«نزيف حاد» للأدمغة والكفاءات اللبنانية

زحمة يومية للمغادرين في مطار بيروت (غيتي)
زحمة يومية للمغادرين في مطار بيروت (غيتي)
TT

«نزيف حاد» للأدمغة والكفاءات اللبنانية

زحمة يومية للمغادرين في مطار بيروت (غيتي)
زحمة يومية للمغادرين في مطار بيروت (غيتي)

قد تبدو كل الخسائر التي يتكبدها لبنان منذ نحو عامين نتيجة انفجار كل الأزمات في وجه أبنائه دفعة واحدة، قابلة للتعويض؛ أقله في المدى المتوسط إن لم نقل في المدى القريب، في حال وُضع البلد على سكة الحل خلال الأعوام المقبلة. كل الخسائر يمكن تعويضها... لكن النزف الحاد في الكفاءات والأدمغة سيترك تداعيات مدوية في المجتمع اللبناني؛ مما يهدد لبنان بمستقبل قاتم.
موجة الهجرة الجديدة التي يشهدها البلد منذ عام 2019 والتي انطلقت مع تداعي القطاع المصرفي واحتجاز أموال المودعين، كانت حتى منتصف عام 2020 مفهومة ومتوقعة، إلى حد ما، إلا إنها ومع انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس (آب) 2020 الذي أدى إلى تدمير نصف العاصمة بيروت وحصد أكثر من 200 ضحية وآلاف الجرحى، تحولت هذه الموجة إلى «تسونامي» جارف؛ ما لبث أن هدأ حتى عاد ليتجدد مع الوصول مؤخراً إلى مرحلة الارتطام حيث بات اللبنانيون يفتقدون كل مقومات الحياة من خبز وماء وبنزين ومازوت وغاز وحليب أطفال ودواء…
الجحيم الذي يعاني اللبنانيون منه، لم يترك لأهل هذا البلد خياراً إلا الفرار... وتبين بعد التدقيق أن العدد الأكبر من «الهاربين» هو من النخبة؛ أي من الكفاءات والأدمغة التي لم تعد تجد في لبنان أرضاً خصبة لطموحاتها وأحلامها. ويصيب نزف الكفاءات الحاصل بشكل أساسي القطاع الطبي، مع تسجيل هجرة مئات الأطباء والممرضات والممرضين الاختصاصيين في العامين الماضيين. وتجمع كل النقابات على عدم امتلاكها أي عدد محدد ودقيق للمهاجرين من صفوفها، وتعتمد بشكل أساسي على تقديرات وترجيحات.
إيلي غصن (22 عاماً) ابن بلدة عندقت الشمالية الحدودية، الذي غادر قبل نحو شهر لإكمال دراسته الجامعية في فرنسا بعد حصوله على منحة لتميزه في مجال الهندسة، لا يفكر في العودة للاستقرار في بلده. رغم مضي أسابيع معدودة على تركه لبنان؛ فإنه لاحظ الفرق الشاسع في نمط الحياة والتقديمات والخدمات التي توفرها الدولة هناك مقابل مقومات الحياة الأساسية المفقودة في بلده الأم.
ويقول غصن لـ«الشرق الأوسط»: «اتخذت قرار الهجرة منذ فترة، حتى قبل تطور الأوضاع بشكل دراماتيكي في لبنان. ففرص العمل شبه مفقودة مقابل وجود عدد كبير من خريجي الهندسة. أضف أنه في مجال الميكانيك الذي تخصصت فيه لا مجال للتطور؛ نظراً لأن قطاع الصناعة في لبنان صغير ومحصور جداً مقارنة بالدول المتطورة».
ويتطلع الشاب العشريني الطموح إلى الحصول على الجنسية الفرنسية قريباً نظراً للتقديمات والتسهيلات التي تتيحها، وهو يرى آفاقاً كثيرة في ربوع فرنسا «انطلاقاً مما تقدمه الجامعات لجهة عدم حصر هذه التقديمات في التعليم، وتركيزها كذلك على تطوير الإنسان نفسياً وجسدياً واجتماعياً، وهو ما نفتقده في معظم الجامعات بلبنان».
أما نهى أنطون؛ التي اختارت أن تكون ربة عائلة كبيرة نسبياً (4 أولاد) بوصفها تحب أن تكون محاطة بالأطفال والأحفاد، فحرمت بعد سنوات طويلة من التربية والسهر والتعب هذه المتعة. 3 من أولادها هاجروا في السنوات القليلة الماضية؛ آخرهم «عزيز» الأصغر العام الماضي؛ وهو مهندس كومبيوتر هاجر للعمل والعيش في أمستردام بعد نجاحات كثيرة في أكثر من مؤسسة لبنانية. وتقول نهى لـ«الشرق الأوسط»: «رحلوا الواحد تلو الآخر، ولم يبقَ إلا ابني الكبير الذي أخشى كثيراً أن يكون مصيره كمصير إخوته؛ الهجرة». وتضيف: «لا شك في أننا لا نستطيع أن نقول لهم ابقوا هنا، فلا وجود لمقومات البقاء والصمود... أما أنا ووالدهم فلن نترك منزلنا رغم كل الصعوبات، وسيبقى نقطة التقاء لهم في الأعياد والمناسبات».

«سرقة ممنهجة» للمتفوقين والمتميزين
لعل الأخطر من كل ما سبق هو محاولة مؤسسات أجنبية الاستفادة من المأساة اللبنانية لاصطياد المتفوقين والمتميزين في كل القطاعات. وهو ما بدا جلياً مع توجه أكثر من مؤسسة لإقناع الأطباء والممرضين والممرضات بترك البلد، وتقديم عروض باتوا يجدونها مغرية نتيجة الانهيار الحاد في سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي.
ويبدو أن هذا التوجه ليس حكراً على القطاع التمريضي؛ إذ يذهب رئيس «جامعة البلمند» الدكتور إلياس وراق إلى أبعد من ذلك، متحدثاً لـ«الشرق الأوسط» عن «سرقة ممنهجة للتلامذة المتفوقين والأساتذة المتميزين» من قبل «جامعات ومراكز علمية في الخارج نتعاون معها منذ سنوات، وهي على اطلاع على الداتا الخاصة بنا نتيجة هذا التعاون». وأشار وراق إلى أن «المؤسف أن العروض التي كانت تقدم لهؤلاء قبل سنوات وكانوا يرفضونها، لم تعد متوفرة، وهم يقدمون لهم عروضاً تصل المبالغ فيها لنصف ما كان يعرض سابقاً... أي إنهم يسرقون الأدمغة والكفاءات اللبنانية بالرخيص»، لافتاً إلى أن «النزف الحاصل كبير، وأنا أطلع بشكل يومي؛ لا أسبوعي، على أعداد إضافية من التلامذة والأساتذة المتميزين الذين يغادرون البلد... حتى إن آخر الأرقام التي بحوزتنا تفيد بأن 75 في المائة من طلاب لبنان ينتظرون الفرصة للهجرة، إضافة إلى أن ما بين 10 و15 في المائة من الأساتذة تركوا البلد؛ بينهم نحو 60 في المائة من المتميزين». وأضاف: «ما نحن بصدده مجزرة حقيقية... كل شيء يمكن تعويضه إلا نزف الأدمغة... يبدو واضحاً أن هناك نية وإرادة لتدمير ممنهج للبلد، ولم يعد يجوز أن نسكت عن هذا الواقع الخطير».
داني موسى (33 عاماً) اللبناني من عكار شمال البلاد، الرئيس التنفيذي لـ3 شركات تعنى بتكنولوجيا البرمجيات، والذي تمكن في وقت قياسي من الانتقال من تطوير المواقع الإلكترونية في لبنان، وقد أنشأ وطور أهم وأبرز المواقع الحالية، إلى العمل بالبرمجيات، وشركاته حالياً التي تعمل من دبي تغطي عدداً كبيراً من الدول، هو أحد الشبان اللبنانيين الرواد في مجال التكنولوجيا.
ويقول موسى لـ«الشرق الأوسط» إنه في عام 2019 قرر ترك لبنان بعدما استشرف مستقبلاً قاتماً فيه، وإنه أقنع فريق عمله المؤلف من 28 شخصاً بترك البلد أيضاً، موضحاً أنه لم يبق إلا 4 منهم يعملون من بيروت، «وأنا بصدد إقناعهم بالمغادرة؛ لأن البنى التحتية لم تعد مناسبة على الإطلاق لإنجاز أي عمل، خصوصاً نتيجة وضع الكهرباء والإنترنت».
وأسف موسى «كيف أن الدولة في لبنان لا تقوم بأي مبادرة للتمسك بالكفاءات والشركات، كشركاتنا مثلاً التي تتعامل حصراً مع الخارج، وتؤمن دخول (الفريش دولار) إلى البلد الذي هو في أمسّ الحاجة إليه».
وأضاف: «بعد أن يعيش اللبناني في دول أخرى، خصوصاً بعد أن يبدأ العمل فيها ويكتشف كيف أن ما يعدّه مَن هم على رأس السلطة في لبنان إنجازاً، كتأمين الكهرباء والإنترنت والمياه؛ إنما هي خدمات مؤمنة بشكل تلقائي لمواطني هذه الدول والمقيمين فيها، وهم لم يفكروا يوماً كيف هي الحياة من دونها، يحسم أمره بأنه لا عودة إلى لبنان للعيش فيه في المدى المنظور، ولا في البعيد، ولا إذا بقيت الأوضاع على ما هي عليه، ولا إذا تحسنت، علماً بأنني ممن يستبعدون تحسنها قريباً». ويشير موسى إلى أن القسم الأكبر من زملائه في المهنة «تركوا البلد، ومن تبقى منهم يحزم حقائبه للرحيل».

موجات مرتقبة
يشير أستاذ السياسات والتخطيط في «الجامعة الأميركية في بيروت» والمشرف على «مرصد الأزمة» الدكتور ناصر ياسين، إلى أن «لبنان اعتاد تاريخياً تصدير الأدمغة ورأس المال البشري، ولكن طبعاً ليس بالأعداد الحالية»، موضحاً أنه «في الأسابيع الماضية لحظنا ارتفاعاً كبيراً في نسبة الناس التي لديها نية للهجرة بعد تردي الأحوال المعيشية وجوانب الحياة من ناحية الحصول على الخدمات والمواد الأساسية والفوضى الأمنية». ويتحدث ياسين لـ«الشرق الأوسط» عن «3 قطاعات مهمة في لبنان بدأت تخسر وستخسر أكثر قريباً مواردها البشرية: أولاً القطاع الصحي؛ الذي يشهد تأزماً بنيوياً وعدم قدرة على الاستمرار بشكله وطريقة عمله المعتادة. ثانياً؛ القطاع التعليمي الذي يعيش تداعيات كبيرة للأزمة، بحيث إنه في (الجامعة الأميركية) مثلاً هناك نحو 200 دكتور بين (الجامعة – الحرم) والمستشفى غادروا أو أخذوا إجازات مفتوحة، ونتوقع أن ترتفع هذه الأعداد مع افتتاح العام الدراسي الجديد، بحيث إن كثيراً من المؤسسات التربوية ستضطر للإقفال أو تشهد انكماشاً كبيراً.
أما القطاع الثالث؛ فهو قطاع المصارف بعد إقفال عدد كبير من الفروع وتسريح كثير من الموظفين... هذا القطاع أصبح متعثراً ويحتاج لسنوات ليتمكن من النهوض مجدداً». ويتوقع ياسين أن تكون هناك موجات جديدة من الهجرة للعاملين في الصناعات الإبداعية كالإعلام والطباعة والتصميم.

260 ألف جواز سفر في 8 أشهر
سجل الأمن العام اللبناني ارتفاعاً كبيراً في إصدارات جوازات السفر خلال الأشهر الثمانية الأولى من العام الحالي؛ إذ تفيد الإحصاءات بأن عدد جوازات السفر التي صدرت منذ مطلع عام 2021 وحتى نهاية شهر أغسطس (آب) الحالي، نحو 260 ألف جواز سفر، مقارنة مع نحو 142 ألف جواز سفر في الفترة نفسها من عام 2020؛ أي بزيادة نسبتها 82 في المائة.
وحسب الإحصاءات نفسها؛ فإن الأشهر الثمانية الأولى من السنة الحالية كان المعدل الأسبوعي لطلبات الاستحصال على جواز سفر يتجاوز 7 آلاف طلب مقارنة مع 4 آلاف طلب في الفترة نفسها من 2020. وأشارت إلى أن فئات الجوازات المصدرة هي من الفئات الأطول زمناً؛ أي فئة السنوات العشر، والسنوات الخمس، على حساب تراجع الفئات الأقل مدى زمنياً، مثل فئة السنة الواحدة وفئة السنوات الثلاث، مما يعني أن معظم من يطلبون جوازات من هذا النوع هاجروا أو يفكرون في الهجرة.

هجرة 1500 طبيب في عامين
> يشير نقيب الأطباء في لبنان، الدكتور شرف أبو شرف، إلى أنه «لا أعداد دقيقة للأطباء الذين هاجروا؛ لأن كثيرين يتركون البلد من دون علم وخبر، خصوصاً أن بعض البلدان لا تطلب شهادات من النقابة. أما دول أخرى، كفرنسا وبلجيكا ودول خليجية، فتطلب شهادة للتأكد من أنه لا إشكالية من ناحية الأداء»، كاشفاً عن أن «نحو 130 طبيباً من الجامعة الأميركية في بيروت تركوا لبنان بمعظمهم إلى الولايات المتحدة الأميركية، كما غادر من مستشفيات (الروم) و(رزق) نحو 30 في المائة من الأطباء». وإذ رجح أبو شرف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن يكون قد ترك لبنان أكثر من 1500 طبيب منذ عامين معظمهم من الأطباء المختصين ذوي الكفاءات العالية، نبه إلى أن هذا العدد قد يتضاعف أو يبلغ 3 أضعاف ما هو عليه اليوم في حال بقي الوضع على ما هو عليه، مضيفاً: «الدول التي تستقطب هؤلاء الأطباء تعرف كفاءتهم باعتبار أن معظمهم أنجزوا دراساتهم فيها، أو حتى عملوا فيها قبل سنوات».
ورأى أبو شرف أن «المشكلة الأساسية هي أن المريض لم يعد قادراً على الدفع، كما أن الطبيب لم يعد قادراً على الاستمرار بالقليل، من دون أن ننسى أن الدولة أيضاً لم تعد تدفع ما يتوجب عليها للقطاع، وأن أموال الأطباء أصلاً محتجزة في المصارف». وأضاف: «الأطباء باتوا يقومون بعمل شبه مجاني، وهم في المقابل يتعرضون لاعتداءات، كما يشتكون من غياب الدواء والمستلزمات الطبية والدواء». ورأى أبو شرف أن «الأطباء الذين غادروا إلى دول الخليج والعراق من السهل أن يعودوا إلى البلد في حال تحسنت الأوضاع. أما من غادروا إلى دول أوروبا وأميركا فهؤلاء عودتهم لن تكون سهلة، وسيكونون أقرب للهجرة الدائمة».
وحذر أبو شرف من أن القطاع في «خطر؛ خصوصاً بعد دخول أطباء من جنسيات أخرى على الخط»، مضيفاً: «إذا كان القانون يمنعهم من مزاولة المهنة؛ إلا إننا نتلقى شكاوى كثيرة عن مزاحمة أطباء سوريين أطباء لبنانيين في عدد من المناطق؛ حيث يكتفون مثلاً بتقاضي 20 ألف ليرة (دولار واحد) عن المعاينة الواحدة». وشدد على وجوب «دعم الأطباء وتشجيعهم على البقاء في لبنان، والتواصل مع المؤسسات الدولية لتأمين الدعم اللازم لهم».

1600 ممرض إلى الاغتراب
> لا شك في أن ما يسري على الأطباء؛ يسري على الممرضات والممرضين. ين عدد الممرضين والممارضات الذين هاجروا بـ1600 منذ 2019.
فهنا أيضاً؛ بحسب نقيبة الممرضين والممرضات في لبنان، الدكتورة ريما ساسين، «لا أعداد دقيقة لعدد الممرضين والممرضات الذين غادروا لبنان؛ إنما تقديرات»، مؤكدة أن «العدد لا شك فاق الألفين منذ عام 2019؛ وهم بمعظمهم من أصحاب الخبرات والكفاءات». وتقدر نقابة الممرضات والممرضوأوضحت ساسين، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أنهم في النقابة «بصدد تجميع المعلومات من المستشفيات لتحديد عدد الذين غادروا عملهم، وما اختصاصاتهم، وما ظروف عمل من تبقى من الممرضين والممرضات»، لافتة إلى أن «أبرز البلدان التي يغادر إليها هؤلاء هي الدول العربية المجاورة والعراق، وبلجيكا، وفرنسا، وكندا، والولايات المتحدة الأميركية»، مضيفة: «هم يغادرون إلى حيث يجدون فرص عمل تؤمن لهم معيشة لائقة، ولا شك في أنهم يتلقون كثيراً من العروض».
ونبهت ساسين إلى أن «وضع القطاع في خطر، مما يعني أن الوضع الصحي في لبنان ككل في خطر»، لافتة إلى أنه «لا يزال هناك ممرض أو ممرضة واحدة لكل 20 مريضاً، وهذا الوضع كان ليكون أسوأ لو لم يتراجع عدد المرضى الذين يدخلون المستشفيات بعد حصر الاستشفاء مؤخراً في الحالات الطارئة».
وأشارت ساسين إلى أنه «يجري العمل على بعض التحفيزات وتأمين الدعم للممرضات والممرضين الذين ما زالوا يعملون في لبنان، كتأمين بدل بنزين وإعطاء الأولوية لهم على المحطات كي يتمكنوا من الوصول إلى أعمالهم وعناية المرضى من دون تأخير»، لافتة إلى أنه و«لأول مرة نسعى أيضاً إلى تأمين مساعدات من الجمعيات والمنظمات الدولية لمساندة الممرضين والممرضات في هذه المرحلة الصعبة، خصوصاً أنه رغم تحديدنا الحد الأدنى للأجور في القطاع بمليونين و500 ألف ليرة؛ فإنه لا يزال هناك من يتقاضى مليوناً و500 ألف ليرة شهرياً».

مهندسون ومحامون يواجهون مصيراً واحداً
> باقي القطاعات الرئيسية كالهندسة والمحاماة وغيرهما، ليست أحسن حالاً، وإن كان بوطأة أخف؛ إذ تقول مصادر نقابة المهندسين إنه لا معلومات واضحة عن عدد المهندسين الذين تركوا البلد نهائياً بحسبان أن المهندسين في لبنان معروفون تاريخياً بأنهم دائمو التنقل ويعملون في الوقت عينه داخل وخارج البلد، وبالتالي يصعب تحديد من غادر منهم ولن يعود. وتشير المصادر لـ«الشرق الأوسط» إلى أن «ما يمكن الجزم به أن أعداد المهندسين الذين تركوا البلد مؤخراً أكبر من أي وقت مضى، فيما ينتظر كثيرون غيرهم فرصة خارج البلد للرحيل».
ويدرس المهندس المعماري طارق عباس وزوجته ألين ساسين مهندسة الديكور جدياً خيار الهجرة، وإن كانت حتى الساعة حظوظ البقاء تطغى على المغادرة ما دام لا تزال تتوافر أمامهما فرص العمل. ويقول عباس لـ«الشرق الأوسط» إنهما إذا قررا الهجرة، فسيكون ذلك لتأمين حاضر ومستقبل أفضل لأولادهما. ويضيف: «نحن نمتلك المال لشراء الدواء؛ لكنه غير متوفر... نستطيع تكبد تكلفة البنزين؛ لكنه أيضاً بالقطارة، كما أن وضع المدارس غير مطمئن على الإطلاق».
من جهتها، توضح ساسين أن «توافر فرص العمل لا يعني أن البديل المادي لا يزال كما كان عليه قبل انهيار سعر الصرف»، لافتة إلى أن «العروض التي يتلقاها المهندس اللبناني في كثير من الدول لم تعد مغرية»، مضيفة: «عدد لا بأس به من أصدقائي وزملائي ترك البلد. هناك عدد يبذل قصارى جهوده كي يرحل، وعدد لا يزال يفكر في ما إذا كان يجب أن يرحل أم يبقى، كحال عائلتنا».
ويشبه كثيراً وضع المهندسين وضع المحامين، بحيث توضح مصادر نقابة المحامين أن «المحاماة مهنة حرة، بحيث إن المحامي غير مقيد بوظيفة، وإن عدداً كبيراً من المحامين يعملون في لبنان وفي الوقت عينه بالخارج، مما يجعل من الصعب إحصاء عدد المهاجرين منهم»، لافتة في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إلى أن «من دفعوا الرسوم هذا العام، أي إنهم يعملون في لبنان ارتفع بعد أن كان 6900 محام العام الماضي إلى نحو 7300 هذا العام، إلا إن هذه الأرقام ليست مؤشراً على عدم هجرة أو مغادرة أعداد إضافية من المحامين مؤخراً».
وتضيف المصادر: «المحامون في النهاية جزء من هذا المجتمع؛ يتأثرون كما سواهم بالوضع، فإذا كان الوضع الاقتصادي جيداً؛ كان عملهم جيداً، علماً بأن جزءاً كبيراً مما يقومون به هو تأدية لخدمة عامة، وفي هذه المرحلة هم يقومون أكثر من أي وقت مضى بهذا الدور وبدور وطني بارز».
ويقول المحامي أنطوان نصر الله إن «قطاع المحاماة، كغيره من القطاعات، يواجه ظروفاً صعبة جداً، لكنه قد يكون بخلاف بقية القطاعات يئن بصمت».
وأوضح أنه «يصعب على المحامي العمل خارج بلده بسبب اختلاف القوانين والأنظمة؛ أضف أنه يصعب عليه أن يسجَّل في النقابات في دولة غير دولته. لذلك يمكن الحديث عن هجرة عدد كبير من المحامين اللبنانيين إلى كثير من الدول العربية، حيث يعملون في مكاتب محاماة؛ كما أن قسماً هاجر إلى فرنسا ولندن حيث يعملون استشاريين لشركات ومصارف». ويعدد نصر الله «أسباباً كثيرة تدفع بالمحامين للهجرة؛ أبرزها اليأس مما آلت إليه الأوضاع؛ إضراب المحامين الذي طال كثيراً، إضراب المساعدين القضائيين، إضراب الدوائر العقارية ودوائر الدولة، انهيار سعر الصرف، ارتفاع أسعار كتب القانون والمراجع على الإنترنت، تراجع عدد الدعاوى القضائية بسبب الإضرابات، عدم الثقة بالقضاء والبطء في التقاضي».



الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
TT

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)

بخلاف الناس في البلدان الأخرى وحتى تلك التي تشهد حروباً، لا يملك أهالي قطاع غزة بعد عام على الحرب الإسرائيلية المجنونة عليهم، ترف الحزن على أحبائهم وبيوتهم وذكرياتهم. لقد فقدوا البلد، كل البلد بكل ما فيها: البيوت، والحارات، والشوارع، والناس، والمساجد، والكنائس، والمحال، والمستشفيات، والمدارس والجامعات... كل شيء أصبح كأنه مجرد ذكرى من حياة سابقة، وهم نفدت طاقتهم على الحزن.

لا يعرف الغزيون اليوم ماذا ينتظرهم، لكن بخبرة العارفين بالحروب، يدركون جيداً أن بؤس الحرب لا ينتهي مع وقف إطلاق النار. إنه بؤس ممتد، تغلّفه أسئلة كثيرة: مَن يعيد الأحبَّة والبلاد؟ مَن يبني البيوت؟ كم سنعيش في الخيام؟ من أين وإلى متى وكيف سنؤمّن قوت من بقي حيّاً من أبنائنا؟ والحال أن كثيرين لا تشغلهم هذه الأسئلة لأنهم مرهقون بأسئلة أصعب، أين يجدون جثامين أحبائهم؟ ومتى قد يلتقون أحباء مفقودين؟ وكم سيصمدون على قيد الحياة أصلاً؟

إنها أسئلة الحرب المدمّرة التي تدخل عامها الثاني، وهي حرب غيَّرت إلى حد كبير تفكير الغزيين حول كل شيء.

«الشرق الأوسط» جالت على مَن بقي ورصدت ماذا غيَّرت الحرب في فكر سكان القطاع وعقولهم وقلوبهم.

ليس الكثير فيما يتعلق بحب البلد والعداء لإسرائيل، لكن الكثير والكثير فيما يتعلق بمستقبلهم، ومَن يحكمهم، وإذا كانت الهجرة أفضل أم البقاء.

أطفال فلسطينيون هاربون من قصف إسرائيلي استهدف مكان نزوحهم في رفح (أ.ف.ب)

حلم الهجرة والأمان

يلخص تفكير أيسر عقيلان، وهو خريج كلية التجارة من الجامعة الإسلامية في غزة، ونازح من مخيم الشاطئ غرب المدينة إلى خان يونس جنوب القطاع، ما يجول في عقل كثيرين من الشبان مثله.

قال عقيلان (27 عاماً) لـ«الشرق الأوسط» إنه يخطط لمغادرة القطاع في أي لحظة. وحاول عقيلان كثيراً الحصول على مبلغ 6 آلاف دولار، لتأمين سبيل سفر عبر معبر رفح، إلى مصر ثم البحث عن حياة جديدة، لكنه لم ينجح.

وقال الشاب: «في أول فرصة سأغادر. لم أكن قادراً على العمل قبل الحرب، والآن لا أعتقد أن ذلك سيكون ممكناً أبداً. لا توجد أعمال. لا يوجد بلد أصلاً. لقد دمَّروا كل شيء». وحسب الإحصائيات التي تصدر عن جهات حكومية وأهلية مختصة، فإنه حتى قبل الحرب، كان أكثر من 64 في المائة من سكان قطاع غزة يعانون البطالة وانعدام فرص العمل، واليوم يعتقد أن هذه النسبة باتت شبه كاملة. ورغم صعوبة الحياة قبل الحرب لم يفكر عقيلان في الهجرة، لكن «وجهة نظره في الحياة» تغيرت في أثناء الحرب، كما قال.

ومن يتحدث لأهالي غزة لا يفوته أن غالبية الجيل الشاب ترغب في الهجرة، والبحث عن مستقبل جديد، غير آبهين بما سيصبح عليه الحال في القطاع. وقال باسل سالم (31 عاماً)، الذي حالفه الحظ بالخروج من غزة مع زوجته وطفلته الوحيدة: «لم يبقَ أمامي أي خيارات أخرى. كل ما فكرت فيه هو إنقاذ زوجتي وابنتي من جحيم الحرب».

كان سالم قد فقد شقته السكنية التي امتلكها قبل الحرب بقليل وهو سبب آخر دفعه للهجرة، موضحاً لـ«الشرق الأوسط»: «لم يعد هناك بيت يؤويني، تشردنا وتعبنا ومرضنا وشعرت أني وسط كابوس لعين». ونجح الآلاف من الغزيين خصوصاً الغزيين، ممن يحملون جنسيات مزدوجة، في السفر قبيل سيطرة إسرائيل على معبر رفح، ووصلوا إلى بلدان مختلفة، في حين استقر آخرون لا يملكون جنسيات أخرى، داخل مصر، وبعضهم في تركيا. ويعمل سالم في مجال التصميم والغرافيك؛ الأمر الذي سهَّل سفره إلى الخارج من أجل الحصول على فرصة عمل تتيح له الاستمرار بحياة أفضل. ولا يجد سالم كلمات تصف «الأمان» الذي يشعر به مع عائلته: «هذا أهم ما في الحياة».

وفي وقت تغيب الإحصاءات الدقيقة لمن هاجروا إبان الحرب وخلالها، يذهب بعض التقديرات الأهلية إلى أن العدد الإجمالي يزيد على 220 ألفاً.

ومثل سالم لا تخطط إيمان ساقلا (59 عاماً) التي كانت في رحلة علاج خارجية مع بدء الحرب على غزة، للعودة، بل نجحت في التنسيق لإنقاذ أفراد أسرتها وإحضارهم إليها في مصر لكونها تحمل الجنسية المصرية، لكن أيضاً بعد دفع مبالغ طائلة. وقالت ساقلا: «لم يعد لنا في غزة مستقبل. ربما نعود إليها بعد أعوام، لكن الآن لا يوجد سوى الموت والدمار والخراب».

وبينما يرى سالم وساقلا أنهما قد نجوا بنفسيهما وأسرتيهما من جحيم الحرب، يعيش مئات الآلاف من الغزيين، خصوصاً الشبان، في ظروف صعبة ويمنّون النفس بالمغادرة. لكن ليست هذه حال كل الغزيين بالطبع.

سمير النجار (52 عاماً) من سكان بلدة خزاعة، شرقي شرق خان يونس، والذي فقد منزله بعد تجريفه من آليات إسرائيلية، وبات مشرداً ونازحاً في خيمة أقامها غرب المدينة، قال إنه يفضل البقاء في القطاع، وينتظر انتهاء الحرب كي يستصلح أرضاً كان يزرعها.

رجل فلسطيني يسقي نباتاته في جباليا (رويترز)

وقال النجار: «أفهم الذين ينوون الرحيل من هنا. لكن أنا أفضّل الموت هنا. لا أعتقد أن لديّ فرصة لتأسيس حياة جديدة خارج القطاع. كل ما أريده من الحياة هو إعادة بناء واستصلاح أرضي... ولا شيء أكثر».

والنجار واحد من مئات الآلاف الذين فقدوا منازلهم في غزة. ووفقاً لتقديرات أممية حتى شهر أغسطس (آب) الماضي، فإن نحو ثلثي المباني في قطاع غزة تضررت أو دُمرت منذ بدء الحرب، وأن القطاع يحتاج إلى أكثر من 15 عاماً حتى يتم إعادة إعماره. ويتطلع النجار لإعادة الإعمار، ويعتقد أن أي جهة قادرة على إعادة الإعمار هي التي يجب أن تحكم غزة.

وأضاف: «بعد كل هذه الحروب. نريد أن نعيش. بصراحة لم أعد أكترث بالحرب ولا السياسة ولا من يحكمني. أنا أريد العيش فقط. العيش بعيداً عن الحروب والقتل والدمار».

وتتفق نجوى الدماغ (47 عاماً) مع النجار ولا تفكر بمغادرة القطاع، لكنها تمنّي النفس بحياة أفضل.

وقالت الدماغ لـ«الشرق الأوسط» إنها تفضّل البقاء في غزة، لكنها تريد السلام والأمن. وأضافت: «تعبنا من الحروب. أعتقد ما ظل فينا نَفَس. صار وقت نعيش بسلام».

ولا تهتم الدماغ بمن يحكمها، «المهم أن نعيش مثل بقية البشر». وهذا شعور انتقل تلقائياً لابنتها إيمان (22 عاماً) التي خرجت من هذه الحرب وهي لا تثق بأي فصيل فلسطيني سياسي.

وقالت إيمان: «كلهم (الفصائل) يبحثون عن مصالحهم الشخصية ولديهم أجندات. لا أحد يفكر أو يهتم للناس». وبخلاف والدتها، تسعى إيمان للهجرة وبناء حياة جديدة في الخارج «بعيداً من تجار الحروب والدم»، كما قالت.

دمار بمقرّ المجلس التشريعي الفلسطيني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

وبينما يعيش مئات آلاف من الغزيين في مخيمات نزوح موزعة في كل قطاع غزة، تعيش الأغلبية الباقية في منازل شبه مدمَّرة أو نازحين عند أقاربهم، ويعانون مجاعة حقيقية وغلاء أسعار فاحشاً، والكثير من الفوضى التي عمقت شكل المأساة في القطاع. وقال كثير من الغزيين الذي سألتهم «الشرق الأوسط» عن مستقبلهم إنهم لا يفضلون الفصائل ويتطلعون إلى «حكومة مسؤولة»، وفق تعبيرهم.

وشرح الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم، ذلك بالقول إن الغزيين لم يعودوا يهتمون بما تتبناه الفصائل وحتى السلطة الفلسطينية من شعارات «ليس لها من الواقع نصيب». وأضاف: «هم يفضّلون جهة تحكمهم قادرة على وقف نزيف الدم وأن تعيد بناء منازلهم وتوفر لهم فرص عمل يستعيدون بها حياتهم». ورأى إبراهيم أن «الأفق السياسي لليوم التالي للحرب ما زال غامضاً ولا يمكن التنبؤ به؛ مما شكّل حالة من اليأس لدى السكان ودفعهم لعدم الاهتمام بمن يحكمهم بقدر اهتمامهم بمصيرهم ومستقبل حياتهم في اللحظة التي تتوقف فيها الحرب».

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

ويرى إبراهيم أن السكان في غزة ملّوا من الصراع مع إسرائيل والحرب التي تتكرر كل بضعة أعوام، واليوم أصبحوا أكثر من أي وقت مضى يفكرون بالهجرة في حال أُتيحت لهم فرصة حقيقية. وأضاف: «الكلام الذي لا يقوله أهل غزة على الملأ هو: لماذا نحن؟ القضية الفلسطينية والقدس والأقصى ليست قضيتنا وحدنا... فلماذا وحدنا نموت؟».