني أن الملائِمَةَ للقراءة هي عدد من روايات الجريمة يقترح مُعِدُّوها الاستمتاع بقراءتها في عطلة «الكريسماس». تلك قائمة لا أتوقع أن تقترحها الصحافة الثقافية العربية. «يا للمصادفة الغريبة» قلت في داخلي، فالمقالة التي كنت أنوي كتابتها تتمحور حول رواية الجريمة، أو الرواية البوليسية؛ لا أُفرقُ هنا بين النوعين. وكان للمصادفة امتداد آخر، إذ فرغت، وقبل قراءة تلك القائمة، من قراءة روايتين، هما روايتا جريمة «فسوق» لعبده خال، و«اللص والكلاب» للروائي العربي الكبير نجيب محفوظ.

عبده خال

ثنائية الركض والزحف

ركضت عبر «فسوق» عبده خال لأنها كانت القراءة الثانية، أو الثالثة؛ ووجدت في تعليقاتي وشخبطاتي في هوامش صفحاتها ما يغني عن قراءتها زاحفاً. أما أثناء قراءة رواية محفوظ، وكانت القراءة الثانية، كنت القارئ المتأني والبطيء لأنني لم أستطع مقاومة الرغبة في تفحص التقنية السردية فيها، ورصد لعبة الضمائر التي لا بد أن محفوظ استمتع بها أثناء الكتابة، واستمتع باستباق تلاعبه بالقارئ المحتمل بانتقاله من ضمير إلى آخر على نحو قد يجعل القراءة بطيئةً، أومُشوِشَّةً لبعض القراء.

يبدأ الفصل الأول بصوت السارد العليم - المحدود - بضمير الغائب: «مرة أخرى يتنفس نسمة الحرية، ولكن الجو غبار خانق وحر لا يُطاق. وفي انتظاره وجد بدلته الزرقاء وحذاءه المطاط، وسواهما لم يجد في انتظاره أحداً» (5). وابتداءً من الكلمتين الأخيرتين من السطر الثامن، يتحول ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب المثنى، إلى صوت سعيد مهران مُخاطباً زوجتة سابقاً وزوجها الغائبين: «نبوية عليش، كيف انقلب الاسمان اسماً واحداً؟ أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب، وقديماً ظننتما أن باب السجن لن ينفتح، ولعلكما تترقبان في حذر» (5)، ثم إلى ضمير المتكلم «ولن أقع في الفخ، ولكني سأنقض في الوقت المناسب كالقدر» (5). وقبل نهاية الصفحة بسطرين، يتحول الخطاب إلى مونولوغ داخلي بضمير المُخاطب المفرد: «استعِن بكل ما أوتيت من دهاء، ولتكن ضربتك قوية كصبرك الطويل وراء الجدران» (5). وفي مكان آخر فيما بعد، يلتقي ضميرا المتكلم والمخاطب الجمع معاً في كلام سعيد مهران، وهو يتحدث إلى مستشارين متخيلين في محاكمة متخيلة: «لست كغيري ممن وقفوا قبلي في هذا القفص، إذ يجب أن يكون للثقافة عندكم اعتبار خاص، والواقع أنه لا فرق بيني وبينكم إلا أني داخل القفص وأنتم خارجه...» (100). من المستبعد ألا يتذكر البعض همبرت همبرت في رواية فلاديمير نابوكوف «لوليتا» وهو يخاطب المحلفين أثناء محاكمته. اللافت في الأمر أن سعيد وهمبرت «بطلان» مضادان «antiheroes»، ومُبَئِران، وساردان إشكاليان غير موثوقين في روايتي جريمة؛ سعيد مهران لص وقاتل، وهمبرت همبرت «بيدوفايل/pedophile/ المنجذب جنسياً للأطفال» وقاتل. مأزق أخلاقي يجد القارئ نفسه مُسْتَدْرَجاً إلى التورط فيه في حال تماهيه مع الشخصية جراء تقلص أو تلاشي المسافة الجمالية بينه وبينها.

البداية المُزاحة بالاستطراد

هنا البداية الأولى، الأصلية، للمقالة، وقد أزاحها إلى هذا المكان الاستطراد السابق، ولا أخفي أنني مِلْتُ إلى الاسترسال فيه. البداية الأصلية: الروائي والأكاديمي موكوما وانغوغي ودعوته في «نهضة الرواية الأفريقية» إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للقص الشعبي ومنه الرواية البوليسية؛ «جائزة القلم الذهبي» بكونها، في الأساس، مشروعاً يرفع القص الشعبي العربي من الهامش ويُنزله في المركز وبؤرة الاهتمام في المشهد الأدبي؛ ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية عن الرواية البوليسية في العالم وخُلُوِّه من أي ذكر لرواية بوليسية عربية واحدة، ثلاثة عوامل شكلت دافعاً على الكتابة عن الرواية البوليسية، وعن عبده خال، الذي أراه مشروع كاتب رواية بوليسية يعيش في كمون، أو لأقل، في حالة «توقف نمو» (ARRESTED DEVELOPMENT)، بغض النظر عمّا إذا كان يرى نفسه كذلك أم لا. الأمر مجرد رأي شخصي.

وانغوغي... الانحياز إلى الرواية البوليسية

بالإضافة إلى مناداته باعتبار الكتابات المبكرة - ما قبل جيل ماكيريري - جزءاً لا يتجزأ من «الخيال الأدبي والنقدي الأفريقي» (نهضة الرواية الأفريقية، 34)؛ دعا وانغوغي إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للأدب المكتوب باللغات المحلية وللأدب الشعبي، مؤكداً على الرواية البوليسية بالذات، واصفاً مجيء أدباء ماكيريري بأنه مثل «تسونامي أدبي» طمر الكتابات المبكرة «تحت سيل من الروايات الواقعية» التي كتبوها بالإنجليزية. وكانت قوة وزخم حركتهم السبب في إخفاق النقد الأدبي في استرداد الحقبة الأدبية المبكرة. لقد أرسى أولئك الأدباء تسلسلاً هرمياً «يعلي شأن كل ما هو أدبي على الفنون الشعبية» (253)، بينما الفجوة بين الأدبي والشعبي، في رأيه، مجرد تباينات سطحية، لا تعني له ولجيله شيئاً ذا بال، فهم يقرأون «الأدب جنباً إلى جنب الأدب الشعبي» أو يقرأون «ما هو أدبي مع ما هو شعبي في آن معاً» (255). ويرى أن النقد الأدبي الأفريقي الملتزم بالخط الفكري الممتد من تشينوا أتشيبي إلى تشيماماندا أديتشي كاذب ومزيف، وأنه ومجايليه يتطلعون إلى نقدٍ أدبي يتيح لهم قراءة الأعمال الأدبية لشكسبير وأتشيبي ونغوغي وا ثيونغو، على سبيل المثال، إلى جانب الروايات الشعبية والبوليسية.

الرواية الشعبية من الهامش إلى المركز

لا اسم في الذاكرة الأدبية العربية لناقد أو روائي أو أكاديمي عربي دعا، مثل وانغوغي، إلى الالتفات نقداً أو بحثاً إلى الرواية الشعبية العربية، فالمشهد العربي عموماً يشيح باهتمامه واعترافه بها عنها، وإن ينظر إليها فبنظرة دونية، باعتبارها أدباً من الدرجة الثانية، أو ليست من الأدب على الإطلاق. وكان الوضع سيستمر لو لم يطرح المستشار تركي آل الشيخ مشروع «جائزة القلم الذهبي»، لينقلها من الهامش إلى المركز، مثيراً بذلك موجات من التصفيق والترحيب، مقابل «حلطماتِ» وهمهماتِ رفضٍ لم يجرؤ على رفع صوته في وجه المشروع. الوضع سيكون مختلفاً تماماً لو لم يكن «الرسمي» مصدرَ القرار والتنفيذ لمشروع «القلم الذهبي».

في مقالته الموسومة بـ«جائزة القلم الذهبي وصناعة مشهد مختلف» المنشورة في مجلة «القافلة» (نوفمبر/ديسمبر 2024)، يكتب الأستاذ الدكتور حسن النعمي أن «جائزة القلم الذهبي»، «فريدة من نوعها في بناء جسور التلاقي بين الرواية والسينما» (31). ما أراه هو أن فرادة وتميز الجائزة ينبعان أساساً من التفاتها إلى المهمش، أو حتى غير المعترف به؛ القص الشعبي بطيف أنواعه. القص الشعبي هو الأساس والقواعد التي تبني عليها الجائزة «جسور التلاقي بين الرواية والسينما»، وما الرواية الأدبية «الواقعية» سوى مضاف إلى الجائزة على نحو استدراكي وعرضي.

وأتفق مع الدكتور النعمي في أن الجائزة ستصنع مشهداً مختلفاً، بيد أنه اختلاف من المحتمل أن يدفع، وعلى نحو لافت، بالقص الشعبي عموماً، والرواية البوليسية خاصة، إلى الواجهة، ما قد يؤدي إلى دخولها في مجال رادارت الصحافة والنقد. فتخرج الرواية البوليسية العربية من جب غيابها الملحوظ الذي ناقشته الصحافة العربية، وكُتِبَ عن أسبابه مراراً وتكراراً، قبل أن يتأكد - غيابها - عالمياً، أيضاً، من خلال ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية (جولة حول العالم عبر 80 رواية بوليسية). وكان عبده وازن (إندبندنت عربية) وباقر صاحب (جريدة «الصباح»)، ممن كتبوا عن هذا الغياب الذي وصفه وازن بالفادح.

غياب الرواية البوليسية في «المجلة العربية»

لم تسعفني ذاكرتي إلا برواية محلية واحدة (فسوق) عبده خال وأنا أفكر فيما أشارك به في ملف «المجلة العربية» عن غياب الرواية البوليسية العربية (نُشر الملف في 1/4/2011). «فسوق» رواية بوليسية بامتياز حتى وإن لم يصرح مؤلفها بأنها كذلك، لاحتوائها على عناصر الرواية البوليسية الثلاثة: الجريمة، نبش قبر جليلة محسن الوهيب وسرقة جثتها ومضاجعتها؛ «المجرم/السارق، داود الناعم/شفيق الميت»؛ التحقيق والقبض على المجرم. أو وفقاً لتنظير تزفيتان تودوروف في «تصنيف القص البوليسي»، يتألف المتن الحكائي في «فسوق»، كما في أي رواية بوليسية، من القصة الأولى، وهي سرقة جثة جليلة، والقصة الثانية، قصة التحقيق المنتهية بالتعرف على من سرق الجثة ليمارس معها «النكروفيليا». القصة الأولى، كما يُنَظِّر تودوروف، تحكي ما يحدث بالفعل، بينما تشرح الثانية، قصة التحقيق، «كيف عرف القارئ أو السارد» عنها. بالتحديد تنتمي «فسوق» إلى النوع المعروف باسم «police procedural»، القص البوليسي الذي تأخذ فيه إجراءات وأساليب عمل الشرطة موقعاً مركزياً في البنية والثيمات والحدث كما يوضح جون سكاغز في كتابه «قص الجريمة».

لم يخطر ببال عبده خال أنه سيصبح ذات يوم عضواً في لجنة تحكيمٍ روايات جريمة/بوليسية جزءٌ من مهمتها. ربما يحفزه هذا على السماح لكاتب «فسوق» في داخله بالنمو والتطور، ليكتب روايات بوليسية أخرى.

* ناقد وكاتب سعودي