نصائح كالفينو لقراءة الأدب الكلاسيكي: كلما أعدتَ قراءته اكتشفته أكثر

نصائح كالفينو لقراءة الأدب الكلاسيكي: كلما أعدتَ قراءته اكتشفته أكثر
TT

نصائح كالفينو لقراءة الأدب الكلاسيكي: كلما أعدتَ قراءته اكتشفته أكثر

نصائح كالفينو لقراءة الأدب الكلاسيكي: كلما أعدتَ قراءته اكتشفته أكثر

لماذا نقرأ الأدب الكلاسيكي؟ سؤال أخذ شكل عنوان لعمل أدبي يترجم لأول مرة إلى العربية لإيتالو كالفينو، وينشر بعد وفاته، جامعاً نحو خمسة وثلاثين مقالاً تمت كتابتها خلال السبعينيات والثمانينيات، وظهرت متفرقة في عدة صحف.
الكتاب الذي صدر عن دار المدى بترجمة دلال نصر الله، وضم بين دفتيه كما تقول زوجته (إستر كالفينو) في مقدمتها القصيرة: «معظم مقالات وكتابات كالفينو عن كُتابه وشعرائه الكلاسيكيين الذين أثروا حياته في فترات مختلفة».
يتحدث كالفينو في هذه المقالات بأساليب متنوعة عن مؤلفين مختلفين ينتمون إلى عصور مختلفة: من هومر إلى زينوفون، ومن أوفيد إلى جاليليو، مروراً بـروبنسون كروزو، وفولتير، وستندال، وفلوبير، وديكنز، وكونراد، وبورخيس. محاولاً تقديم بعض المقترحات في توحيد تعريف للكتب الكلاسيكية، التي لن تكون شاملة وموسعة ولكنه يرى فيها مساراً جيداً يمكن فيه إعادة اكتشاف هذه الكتب. ويقدم مقالة موجزة عن إرشاداته لهذه القراءة، يلخص بها تعريفه «للكتاب الكلاسيكي» في 14 جملة، ثم يمضي في توسيعها. مشيراً أولاً: إلى أنه الكتاب الذي يستهدف «واسعي الاطلاع» مثلما ينطبق أيضاً على فئة الشباب البالغين، الذي يشير إليه أغلب الناس بعبارة: «أنا أعيد قراءة...». وليس «أنا أقرأ»... فالكتاب «الكلاسيكي» هو كتاب يتعمق بداخلك لدرجة أنه يصبح جزءاً منك، وكلما قرأته، اكتشفته أكثر ولن تتعب ولا تمل منه أبداً. وفي كل مرة يتحدث الكتاب بطريقة أخرى.
ثانياً: الكلاسيكيات هي تلك الكتب التي تشكل ثروة لمن قرأها وأحبها. لكنها لا تقل عن ذلك لأولئك الذين وفقهم الحظ لقراءتها للاستمتاع بها أولاً. ففي المدرسة نقرأ في كثير من الأحيان من منطلق الالتزام، وبعيداً عن الواجب، أكثر من الرغبة الحقيقية في المعرفة. القراءة ليست دائماً نتيجة اختيار حر وواع، لذلك يمكن القيام بها على عجل وبلا مبالاة، لكن القراءة الكلاسيكية هي الثراء لكل من الذات والآخرين. إن الكتب الكلاسيكية هي التي تحول «متاعب الحاضر إلى خلفية صوتية، ولا يمكن الاستفادة منها دون تلك الخلفية، «فهي التي تستمر في عملها كموسيقى خلفية، مهما اشتدت نوازل الدهر».
وهكذا يمضي صاحب «مدن لا مرئية» في شروحاته للكلاسيكيات، التي تكتشف جديداً فيها كلما أعدت قرأتها، وفي الوقت نفسه، فإن قراءتك لها تجعلك تشعر بأنك قد قرأتها من قبل، فالكتاب الكلاسيكي لا ينضب محتواه.
يقول كالفينو: «ينطبق هذا على كل من الكلاسيكيات القديمة والحديثة، وإذا قرأتُ الأوديسة لهومر، فلن أنسى غاية جميع مغامرات يوليسيس على مر القرون». ومن ثم فإن قراءته للكلاسيكيات في هذا الكتاب تمنحنا الفضول في أن نقتفي أثر كتاباته فيما تناوله منها، حيث يسبغ عليها روحاً معاصرة... ففي حديث عن كتاب جاليلو (الكون كتاب) يرى كالفينو «تأكيده على وجود أبجدية مميزة تخص هذا الكتاب، و«شخصيات تكتبه». ولمزيد من الدقة، يمكن أن نقول: الرابط المجازي الحقيقي لا يمكن بين الكون والكتاب، بل بين الكون والأبجدية».
ويذكر كالفيتو في كتابه السبب الذي جعله يعشق كتابات بورخيس: «لاحظت في كتاباته وجود الأدب باعتباره عالماً يُشيده ويحميه المثقف، وهذه الفكرة تخالف تيار عالم الأدب الرئيس في هذا القرن الذي يسير في اتجاه معاكس». بينما يكون سبب شغفه بهمنغواي أدبه وتوجهه السياسي، ومناهضته الشديدة للفاشية، بدلاً من معارضتها بثقافة بحتة، إنه «رمز معاداة الفاشية عالمياً». مثلما كان يرى في كتاب باسترناك (دكتور جيفاجو) الأكثر تمثيلاً (للاتحاد السوفياتي).
في هذه المرحلة، يدعو كالفينو إلى «القراءة المباشرة للنصوص الأصلية، وتجنب أكبر قدر ممكن من الببليوغرافيا والتعليقات والتفسيرات النقدية»، لافتاً إلى أنه يجب أن تتم القراءة دون أي وساطة، وينبغي على المدارس والجامعات تعليم الطلاب أن الكتاب الذي يناقش كتباً أخرى لن يقول أكثر مما قاله الكتاب الأصلي.
وتبدو خلاصة هذه القراءة في أن قراءة الكتاب الكلاسيكي تمثل تجربة مليئة بالمعاني الجديدة عند التقاطها بعد القراءة الأولى، التي في الوقت نفسه، تحفز أولئك الذين يقرأون للمرة الأولى في سن مبكرة. فالكتاب يظل كما هو، ولكن وجهة نظرنا هي التي تتغير.



أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
TT

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد. كشفت أعمال التصنيف العلمي الخاصة بهذه اللقى عن مجموعة من القطع العاجية المزينة بنقوش تصويرية، منها عدد كبير على شكل أسود تحضر في قالب واحد جامع. كذلك، كشفت هذه الأعمال عن مجموعة من القطع المعدنية النحاسية المتعدّدة الأحجام والأنساق، منها 4 قطع على شكل أسود منمنمة، تحضر كذلك في قالب ثابت.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية، وتنقسم حسب نقوشها التصويرية إلى 3 مجموعات، فمنها ما يمثّل قامات أنثوية، ومنها ما يمثّل قامات آدمية مجرّدة يصعب تحديد هويتها الجندرية، ومنها ما يمثّل بهائم من الفصيلة السنورية. تزين هذه البهائم قطع يتراوح حجمها بين 3 و4.5 سنتيمترات عرضاً، حيث تحضر في تأليف تشكيلي ثابت، مع اختلاف بسيط في التفاصيل الجزئية الثانوية، ويوحي هذا التأليف بشكل لا لبس فيه بأنه يمثّل أسداً يحضر في وضعية جانبية، طوراً في اتجاه اليمين، وطوراً في اتجاه اليسار. يغلب على هذا الأسد الطابع التحويري الهندسي في تصوير سائر خصائصه الجسدية، من الجسم العضلي، إلى الرأس الكبير، إلى الأرجل الصغيرة. نراه فاتحاً شدقيه، رافعاً قائمتيه الأماميتين، وكأنه يستعدّ للقفز، ويظهر ذيله من خلفه وهو يلتف ويمتد إلى أعلى ظهره.

ملامح الوجه ثابتة لا تتغيّر. العين دائرة كبيرة محدّدة بنقش غائر، يتوسّطها ثقب يمثّل البؤبؤ. الأذنان كتلتان مرتفعتان عموديتان، والأنف كتلة دائرية موازية. فكّا الفم مفتوحان، ويكشفان في بعض القطع عن أسنان حادة مرصوفة بشكل هندسي. تحدّ الرأس سلسلة من النقوش العمودية المتوازية تمثل اللبدة، وهي كتلة الشعر الكثيف الذي يغطي الرقبة. يتكون الصدر من كتلة واحدة مجرّدة، تعلوها سلسلة من النقوش الغائرة تمثل الفراء. يتبنى تصوير القائمتين الخلفيتين نسقين متباينين؛ حيث يظهر الأسد جاثياً على هاتين القائمتين في بعض القطع، ومنتصباً عليها في البعض الآخر. في المقابل، تظهر القائمتان الأماميتان ممدّدتين أفقياً بشكل ثابت. أرجل هذه القوائم محدّدة، وهي على شكل كف مبسوطة تعلوها سلسلة من الأصابع المرصوفة. الذيل عريض للغاية، وتعلو طرفه خصلة شعر كثيفة تماثل في تكوينها تكوين أرجله.

عُثر على سائر هذه القطع العاجية في قبور حوت مجموعة كبيرة من اللقى شكّلت في الأصل أثاثها الجنائزي. للأسف، تبعثر هذا الأثاث، وبات من الصعب تحديد موقعه الأصلي. كانت القطع العاجية مثبّتة في أركان محدّدة، كما تؤكد الثقوب التي تخترقها، غير أن تحديد وظيفتها يبدو مستحيلاً في غياب السند الأدبي الذي من شأنه أن يكشف عن هذه الوظيفة الغامضة. تحضر الأسود إلى جانب القامات الآدمية، والأرجح أنها تشكّل معاً علامات طوطمية خاصة بهذه المدافن المحلية.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية

إلى جانب هذه القطع العاجية، يحضر الأسد في 4 قطع معدنية عُثر عليها كذلك ضمن أثاث جنائزي مبعثر. تعتمد هذه القطع بشكل أساسي على النحاس، وهي قطع منمنمة، تبدو أشبه بالقطع الخاصة بالحلى، واللافت أنها متشابهة بشكل كبير، ويمكن القول إنها متماثلة. حافظت قطعتان منها على ملامحها بشكل جلي، وتظهر دراسة هذه الملامح أنها تعتمد نسقاً مميزاً يختلف عن النسق المعتمد في القطع العاجية، بالرغم من التشابه الظاهر في التكوين الخارجي العام. يحضر هذا الأسد في كتلة ناتئة تبدو أشبه بالقطع المنحوتة، لا المنقوشة، ويظهر في وضعية جانبية، جاثياً على قوائمه الـ4، رافعاً رأسه إلى الأمام، ويبدو ذيله العريض في أعلى طرف مؤخرته، ملتفاً نحو الأعلى بشكل حلزوني. العين كتلة دائرية ناتئة، والأذن كتلة بيضاوية مشابهة. الفكان مفتوحان، ممّا يوحي بأن صاحبهما يزأر في سكون موقعه. اللبدة كثيفة، وتتكون من 3 عقود متلاصقة، تحوي كل منها سلسلة من الكتل الدائرية المرصوفة. مثل الأسود العاجية، تتبنى هذه الأسود المعدنية طابعاً تحويرياً يعتمد التجريد والاختزال، غير أنها تبدو أقرب من المثال الواقعي في تفاصيلها.

يظهر هذا المثال الواقعي في قطعة معدنية من البرونز، مصدرها موقع سمهرم، التابع لمحافظة ظفار، جنوب سلطنة عُمان. عُثر على هذه القطعة في ضريح صغير يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، واللافت أنها وصلت بشكلها الكامل، وتتميز بأسلوب يوناني كلاسيكي يتجلّى في تجسيم كتلة الجسم وسائر أعضائها. يظهر الأسد واقفاً على قوائمه الـ4، مع حركة بسيطة تتمثل في تقدم قائمة من القائمتين الأماميتين، وقائمة من القائمتين الخلفيتين، وفقاً للتقليد الكلاسيكي المكرّس. يحاكي النحات في منحوتته المثال الواقعي، وتتجلّى هذه المحاكاة في تجسيم مفاصل البدن، كما في تجسيم ملامح الرأس، وتبرز بشكل خاص في تصوير خصلات اللبدة الكثيفة التي تعلو كتفيه.

يبدو هذا الأسد تقليدياً في تكوينه الكلاسيكي، غير أنه يمثّل حالة استثنائية في محيطه، تعكس وصول هذا التقليد في حالات نادرة إلى عمق شمال شرقي شبه الجزيرة العربية.