تسعة أيام غيّرت تاريخ مصر

عماد أبو غازي يروي تفاصيلها في «1919... حكايات الثورة والثوار»

تسعة أيام غيّرت تاريخ مصر
TT

تسعة أيام غيّرت تاريخ مصر

تسعة أيام غيّرت تاريخ مصر

صدر حديثاً عن «دار الشروق» بالقاهرة كتاب «1919 - حكايات الثورة والثوار»، من تأليف الباحث الدكتور عماد أبو غازي وزير الثقافة المصري الأسبق، وهو عبارة عن مجموعة من المقالات أعاد أبو غازي صياغتها لتصدر مجمعة تحت هذا العنوان، وقد كتبها ونشرها متفرقة على مدى 15 عاماً.
يبدأ الكتاب بمشهد افتتاحي بعنوان «قبل الثورة»، يليه أربعة فصول، ثم مشهد ختامي بعنوان «ميلاد مصر جديدة». وخصص أبو غازي الفصل الثاني للحديث عن التفاعلات التي جرت بين فصائل الشعب المصري وقتها، وبين قائد الثورة سعد زغلول وزملائه، وجاء بعنوان «شعب وقائد»، وتضمن 6 حكايات: الأولى كانت «حكاية بيت الأمة»، وهو الاسم الذي اشتهر به منزل سعد زغلول بمنطقة المنيرة (وسط القاهرة)، وأصبح فيما بعد متحفاً ومركزاً ثقافياً. وقال أبو غازي إن للتسمية حكاية ترتبط بالفترة التي سبقت قيام ثورة 1919، وهي فترة تأسيس الوفد المصري، وحشد الجماهير خلف مطلب تحقيق الاستقلال التام، وكانت بدايتها يوم 13 نوفمبر (تشرين الثاني) سنة 1918، اليوم الذي يعرف بعيد الجهاد الوطني. وقتها، توجه سعد زغلول وعلي شعراوي وعبد العزيز فهمي لمقابلة السير «ونجت»، المعتمد البريطاني في مصر، لمطالبته بإنهاء الأحكام العرفية، ورفع القيود على سفر المصريين حتى يتمكنوا من الانضمام لمؤتمر الصلح بباريس الذي كان يُفترض أن يقرر مصير العالم بعد نهاية الحرب العالمية الأولى. وأشار المؤلف إلى أنه بين يوم 13 نوفمبر (تشرين الثاني) الذي جرت فيه المقابلة التاريخية ويوم 23 نوفمبر (تشرين الثاني)؛ يوم الإعلان عن تصديق أعضاء الوفد على قانونه، كانت مصر كلها تتحرك حركة هادئة.
وذكر أبو غازي أن سعد زغلول عندما شعر ببوادر الانقسام بين الوطنيين، اتجه لضم عناصر جديدة للوفد المصري، من مجموعة الحزب الوطني، ومن القريبين إلى الأمير عمر طوسون، فدخل في مفاوضات مع الحزب الوطني، لكنها انتهت بالفشل بسبب الخلاف على الأسماء، فتصرف سعد من نفسه، وضم مصطفى النحاس بك والدكتور حافظ عفيفي بك، بصفتهما يمثلان الحزب الوطني، ودعا عناصر أخرى للمشاركة في الوفد، منهم حمد الباسل باشا، وإسماعيل صدقي باشا، ومحمود بك أبو النصر، وسنيوت حنا بك، وجورج خياط بك، وواصف غالي بك، وحسين واصف باشا، وعبد الخالق مدكور باشا.

التوكيل وبيت الأمة

وقال أبو غازي إن الخطوة التالية التي ينبغي أن يتحرك الوفد في اتجاهها كانت اكتساب الشرعية لوجوده، وذلك من خلال الحصول على توكيل من الأمة بتمثيلها، وكانت صيغة التوكيل تقول: «نحن الموقعين على هذا أنبنا عنا حضرات سعد زغلول باشا وعلي شعراوي باشا وعبد العزيز فهمي بك ومحمد علي بك وعبد اللطيف المكباتي بك ومحمد محمود باشا وأحمد لطفي السيد بك، ولهم أن يضموا إليهم من يختارون، في أن يسعوا بالطرق السلمية المشروعة حيثما وجدوا للسعي سبيلاً في استقلال مصر استقلالاً تاماً».
لكن تلك الصيغة لم تكن هي ما اقترحه أعضاء الوفد في البداية، إذ كانت تتضمن عبارة «تطبيقاً لمبادئ الحرية والعدل التي تنشر رايتها دولة بريطانيا العظمى وحلفاؤها، ويؤيدون بموجبها تحرير الشعوب». ولفت أبو غازي إلى أن «لتعديل الصيغة قصة طريفة يرويها المؤرخ عبد الرحمن الرافعي بالتفصيل، ويقول إنه (لما نُشرت الصيغة، وتم تداولها، لاقت اعتراض الجناح الراديكالي في الحركة الوطنية، وكان يمثله الحزب الوطني، وتركزت الاعتراضات على ثلاث نقاط: الأولى إغفال صيغة التوكيل للنص صراحة على الاستقلال التام، بصفته هدفاً لسعي حاملي التوكيل عن الأمة؛ والثانية عدم الإشارة إلى السودان من قريب أو بعيد، حيث كان قطاع كبير من الحركة الوطنية يعتبر مصر والسودان بلداً واحداً، أما الأمر الثالث الذي أثار الاعتراض فكان العبارة التي تذكر بريطانيا العظمى، وتشير إليها باعتبارها تنشر راية الحرية والعدل، في الوقت الذي كانت تحتل فيه مصر لأكثر من ستة وثلاثين سنة، وتحمس أربعة من أعضاء الحزب الوطني، هم عبد المقصود متولي ومصطفى الشوربجي ومحمد زكي علي ومحمد عبد المجيد العبد، وذهبوا إلى بيت سعد لمناقشته في صيغة التوكيل، وإبداء اعتراضهم عليها. وقد استقبلهم سعد، ودار بينهم حوار حول التوكيل وصيغته، وسرعان ما احتدم النقاش بين سعد وضيوفه، فغضب وقال لهم (كيف تسمحون لأنفسكم بهذه الحدة؟ وكيف تهينوني في منزلي؟)، فأجابه محمد زكي، قائلاً: (إننا نعتبر أنفسنا في بيت الأمة، لا في بيت سعد الخاص)، فسُر سعد من التسمية، وراقت له الفكرة، وابتسم لمحدثيه، وقال لهم (لقد تنازلت عن ملاحظاتي)».

إثبات الموقف

وأما الحكاية الثانية التي ركز عليها المؤلف، فجاءت بعنوان: «إثبات الموقف»، وتناول فيها جزءاً من قصة التوكيلات التي قام المصريون بمقتضاها بإعطاء سعد زغلول حق الحديث باسمهم مع الإنجليز. وقد لعبت حملة جمع التوكيلات للوفد المصري الدور الأساسي في تشكيل حزب الوفد وبنائه على أرض الواقع، فقد كانت خطوة ضرورية لاكتساب الشرعية لوجوده، من خلال الحصول على توكيل من الأمة بتمثيلها، وكان جمع التوقيعات من المصريين فرداً فرداً سبيل الوفد إلى توحيد الشارع المصري سعياً نحو الاستقلال، وكان بداية الطريق إلى ترسيخ قيادة الوفد للأمة، وإبراز سعد زغلول زعيماً للحركة الوطنية المصرية.
وقد تضمن الفصل الثاني أيضاً حكايات أخرى، منها «حكاية سعد في المنفى»، وحكاية «حوار مع سعد زغلول في لندن»، والحكاية الخامسة عن «سنوات الشدة والإرهاب». وفي ختام الفصل، حكي أبو غازي حكاية «وزارة سعد الأولى والأخيرة».

مؤرخ الثورة

في الفصل الثالث من الكتاب، يستعرض أبو غازي مجموعة من وجوه الثورة، وحكاية كل واحدة أو واحد فيهم، ومنهم عبد الرحمن فهمي الرجل الذي قاد سعد الثورة من خلاله، وهدى شعراوي، وفخري عبد النور الوطني الغيور كما سماه سعد، فضلاً عن مؤرخ الثورة الأول محمد صبري، الشهير بالسربوني. وحكي أبو غازي قصته مع سعد زغلول، وقال: «عندما اشتعلت الثورة في مصر في التاسع من مارس (آذار) عام 1919، احتجاجاً على قيام سلطات الاحتلال البريطاني بالقبض على سعد زغلول وصحبه من قادة الوفد المصري، ونفيهم إلى مالطة، كان محمد صبري لم يزل شاباً في مقتبل العمر (1894 - 1978)، وقد اشتهر فيما بعد بالسوربوني، وأصبح واحداً من أهم مؤرخي المدرسة القومية المصرية. كان أيام ثورة 19 طالباً يدرس التاريخ في جامعة السوربون، وكان منضماً للجمعية المصرية بباريس، وأحد الناشطين البارزين فيها. ومن خلال نشاطه في الجمعية المصرية، تعرف على قادة الوفد عندما فرضت الثورة على سلطات الاحتلال إطلاق سراح سعد ورفاقه، وسمحت لهم بالسفر لباريس، وأصبح محمد صبري وقتها سكرتيراً لزعيم الوفد المصري في باريس.
وقال أبو غازي إن السوربوني كتب كتاباً صغيراً بالفرنسية صدر في باريس سنة 1919، بعنوان «الثورة المصرية من خلال وثائق حقيقية وصور التقطت أثناء الثورة»، كان يهدف من خلاله إلى الدعاية للقضية المصرية، وتعريف الرأي العام الأوروبي بها، وقد كتب السوربوني كتابه والأحداث مشتعلة، وزوده بمجموعة من الوثائق والصور الفوتوغرافية التي تسجل جرائم الاحتلال الإنجليزي، واختار مؤلفه مخاطبة الرأي العام الغربي بلغته، ودعم وجهة نظره بالوثيقة والصورة، وما كان ينشر في الصحف الإنجليزية والأميركية والفرنسية ليكون أكثر إقناعاً للرأي العام الغربي، كما استعان ببعض ما نشرته الصحف في مصر بالفرنسية والإنجليزية، والصحف الموالية للاحتلال الصادرة بالعربية، ولم يتوقف السوربوني عند حدود كتابه الأول، بل أصدر جزءاً ثانياً منه بالفرنسية في باريس سنة 1921، وتتبع فيه تطورات الوضع في مصر خلال العامين التاليين على أحداثها.
ومن حكاية السوربوني، انتقل أبو غازي لحكاية حسين رشدي باشا، رئيس الحكومة الذي ساند الثورة، ثم «حكاية ابن القباقيبي... حكاية طفل ساند الثورة». أما الحكاية الأخيرة، فقد نقلها أبو غازي عن الكاتب فتحي رضوان الذي حكاها عن أخته التي شاركت في الثورة وهي تلميذة في المرحلة الثانوية. أما الفصل الرابع (الأخير)، فيتناول فيه أبو غازي «ثورة 1919 والإبداع»، من خلال أعمال عدد من الفنانين والمبدعين المصريين، ومنهم الموسيقار سيد درويش والمثال محمود مختار وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ.


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط
TT

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّل مؤلّف كتاب منشور أواخر عام 2023 لقاءً جمع ثلاثة عقول عظيمة: الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس، والفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. مؤلّف الكتاب هو الدكتور ويليام إيغنتون أستاذ العلوم الإنسانية ومدير معهد ألكساندر غراس للإنسانيات في جامعة جونز هوبكنز. كتابه الأخير المشارُ إليه، صدر عن دار نشر «بانثيون» في 368 صفحة، بعنوان «صرامة الملائكة: بورخس، هايزنبرغ، كانْط، والطبيعة النهائية للواقع».

هذا الكتابُ نتاجُ عقود عدّة من القراءة والتدريس والتفكير في التداخلات المثيرة بين الأدب والفلسفة والفيزياء. يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ نطاق تفكيره بهذه التداخلات شمل عدداً أكبر بكثير من الكّتّاب والمفكّرين غير هؤلاء الثلاثة؛ لذا يوضّحُ قائلاً: «عندما نضج الوقت لتحويل المشروع إلى كتاب ارتسمت أمامي، بقوّة طاغية لم يكن مفرٌّ من مواجهتها، أسئلة على شاكلة: كيف يتوجب علي تنظيم الكتاب؟ ومن هم أفضل الشخصيات التي يمكن عدّها تمثلاتٍ صالحة للكشف عن التداخلات بين الأدب والفلسفة والفيزياء؟ والأهمّ من هذا: كم عدد الشخصيات التي يمكن تناولها في الكتاب؟

خورخي لويس بورخس

كان طموحي المبكّر عند التفكير في تصميم هيكلة الكتاب أكثر اتساعاً مما انتهى إليه الشكل النهائي للكتاب. أغوتْني فكرة سرد حكايات عن شخوصٍ محدّدين بغية استخلاص رؤاهم من وراء تلك الحكايات؛ لكن في بداية الأمر واجهتني معضلة وجود عدد كبير من الحكايات التي يتوجب علي سردُها. خطّطتُ في بداية الأمر لتأليف كتاب يحوي إثني عشر فصلاً، مع شخصية مركزية مختلفة في كلّ فصل منها؛ أي بمعنى أنّ الكتاب سيحوي اثنتي عشرة شخصية. شعرتُ بعد تفكّر طويل أنّ الكتاب سيكون نتفاً مشتّتة تغيب معها الفكرة الأساسية التي أسعى إليها. حتى لو ظلّ يدور في مدار المشروع الفكري الذي يجولُ بعقلي. بعد ذلك استطعت السيطرة على ذلك التشتّت وكبح مفاعيله إلى حدّ ربّما يجوز لي القول معه إنّني ضيّقتُ على العدد كثيراً عندما جعلته ثلاثة وحسب. وضوحُ الفكرة أفضل من كثرة الشخصيات: هذا ما انتهيتُ إليه من قناعة».

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف طيلة حياته، وأظنّ أن كثيرين منا لهم شغف عظيم بها حتى لو لم يكونوا فلاسفة مكرّسين، هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث. بعبارة أخرى أكثر تقنية: يمكن للمقاربات (الناعمة Soft) المعتمدة في الإنسانيات أن تقدّم استنارة عظمى للمقاربات العلمية (الصارمة Hard)، والعكس صحيح أيضاً.

في المقاربات الثلاث التي اعتمدها المؤلّف في كتابه أظنّه قدّم شاهدة تطبيقية على جوهر الفكرة الأساسية أعلاه: قراءة بورخس، وتوظيفُ بعض ما استخدمه (كانط) للتفكّر ومساءلة معضلات طرحها بورخس قادت المؤلّف على مدى سنوات عديدة إلى بلوغ فهم أعمق لما اكتشفه هايزنبرغ. يؤكّد المؤلّف في هذا الشأن: «أعتقد بقناعة مؤكّدة أنّ فهمي لإنجازات هايزنبرغ كان أفضل بعد اطلاعي على أعمال بورخس وكانْط، وما كانت لتبلغ هذا المبلغ من الفهم لو اكتفيتُ بقراءة ما كتبه هايزنبرغ ذاته بشأن منجزاته الثورية!!».

فيرنر هايزنبرغ

يبدو للقارئ المتفحّص والشغوف بالمساءلات الفلسفية أن الموضوعة الأساسية في الكتاب والتي تقود كلّ الفعالية السردية فيه هي الصراع الجوهري بين رغبتنا في المعرفة والتوق لبلوغ نوع من الإجابة «النهائية» عن أعمق أسئلتنا بشأن الوجود من جانب، واستحالة بلوغ مثل هذه الإجابات قطعياً من جانب آخر. يصرّحُ المؤلّفُ بإمكانية تلمّسِ بعض العزاء في محض محاولة بلوغ هذه الإجابات حتى مع معرفتنا المسبّقة بأننا كائنات مقدّرٌ لها مواجهة نهاية وجودية مغلقة والبقاء في متاهة الأسئلة الوجودية التي لا إجابات نهائية لها. يشيرُ المؤلّف بهذا الشأن وفيما قد يبدو مفارقة مثيرة، أنّ ما نفترض فيه أن يكون الأقل حساً شعرياً بين الثلاثة (أعني هايزنبرغ) هو الذي عبّر عن هذه المعضلة بكيفية أكثر كثافة وقوّة مفاهيمية من الاثنيْن الآخرين!!. كتب هايزنبرغ في مخطوطة له عام 1942 يقول: «قدرة البشر على الفهم لا حدود لها؛ أما (الأشياء النهائية Ultimate Things) فلا نستطيع الحديث عنها». يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ هايزنبرغ كان يقصدُ بملحوظته هذه شيئاً ما حول ما اعتبره محدّداتٍ (داخلية) أو (جوهرية) للمعرفة البشرية. سعيُنا إلى المعرفة لا يمكن أن ينتهي لمجرّد معرفتنا بوجود هذه الحدود الجوهرية لما يمكننا معرفته. إنّ معرفة العالم على نحو كامل وتام تعني القدرة على بلوغ تلك (الأشياء النهائية) التي عناها هايزنبرغ، وهذا يستلزم الوقوف خارج إطار الزمان والمكان (أي خارج كلّ حدود الوجود البشري) بطريقة مماثلة لما تصوّره القدّيس أوغسطين والأفلاطونيون الجُدُد عن الرب باعتباره قادراً على استيعاب وحدة الوجود في كليته وخلوده. من الواضح أنّ مثل هذا التوصيف للمعرفة لا يتوافق أبداً مع أي شيء يمكننا توصيفه على أنّه معرفة بشرية. الخواص المطلقة والنهائية لا تتفق مع أي معرفة بشرية. نحن عاجزون عن بلوغ المعرفة المطلقة لا لنقص أو عيب فينا، بل لأنّ هذا العجز واحد من المظاهر الحتمية المرافقة للوجود البشري.

من المفارقات المدهشة والباعثة على التفكّر أننا نميل ككائنات بشرية، وبرغم اقتران وجودنا البشري بعدم القدرة على بلوغ الإجابات النهائية، إلى التأكّد واليقين في كلّ ما نفعله وما نتخذه من خيارات في الحياة. يؤكّدُ المؤلف أنّ هذه اليقينية أمر سيئ، وفضلاً عن سوئها فهي ليست توقّعاً واقعياً أو مرغوباً فيه. اللايقين هو الأمر الحسن؛ لأن سعينا لليقين يقود إلى الغطرسة، ومحدودية الأفق والرؤية، وإغلاق مسالك جديدة للتفكير. العلم نشاط يختص بالملاحظة والتجريب وبلوغ تفسيرات مؤقتة، وهذه التفسيرات تخضعُ لتدقيق الجماعات العلمية، وإذا دُعِمت بالأدلة فإنها تُقبلُ بوصفها أفضل تفسير لدينا حتى الآن. لكنّما العلمُ لا يرتقي في مسلكه الحثيث متى ما قلنا إنّ اللعبة انتهت وبلغ العلم حدوده النهائية: الحقيقة المطلقة.

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث

لو طُلِبَ إلى إبداءُ رأيي الشخصي في انتقاء المؤلّف لمقارباته واختياره للشخوص الممثلين لهذه المقاربات الثلاث فسأقول: مقاربة المؤلّف للواقع من بوابات الأدب والفيزياء والفلسفة هي مقاربة رائعة ومتفقة تماماً مع روح العصر الذي نعيش، ونحتاجُ تأكيداً لمثل هذه المقاربات التي تعمل على تمتين الجسور الرابطة بين الحقول المعرفية باعتبارها أنساقاً معرفية مشتبكة وليست جسوراً متناثرة. أما اختيار المؤلّف للشخوص الممثّلة لكلّ مقاربة فكان خيارُ بورخيس موفقاً للغاية. بورخيس هو الأكثر تمثيلاً للفكر الفلسفي وملاعبة الواقع بألعابه التي اتخذت تمظهرات ميتافيزيقية بدت عسيرة على القراءة والفهم أحياناً؛ لكنّه بقي البارع دوماً في طرق مفاهيم الزمان والخلود والأبدية وأشكال الواقع المخادعة، وأظنه كان فيلسوفاً بمثل ما كان مشتغلاً ماهراً بالأدب، ولو قرأنا أعماله الفلسفية الخالصة مثل (تفنيد جديد للزمن) لشهدنا مصداقية شغفه الفلسفي. يبدو بورخس أوّلَ من ابتدع في مقالته الفلسفية تلك بدائل للزمن الخطي Linear Time، كما قدم إضاءات كاشفة لمفهوم الزمن الدوري Cyclic Time الذي له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخس فيما كتب. لاحظوا معي النبرة الفلسفية القوية التي يكتب بها بورخس في هذه الفقرة المستلّة من مقالته: «أنكر هيوم وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء (نعيشه). أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب».

الأمرُ ذاته يسري على كانط، الفيلسوف الأكثر تمثيلاً لعصر التنوير بنتاجاته التأسيسية العظيمة التي جعلت منه مثابة عليا في الفكر البشري. ربما الاختلاف هو بشأن هايزنبرغ. لن نختلف بالتأكيد حول الجهد الفلسفي الهائل الذي عرضه هايزنبرغ في كتاباته، وليس هذا بالأمر النادر أو المثير للدهشة؛ إذ كلُّ الفيزيائيين الكبار هم بالضرورة فلاسفة عظام باستثناءات قليلة (مثل هوكنغ). يكفي مثلاً أن نقرأ مؤلفات هايزنبرغ التي ترد فيها مفردة (الفلسفة) في عناوينها؛ لكنّي - وكذائقة شخصية - أظنّ أنّ «إرفن شرودنغر» هو الأكثر تمثيلاً بين فيزيائيي القرن العشرين للإسقاطات الفلسفية على الفكر العلمي والمسعى البشري الحثيث نحو فهم الواقع.

سيكون جهداً طيباً أن نتذوّق بعض جمال صرامة هؤلاء المفكّرين، وهي صرامة نابعة من عقول جميلة، وليست بصرامة لاعبي الشطرنج كما أورد بورخيس في واحدة من ملاحظاته المثيرة.