تصل بيونسيه إلى سنواتها الأربعين، وعلى كتفيها قضية السود المعذّبين. تركت ألعاب الطفولة وشغب الصغار، لصقل النفس وبذل الكثير من الدموع والعرق. بمنشور طويل عبر «إنستغرام»، تهنّئها أمها: «أحسنتِ يا صغيرتي». تتذكر التدريب المكثف ودروس الصوت والرقص والغناء: «بالكاد لعبتِ بالخارج خلال طفولتكِ». تفتخر الوالدة تينا نولز بابنة تكدّ منذ سن التاسعة؛ وهي اليوم في الأربعين، أيقونة على صفحات الفن. ليس لعدد الجوائز والتكريمات فحسب، بل لما تمثّله ضد الظلم والاضطهاد والعنصرية. تتفجر فيها قصص مأساوية تعاينها منذ الطفولة وتسمع عنها كالطنين المؤلم. تغني ليرتاحوا جميعاً: الماضي المظلم، الأجداد، الضحايا، الأجيال القادمة، المناضلون، وأصحاب البشرة السمراء في الأصقاع.
في الرابع من سبتمبر (أيلول) 1981 وُلدت بيونسيه جيزيل نولز، لعائلة من أصل أفريقي، في هيوستن بولاية تكساس. تدخّل القدر في رسم علاقة والديها، ولتوفير المصاريف، انفصلا ثم أعادا جمع العائلة. لم تكن ذاكرة بيونسيه شأناً شخصياً يتعلق بالولادة والنشأة والظروف، فقد غذّت بإرادتها ذاكرة جماعية متعلقة بالثقافة والإرث والتاريخ المرير للأميركيين السود. وهي بذلك، لم تكن كياناً بل مجموعة كيانات، وليست فرداً بل حالة استثنائية.
والدة لثلاثة أولاد من زوجها مغني الراب جاي زي، بينهم توأمان شاركت جمهورها خبر الحمل بهما بصورتها الشهيرة وهي تُظهر بطنها المنتفخة على «إنستغرام» في فبراير (شباط) 2017. شاركت آنذاك «الحب والسعادة». في الأربعين، تعايدها شاكيرا مع نصيحة: «تذكري الأوقات الجيدة». هي معضلة الذاكرة وخزان الصور. فوجع الانتماء يحرّك دوافع النجمة نحو إعلاء شأن الرضا تجاه الهوية وتقدير الذات، أكانت البشرة بيضاء أم سمراء، رغم دموية اللحظات التاريخية. كل ذلك من أجل تأكيد مكانة الروح الإنسانية الناجية من الكراهية والمنتصرة على جحيمها. ومن أجل تكريس الحق المقدّس بالاختلاف: «كونوا أنفسكم».
تنضج بيونسيه مع العمر. منذ ألبومها الأول «Dangerously in love» (2003) ونجمة الـ«R&B» تحصد الجوائز والأرقام: 16 مليون نسخة و5 «غرامي». راحت تعمّر نجاحاً تلو النجاح، وبدأ الثمر يلمع تحت الشمس. نجاح منفرد، أو ضمن مثلّت فرقة «Destiny’s child». وفي التمثيل وأدوار البطولة، وترشيحات الـ«غولدن غلوب». أكثر من 600 جائزة على امتداد حياتها المهنية. وأكثر من 200 مليون نسخة حصيلة مبيعات الألبومات والأغنيات المنفردة. بيونسيه من الأكثر مبيعاً على الإطلاق.
ملكة الـ«غرامي» بـ28 فوزاً، والمرأة الأكثر ترشّحاً في تاريخ الجائزة. تكتب صحف عالمية عن «صناعة التاريخ» واكتساح لا مثيل له. النجاح جانب عظيم في عمر يمتد نيابةً عن الآخرين، ويغرس أنيابه في عنق الأرض وعمقها. هذا العمر المغسول بدماء الأسلاف، لؤلؤته جوائزه، لكنّ أنبله قيم النضال ودرب الكفاح. تُدْرجها «تايم» في 2014 واحدة من أكثر 100 شخصية مؤثرة في العالم، لتلهم بروعة الأمل المنبثق من طبقات مستنقعات العتمة، ومن الهوامش والريف وبؤر البؤس. إلهام يهوّن الحياة.
تردّ المخرجة ميلينا ماتسوكاس على جدلية فيديو كليب «Formation»، الحاصل على المركز الأول في قائمة «أعظم 100 مقطع فيديو موسيقي في كل العصور». هو اختزال الغضب الكبير في ذاكرة المغنّية. تصرّح المخرجة لصحيفة «ذي نيويوركر» بأكثر ما يعكّر هناء بيونسيه: «يُظهر الكليب التأثير التاريخي للعبودية على الحب الأسود». تعلم صاحبته الحكايات الأليمة لمنع الزواج من الأميركيين ذوي الأصول الأفريقية، أو تعطيله. وما فعلته هذه العبودية بالعائلات الملوّنة. فتغني وسط صور حيّة ترفع الصوت عالياً بوجه سيستم الشرطة: «توقّف عن إطلاق النار علينا»! عبارة مكتوبة على الجدار، ومحفورة في الروح ومنعطفات التاريخ المخزية.
تتحصّن بيونسيه في الأربعين من التهم الجاهزة. ترد عنها ما هو سهل إلقاؤه عليها وتحميلها أثمانه «انتقاماً» لكسرها الصمت. من التهم: «مناهضة الشرطة». لم يكن عبثياً طلب ماتسوكاس من النجمة الأميركية الجلوس فوق سيارة شرطة تغرق في مدينة نيو أورلينز. منذ مأساة جورج فلويد واندلاع الاحتجاجات، والعيون شاخصة عليها. حصول الفيديو على المركز الأول في تصنيف مجلة «رولينغ ستون»، يعزز موقعها في الصفوف الأمامية لخط الدفاع الأخلاقي عن الحرية. قائدة معارك كبرى.
نظرية ميلينا ماتسوكاس: «الفن الأقوى عادةً ما يُساء فهمه». لم يكفِ نفي بيونسيه تهمة «مناهضة الشرطة»، وفصلها بين رفض الوحشية واحترامها لضباط يحفظون السلامة العامة ولعائلاتهم. فذلك لم يكفّ عنها الألسنة المتربّصة بكل من يُظهر معاناة السود وتعرّضهم للضرب، ليؤكد أحقية وجودهم على الأرض الأميركية وثباتهم في ترابها. «ما زلنا هنا».
في ألبومها «الأسود ملك» («Black Is King»)، المستوحى من فيلم ديزني «The Lion King»، أرادت بيونسيه الاحتفاء بـ«أصول الأسلاف السود وجمالهم»، وإن لمح نقاد في العمل خيبة، رغم الرسالة الساطعة. وأرادت ألبوماً يسعى إلى تغيير المفهوم العالمي لكلمة أسود، أو كما أوردت «فاريتي»، «تذكرة تنبض بالحياة لقوة السود وعظمتهم، هنا في أميركا وكذلك في أفريقيا».
تطاردها الانتقادات. مرّ وضع الليدي غاغا ألماسة «تيفاني» الأيقونية بسلام، ومرّ على بيونسيه كزوبعة. تبدي إحساساً بـ«الغضب وخيبة الأمل»، وتؤكد عدم درايتها بدموية تاريخها وجهلها بالأسئلة حول مصدرها. على عنق النجمة ألماسة صفراء ضخمة قيل إنها «لا تقدّر بثمن»، كلّفت موت مئات العمال في منجم بجنوب أفريقيا خلال استخراجها في ظروف مزرية عام 1877، كأنها على عنقها تحمل ذنوبهم بأسرها، وذنب المضطهدين والمدعوسين ومسلوبي الحق والصوت. ألماسة هي عصارة أرواح مقتولة.
تبدأ أغنية «الاستعراض الأسود Black Parade» التي طرحتها في ذكرى انتهاء العبودية بأميركا، بتحديد البوصلة: «أنا ذاهبة إلى الجنوب حيث لم تخفّ جذوري». بيونسيه هي الجذور والقبضات العالية في الهواء. هي الاستماتة لإظهار الحب الأسود والحاجة إلى السلام والتعويضات لقومها من السود. أيقونة.
أربعون عاماً على ولادة بيونسيه: عذاب الجذور
تحمل تاريخ السود بصوتها والنضال ضد الوحشية
أربعون عاماً على ولادة بيونسيه: عذاب الجذور
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة