«نزيف حاد» للأدمغة والكفاءات اللبنانية

زحمة يومية للمغادرين في مطار بيروت (غيتي)
زحمة يومية للمغادرين في مطار بيروت (غيتي)
TT

«نزيف حاد» للأدمغة والكفاءات اللبنانية

زحمة يومية للمغادرين في مطار بيروت (غيتي)
زحمة يومية للمغادرين في مطار بيروت (غيتي)

قد تبدو كل الخسائر التي يتكبدها لبنان منذ نحو عامين نتيجة انفجار كل الأزمات في وجه أبنائه دفعة واحدة، قابلة للتعويض؛ أقله في المدى المتوسط إن لم نقل في المدى القريب، في حال وُضع البلد على سكة الحل خلال الأعوام المقبلة. كل الخسائر يمكن تعويضها... لكن النزف الحاد في الكفاءات والأدمغة سيترك تداعيات مدوية في المجتمع اللبناني؛ مما يهدد لبنان بمستقبل قاتم.
موجة الهجرة الجديدة التي يشهدها البلد منذ عام 2019 والتي انطلقت مع تداعي القطاع المصرفي واحتجاز أموال المودعين، كانت حتى منتصف عام 2020 مفهومة ومتوقعة، إلى حد ما، إلا إنها ومع انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس (آب) 2020 الذي أدى إلى تدمير نصف العاصمة بيروت وحصد أكثر من 200 ضحية وآلاف الجرحى، تحولت هذه الموجة إلى «تسونامي» جارف؛ ما لبث أن هدأ حتى عاد ليتجدد مع الوصول مؤخراً إلى مرحلة الارتطام حيث بات اللبنانيون يفتقدون كل مقومات الحياة من خبز وماء وبنزين ومازوت وغاز وحليب أطفال ودواء…
الجحيم الذي يعاني اللبنانيون منه، لم يترك لأهل هذا البلد خياراً إلا الفرار... وتبين بعد التدقيق أن العدد الأكبر من «الهاربين» هو من النخبة؛ أي من الكفاءات والأدمغة التي لم تعد تجد في لبنان أرضاً خصبة لطموحاتها وأحلامها. ويصيب نزف الكفاءات الحاصل بشكل أساسي القطاع الطبي، مع تسجيل هجرة مئات الأطباء والممرضات والممرضين الاختصاصيين في العامين الماضيين. وتجمع كل النقابات على عدم امتلاكها أي عدد محدد ودقيق للمهاجرين من صفوفها، وتعتمد بشكل أساسي على تقديرات وترجيحات.
إيلي غصن (22 عاماً) ابن بلدة عندقت الشمالية الحدودية، الذي غادر قبل نحو شهر لإكمال دراسته الجامعية في فرنسا بعد حصوله على منحة لتميزه في مجال الهندسة، لا يفكر في العودة للاستقرار في بلده. رغم مضي أسابيع معدودة على تركه لبنان؛ فإنه لاحظ الفرق الشاسع في نمط الحياة والتقديمات والخدمات التي توفرها الدولة هناك مقابل مقومات الحياة الأساسية المفقودة في بلده الأم.
ويقول غصن لـ«الشرق الأوسط»: «اتخذت قرار الهجرة منذ فترة، حتى قبل تطور الأوضاع بشكل دراماتيكي في لبنان. ففرص العمل شبه مفقودة مقابل وجود عدد كبير من خريجي الهندسة. أضف أنه في مجال الميكانيك الذي تخصصت فيه لا مجال للتطور؛ نظراً لأن قطاع الصناعة في لبنان صغير ومحصور جداً مقارنة بالدول المتطورة».
ويتطلع الشاب العشريني الطموح إلى الحصول على الجنسية الفرنسية قريباً نظراً للتقديمات والتسهيلات التي تتيحها، وهو يرى آفاقاً كثيرة في ربوع فرنسا «انطلاقاً مما تقدمه الجامعات لجهة عدم حصر هذه التقديمات في التعليم، وتركيزها كذلك على تطوير الإنسان نفسياً وجسدياً واجتماعياً، وهو ما نفتقده في معظم الجامعات بلبنان».
أما نهى أنطون؛ التي اختارت أن تكون ربة عائلة كبيرة نسبياً (4 أولاد) بوصفها تحب أن تكون محاطة بالأطفال والأحفاد، فحرمت بعد سنوات طويلة من التربية والسهر والتعب هذه المتعة. 3 من أولادها هاجروا في السنوات القليلة الماضية؛ آخرهم «عزيز» الأصغر العام الماضي؛ وهو مهندس كومبيوتر هاجر للعمل والعيش في أمستردام بعد نجاحات كثيرة في أكثر من مؤسسة لبنانية. وتقول نهى لـ«الشرق الأوسط»: «رحلوا الواحد تلو الآخر، ولم يبقَ إلا ابني الكبير الذي أخشى كثيراً أن يكون مصيره كمصير إخوته؛ الهجرة». وتضيف: «لا شك في أننا لا نستطيع أن نقول لهم ابقوا هنا، فلا وجود لمقومات البقاء والصمود... أما أنا ووالدهم فلن نترك منزلنا رغم كل الصعوبات، وسيبقى نقطة التقاء لهم في الأعياد والمناسبات».

«سرقة ممنهجة» للمتفوقين والمتميزين
لعل الأخطر من كل ما سبق هو محاولة مؤسسات أجنبية الاستفادة من المأساة اللبنانية لاصطياد المتفوقين والمتميزين في كل القطاعات. وهو ما بدا جلياً مع توجه أكثر من مؤسسة لإقناع الأطباء والممرضين والممرضات بترك البلد، وتقديم عروض باتوا يجدونها مغرية نتيجة الانهيار الحاد في سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي.
ويبدو أن هذا التوجه ليس حكراً على القطاع التمريضي؛ إذ يذهب رئيس «جامعة البلمند» الدكتور إلياس وراق إلى أبعد من ذلك، متحدثاً لـ«الشرق الأوسط» عن «سرقة ممنهجة للتلامذة المتفوقين والأساتذة المتميزين» من قبل «جامعات ومراكز علمية في الخارج نتعاون معها منذ سنوات، وهي على اطلاع على الداتا الخاصة بنا نتيجة هذا التعاون». وأشار وراق إلى أن «المؤسف أن العروض التي كانت تقدم لهؤلاء قبل سنوات وكانوا يرفضونها، لم تعد متوفرة، وهم يقدمون لهم عروضاً تصل المبالغ فيها لنصف ما كان يعرض سابقاً... أي إنهم يسرقون الأدمغة والكفاءات اللبنانية بالرخيص»، لافتاً إلى أن «النزف الحاصل كبير، وأنا أطلع بشكل يومي؛ لا أسبوعي، على أعداد إضافية من التلامذة والأساتذة المتميزين الذين يغادرون البلد... حتى إن آخر الأرقام التي بحوزتنا تفيد بأن 75 في المائة من طلاب لبنان ينتظرون الفرصة للهجرة، إضافة إلى أن ما بين 10 و15 في المائة من الأساتذة تركوا البلد؛ بينهم نحو 60 في المائة من المتميزين». وأضاف: «ما نحن بصدده مجزرة حقيقية... كل شيء يمكن تعويضه إلا نزف الأدمغة... يبدو واضحاً أن هناك نية وإرادة لتدمير ممنهج للبلد، ولم يعد يجوز أن نسكت عن هذا الواقع الخطير».
داني موسى (33 عاماً) اللبناني من عكار شمال البلاد، الرئيس التنفيذي لـ3 شركات تعنى بتكنولوجيا البرمجيات، والذي تمكن في وقت قياسي من الانتقال من تطوير المواقع الإلكترونية في لبنان، وقد أنشأ وطور أهم وأبرز المواقع الحالية، إلى العمل بالبرمجيات، وشركاته حالياً التي تعمل من دبي تغطي عدداً كبيراً من الدول، هو أحد الشبان اللبنانيين الرواد في مجال التكنولوجيا.
ويقول موسى لـ«الشرق الأوسط» إنه في عام 2019 قرر ترك لبنان بعدما استشرف مستقبلاً قاتماً فيه، وإنه أقنع فريق عمله المؤلف من 28 شخصاً بترك البلد أيضاً، موضحاً أنه لم يبق إلا 4 منهم يعملون من بيروت، «وأنا بصدد إقناعهم بالمغادرة؛ لأن البنى التحتية لم تعد مناسبة على الإطلاق لإنجاز أي عمل، خصوصاً نتيجة وضع الكهرباء والإنترنت».
وأسف موسى «كيف أن الدولة في لبنان لا تقوم بأي مبادرة للتمسك بالكفاءات والشركات، كشركاتنا مثلاً التي تتعامل حصراً مع الخارج، وتؤمن دخول (الفريش دولار) إلى البلد الذي هو في أمسّ الحاجة إليه».
وأضاف: «بعد أن يعيش اللبناني في دول أخرى، خصوصاً بعد أن يبدأ العمل فيها ويكتشف كيف أن ما يعدّه مَن هم على رأس السلطة في لبنان إنجازاً، كتأمين الكهرباء والإنترنت والمياه؛ إنما هي خدمات مؤمنة بشكل تلقائي لمواطني هذه الدول والمقيمين فيها، وهم لم يفكروا يوماً كيف هي الحياة من دونها، يحسم أمره بأنه لا عودة إلى لبنان للعيش فيه في المدى المنظور، ولا في البعيد، ولا إذا بقيت الأوضاع على ما هي عليه، ولا إذا تحسنت، علماً بأنني ممن يستبعدون تحسنها قريباً». ويشير موسى إلى أن القسم الأكبر من زملائه في المهنة «تركوا البلد، ومن تبقى منهم يحزم حقائبه للرحيل».

موجات مرتقبة
يشير أستاذ السياسات والتخطيط في «الجامعة الأميركية في بيروت» والمشرف على «مرصد الأزمة» الدكتور ناصر ياسين، إلى أن «لبنان اعتاد تاريخياً تصدير الأدمغة ورأس المال البشري، ولكن طبعاً ليس بالأعداد الحالية»، موضحاً أنه «في الأسابيع الماضية لحظنا ارتفاعاً كبيراً في نسبة الناس التي لديها نية للهجرة بعد تردي الأحوال المعيشية وجوانب الحياة من ناحية الحصول على الخدمات والمواد الأساسية والفوضى الأمنية». ويتحدث ياسين لـ«الشرق الأوسط» عن «3 قطاعات مهمة في لبنان بدأت تخسر وستخسر أكثر قريباً مواردها البشرية: أولاً القطاع الصحي؛ الذي يشهد تأزماً بنيوياً وعدم قدرة على الاستمرار بشكله وطريقة عمله المعتادة. ثانياً؛ القطاع التعليمي الذي يعيش تداعيات كبيرة للأزمة، بحيث إنه في (الجامعة الأميركية) مثلاً هناك نحو 200 دكتور بين (الجامعة – الحرم) والمستشفى غادروا أو أخذوا إجازات مفتوحة، ونتوقع أن ترتفع هذه الأعداد مع افتتاح العام الدراسي الجديد، بحيث إن كثيراً من المؤسسات التربوية ستضطر للإقفال أو تشهد انكماشاً كبيراً.
أما القطاع الثالث؛ فهو قطاع المصارف بعد إقفال عدد كبير من الفروع وتسريح كثير من الموظفين... هذا القطاع أصبح متعثراً ويحتاج لسنوات ليتمكن من النهوض مجدداً». ويتوقع ياسين أن تكون هناك موجات جديدة من الهجرة للعاملين في الصناعات الإبداعية كالإعلام والطباعة والتصميم.

260 ألف جواز سفر في 8 أشهر
سجل الأمن العام اللبناني ارتفاعاً كبيراً في إصدارات جوازات السفر خلال الأشهر الثمانية الأولى من العام الحالي؛ إذ تفيد الإحصاءات بأن عدد جوازات السفر التي صدرت منذ مطلع عام 2021 وحتى نهاية شهر أغسطس (آب) الحالي، نحو 260 ألف جواز سفر، مقارنة مع نحو 142 ألف جواز سفر في الفترة نفسها من عام 2020؛ أي بزيادة نسبتها 82 في المائة.
وحسب الإحصاءات نفسها؛ فإن الأشهر الثمانية الأولى من السنة الحالية كان المعدل الأسبوعي لطلبات الاستحصال على جواز سفر يتجاوز 7 آلاف طلب مقارنة مع 4 آلاف طلب في الفترة نفسها من 2020. وأشارت إلى أن فئات الجوازات المصدرة هي من الفئات الأطول زمناً؛ أي فئة السنوات العشر، والسنوات الخمس، على حساب تراجع الفئات الأقل مدى زمنياً، مثل فئة السنة الواحدة وفئة السنوات الثلاث، مما يعني أن معظم من يطلبون جوازات من هذا النوع هاجروا أو يفكرون في الهجرة.

هجرة 1500 طبيب في عامين
> يشير نقيب الأطباء في لبنان، الدكتور شرف أبو شرف، إلى أنه «لا أعداد دقيقة للأطباء الذين هاجروا؛ لأن كثيرين يتركون البلد من دون علم وخبر، خصوصاً أن بعض البلدان لا تطلب شهادات من النقابة. أما دول أخرى، كفرنسا وبلجيكا ودول خليجية، فتطلب شهادة للتأكد من أنه لا إشكالية من ناحية الأداء»، كاشفاً عن أن «نحو 130 طبيباً من الجامعة الأميركية في بيروت تركوا لبنان بمعظمهم إلى الولايات المتحدة الأميركية، كما غادر من مستشفيات (الروم) و(رزق) نحو 30 في المائة من الأطباء». وإذ رجح أبو شرف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن يكون قد ترك لبنان أكثر من 1500 طبيب منذ عامين معظمهم من الأطباء المختصين ذوي الكفاءات العالية، نبه إلى أن هذا العدد قد يتضاعف أو يبلغ 3 أضعاف ما هو عليه اليوم في حال بقي الوضع على ما هو عليه، مضيفاً: «الدول التي تستقطب هؤلاء الأطباء تعرف كفاءتهم باعتبار أن معظمهم أنجزوا دراساتهم فيها، أو حتى عملوا فيها قبل سنوات».
ورأى أبو شرف أن «المشكلة الأساسية هي أن المريض لم يعد قادراً على الدفع، كما أن الطبيب لم يعد قادراً على الاستمرار بالقليل، من دون أن ننسى أن الدولة أيضاً لم تعد تدفع ما يتوجب عليها للقطاع، وأن أموال الأطباء أصلاً محتجزة في المصارف». وأضاف: «الأطباء باتوا يقومون بعمل شبه مجاني، وهم في المقابل يتعرضون لاعتداءات، كما يشتكون من غياب الدواء والمستلزمات الطبية والدواء». ورأى أبو شرف أن «الأطباء الذين غادروا إلى دول الخليج والعراق من السهل أن يعودوا إلى البلد في حال تحسنت الأوضاع. أما من غادروا إلى دول أوروبا وأميركا فهؤلاء عودتهم لن تكون سهلة، وسيكونون أقرب للهجرة الدائمة».
وحذر أبو شرف من أن القطاع في «خطر؛ خصوصاً بعد دخول أطباء من جنسيات أخرى على الخط»، مضيفاً: «إذا كان القانون يمنعهم من مزاولة المهنة؛ إلا إننا نتلقى شكاوى كثيرة عن مزاحمة أطباء سوريين أطباء لبنانيين في عدد من المناطق؛ حيث يكتفون مثلاً بتقاضي 20 ألف ليرة (دولار واحد) عن المعاينة الواحدة». وشدد على وجوب «دعم الأطباء وتشجيعهم على البقاء في لبنان، والتواصل مع المؤسسات الدولية لتأمين الدعم اللازم لهم».

1600 ممرض إلى الاغتراب
> لا شك في أن ما يسري على الأطباء؛ يسري على الممرضات والممرضين. ين عدد الممرضين والممارضات الذين هاجروا بـ1600 منذ 2019.
فهنا أيضاً؛ بحسب نقيبة الممرضين والممرضات في لبنان، الدكتورة ريما ساسين، «لا أعداد دقيقة لعدد الممرضين والممرضات الذين غادروا لبنان؛ إنما تقديرات»، مؤكدة أن «العدد لا شك فاق الألفين منذ عام 2019؛ وهم بمعظمهم من أصحاب الخبرات والكفاءات». وتقدر نقابة الممرضات والممرضوأوضحت ساسين، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أنهم في النقابة «بصدد تجميع المعلومات من المستشفيات لتحديد عدد الذين غادروا عملهم، وما اختصاصاتهم، وما ظروف عمل من تبقى من الممرضين والممرضات»، لافتة إلى أن «أبرز البلدان التي يغادر إليها هؤلاء هي الدول العربية المجاورة والعراق، وبلجيكا، وفرنسا، وكندا، والولايات المتحدة الأميركية»، مضيفة: «هم يغادرون إلى حيث يجدون فرص عمل تؤمن لهم معيشة لائقة، ولا شك في أنهم يتلقون كثيراً من العروض».
ونبهت ساسين إلى أن «وضع القطاع في خطر، مما يعني أن الوضع الصحي في لبنان ككل في خطر»، لافتة إلى أنه «لا يزال هناك ممرض أو ممرضة واحدة لكل 20 مريضاً، وهذا الوضع كان ليكون أسوأ لو لم يتراجع عدد المرضى الذين يدخلون المستشفيات بعد حصر الاستشفاء مؤخراً في الحالات الطارئة».
وأشارت ساسين إلى أنه «يجري العمل على بعض التحفيزات وتأمين الدعم للممرضات والممرضين الذين ما زالوا يعملون في لبنان، كتأمين بدل بنزين وإعطاء الأولوية لهم على المحطات كي يتمكنوا من الوصول إلى أعمالهم وعناية المرضى من دون تأخير»، لافتة إلى أنه و«لأول مرة نسعى أيضاً إلى تأمين مساعدات من الجمعيات والمنظمات الدولية لمساندة الممرضين والممرضات في هذه المرحلة الصعبة، خصوصاً أنه رغم تحديدنا الحد الأدنى للأجور في القطاع بمليونين و500 ألف ليرة؛ فإنه لا يزال هناك من يتقاضى مليوناً و500 ألف ليرة شهرياً».

مهندسون ومحامون يواجهون مصيراً واحداً
> باقي القطاعات الرئيسية كالهندسة والمحاماة وغيرهما، ليست أحسن حالاً، وإن كان بوطأة أخف؛ إذ تقول مصادر نقابة المهندسين إنه لا معلومات واضحة عن عدد المهندسين الذين تركوا البلد نهائياً بحسبان أن المهندسين في لبنان معروفون تاريخياً بأنهم دائمو التنقل ويعملون في الوقت عينه داخل وخارج البلد، وبالتالي يصعب تحديد من غادر منهم ولن يعود. وتشير المصادر لـ«الشرق الأوسط» إلى أن «ما يمكن الجزم به أن أعداد المهندسين الذين تركوا البلد مؤخراً أكبر من أي وقت مضى، فيما ينتظر كثيرون غيرهم فرصة خارج البلد للرحيل».
ويدرس المهندس المعماري طارق عباس وزوجته ألين ساسين مهندسة الديكور جدياً خيار الهجرة، وإن كانت حتى الساعة حظوظ البقاء تطغى على المغادرة ما دام لا تزال تتوافر أمامهما فرص العمل. ويقول عباس لـ«الشرق الأوسط» إنهما إذا قررا الهجرة، فسيكون ذلك لتأمين حاضر ومستقبل أفضل لأولادهما. ويضيف: «نحن نمتلك المال لشراء الدواء؛ لكنه غير متوفر... نستطيع تكبد تكلفة البنزين؛ لكنه أيضاً بالقطارة، كما أن وضع المدارس غير مطمئن على الإطلاق».
من جهتها، توضح ساسين أن «توافر فرص العمل لا يعني أن البديل المادي لا يزال كما كان عليه قبل انهيار سعر الصرف»، لافتة إلى أن «العروض التي يتلقاها المهندس اللبناني في كثير من الدول لم تعد مغرية»، مضيفة: «عدد لا بأس به من أصدقائي وزملائي ترك البلد. هناك عدد يبذل قصارى جهوده كي يرحل، وعدد لا يزال يفكر في ما إذا كان يجب أن يرحل أم يبقى، كحال عائلتنا».
ويشبه كثيراً وضع المهندسين وضع المحامين، بحيث توضح مصادر نقابة المحامين أن «المحاماة مهنة حرة، بحيث إن المحامي غير مقيد بوظيفة، وإن عدداً كبيراً من المحامين يعملون في لبنان وفي الوقت عينه بالخارج، مما يجعل من الصعب إحصاء عدد المهاجرين منهم»، لافتة في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إلى أن «من دفعوا الرسوم هذا العام، أي إنهم يعملون في لبنان ارتفع بعد أن كان 6900 محام العام الماضي إلى نحو 7300 هذا العام، إلا إن هذه الأرقام ليست مؤشراً على عدم هجرة أو مغادرة أعداد إضافية من المحامين مؤخراً».
وتضيف المصادر: «المحامون في النهاية جزء من هذا المجتمع؛ يتأثرون كما سواهم بالوضع، فإذا كان الوضع الاقتصادي جيداً؛ كان عملهم جيداً، علماً بأن جزءاً كبيراً مما يقومون به هو تأدية لخدمة عامة، وفي هذه المرحلة هم يقومون أكثر من أي وقت مضى بهذا الدور وبدور وطني بارز».
ويقول المحامي أنطوان نصر الله إن «قطاع المحاماة، كغيره من القطاعات، يواجه ظروفاً صعبة جداً، لكنه قد يكون بخلاف بقية القطاعات يئن بصمت».
وأوضح أنه «يصعب على المحامي العمل خارج بلده بسبب اختلاف القوانين والأنظمة؛ أضف أنه يصعب عليه أن يسجَّل في النقابات في دولة غير دولته. لذلك يمكن الحديث عن هجرة عدد كبير من المحامين اللبنانيين إلى كثير من الدول العربية، حيث يعملون في مكاتب محاماة؛ كما أن قسماً هاجر إلى فرنسا ولندن حيث يعملون استشاريين لشركات ومصارف». ويعدد نصر الله «أسباباً كثيرة تدفع بالمحامين للهجرة؛ أبرزها اليأس مما آلت إليه الأوضاع؛ إضراب المحامين الذي طال كثيراً، إضراب المساعدين القضائيين، إضراب الدوائر العقارية ودوائر الدولة، انهيار سعر الصرف، ارتفاع أسعار كتب القانون والمراجع على الإنترنت، تراجع عدد الدعاوى القضائية بسبب الإضرابات، عدم الثقة بالقضاء والبطء في التقاضي».



واشنطن واستراتيجية الـ«لا استراتيجية» في الشرق الأوسط

بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
TT

واشنطن واستراتيجية الـ«لا استراتيجية» في الشرق الأوسط

بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)

بعد عام على هجمات 7 أكتوبر (تشرين الأول)، تتخبط منطقة الشرق الأوسط في موجة تصعيد مستمر، من دون أي بوادر حلحلة في الأفق. فمن الواضح أن إسرائيل مصرة على الخيارات العسكرية التصعيدية، ضاربة بعرض الحائط كل المبادرات الدولية للتهدئة، ومن الواضح أيضاً أن الولايات المتحدة وإدارة الرئيس جو بايدن، إما عاجزتان عن التأثير على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وإما غير مستعدتين لممارسة ضغوطات كافية عليه للتجاوب مع دعواتها لوقف التصعيد. هذا في وقت تعيش فيه الولايات المتحدة موسماً انتخاباً ساخناً تتمحور فيه القرارات حول كيفية تأثيرها على السباق الرئاسي.

السؤال الأبرز المطروح حالياً هو عما إذا كان هناك استراتيجية أميركية ما حيال ملف الشرق الأوسط، انطلاقاً من الحرب الدائرة منذ عام. فقد واجهت الإدارة الحالية انتقادات حادة بسبب غياب منطقة الشرق الأوسط عن لائحة أولوياتها منذ تسلم بايدن السلطة. ولكن الأمور منذ 7 أكتوبر 2023 تغيرت جذرياً.

تحدثت «الشرق الأوسط» إلى غيث العمري، المستشار السابق لفريق المفاوضات الفلسطيني خلال محادثات الوضع الدائم وكبير الباحثين في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، الذي رأى أن الإدارة الأميركية سعت فعلياً إلى عدم إعطاء الأولوية لمنطقة الشرق الأوسط، وحوّلت تركيزها ومواردها إلى أولويات أخرى. ويقول العمري: «جاءت هجمات 7 أكتوبر لتفاجئ الولايات المتحدة التي لم تكن مستعدة لها، والتي افتقرت لما يلزم لمواجهة أزمة بهذا الحجم». ويرى العمري أن الولايات المتحدة اعتمدت منذ السابع من أكتوبر وحتى تاريخنا هذا على سياسة «مجزأة مبنية على رد الفعل»، مضيفاً: «إنها لم تتمكن من رسم المشهد الاستراتيجي أو ممارسة النفوذ على حلفائها الإقليميين».

امرأة تعرض صورة لجنود إسرائيليين بعد استعادتهم لموقع كفرعزّة إثر هجمات 7 أكتوبر 2023 (د.ب.أ)

تحدثت «الشرق الأوسط» أيضاً إلى جون الترمان، المسؤول السابق في وزارة الخارجية ومدير برنامج الشرق الأوسط في معهد الدراسات الاستراتيجية والدولية، فقال: «فشلت إدارة بايدن بالتأكيد في تحقيق العديد من أهدافها في العام الماضي، ولكن في الوقت نفسه لم تندلع حرب إقليمية كبيرة بعد». ويعرب الترمان عن «دهشته» من أنه ورغم «الإخفاقات»، فإن الولايات المتحدة «لا تزال هي النقطة المحورية للدبلوماسية الإقليمية».

وفيما تدافع إدارة بايدن عن أدائها بالقول إنها أظهرت الردع من خلال إرسال تعزيزات أميركية إلى المنطقة، إلا أن العمري يختلف مع هذه المقاربة، لافتاً إلى أن نشر هذه الأصول العسكرية ربما ساهم في المراحل المبكرة من الحرب «في ردع إيران و(حزب الله) من الانخراط في تصعيد كبير، إلا أنه فشل في ردعهما إلى جانب وكلائهما كالحوثيين من الانخراط في أنشطة خبيثة على مستوى منخفض». وأضاف: «لقد تسبب ذلك في زيادة الضغط، وأدى في النهاية إلى انتقال الحرب إلى لبنان وربما مناطق أخرى».

الدبلوماسية «هي الحل»

في خضم التصعيد، تبقى إدارة بايدن مصرة على تكرار التصريحات نفسها من أن الحل الدبلوماسي هو الحل الوحيد، محذرة من توسع رقعة الصراع في المنطقة. وعن ذلك يقول الترمان إن بايدن يريد حلولاً دبلوماسية؛ «لأن الحلول العسكرية تتطلب هزيمة شاملة لأحد الأطراف. ونظراً للرّهانات العالية لكلا الجانبين، فإن الحل العسكري بعيد المنال، وسينجم عنه المزيد من الموت والدمار أكثر بكثير مما شهدناه حتى الآن».

أما العمري فيرى أن التركيز على الدبلوماسية هو أمر مناسب؛ لأنه «في نهاية المطاف، تنتهي الحروب وستكون هناك حاجة إلى حل دبلوماسي»، مضيفاً: «عندما يأتي (اليوم التالي)، يجب أن تكون الأسس لترتيبات دبلوماسية جاهزة».

إلا أن العمري يحذر في الوقت نفسه من أن الدبلوماسية وحدها غير كافية إذا لم تكن مدعومة بقوة واضحة، بما في ذلك القوة العسكرية، ويفسر ذلك قائلاً: «إذا لم تتمكن الولايات المتحدة من إقناع خصومها بأنها مستعدة لاستخدام قوتها لإيذائهم، وحلفائها بأنها مستعدة لفعل ما يلزم لمساعدتهم، فإن نفوذها تجاه الطرفين سيكون محدوداً».

تجميد الأسلحة لإسرائيل

سقوط أعداد هائلة من المدنيين في حربي غزة ولبنان منذ بدء العمليات الإسرائيلية للرد على هجمات 7 أكتوبر 2023، دفع الكثيرين إلى دعوة بايدن لوضع قيود على الأسلحة الأميركية لإسرائيل، بهدف ممارسة نوع من الضغوط على نتنياهو لوقف التصعيد، لكن الترمان يرفض النظرة القائلة بأن تجميد الأسلحة سيمهد للحل، ويفسر قائلاً: «إذا اعتمدت إدارة بايدن هذه المقاربة، أتوقع أن يعترض الكونغرس بشدة، وقد تكون النتيجة عرضاً للضعف والهشاشة في سياسة البيت الأبيض، بدلاً من صورة تقديم حلول». ويحذّر الترمان من أن خطوة من هذا النوع من شأنها كذلك أن تدفع إسرائيل إلى «الشعور بمزيد من العزلة التي قد تولّد بالتالي شعوراً أكبر بعدم الالتزام بأي قيود».

الرئيس الأميركي جو بايدن خارجاً من البيت الأبيض ليستقل الطائرة إلى نيويورك (أ.ب)

ويوافق العمري مع هذه المقاربة، مشيراً إلى أنه «من غير الواضح أن أي وسيلة ضغط ستنجح»، فيقول: «إسرائيل تشعر بأنها مهددة وجودياً، مما يجعلها أقل استعداداً لتقبل أي تأثير خارجي». ويوفر العمري نظرة شاملة عن مقاربة الإدارة الأميركية في غزة ولبنان التي تحد من الضغوط التي ترغب في ممارستها على إسرائيل، فيفسر قائلاً: «رغم أن الولايات المتحدة غير راضية عن بعض جوانب سير الحرب، خصوصاً فيما يتعلق بالخسائر البشرية بين المدنيين، فإنها تدعم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها بعد السابع من أكتوبر». لهذا السبب يشير العمري إلى أن الولايات المتحدة تحتاج إلى تحقيق توازن في الضغط بطرق يمكن أن تغير سلوك إسرائيل «دون تقييد قدرتها على تحقيق الهدف المشروع المتمثل في هزيمة (حماس)»، مضيفاً: «هذا التوازن ليس سهلاً».

بالإضافة إلى ذلك، يذكّر العمري بطبيعة العلاقة التاريخية بين الولايات المتحدة وإسرائيل، والتي «تتجاوز القضية الإسرائيلية - الفلسطينية»، فيقول: «الولايات المتحدة تستفيد استراتيجياً من هذه العلاقة، بما في ذلك الفوائد المتعلقة بالتهديدات الإقليمية الأخرى مثل الأنشطة الإيرانية. وبذلك، فإن الولايات المتحدة لديها مصالحها الاستراتيجية الخاصة التي يجب أن تُؤخذ بعين الاعتبار».

أي حل في نهاية النفق

رغم التصعيد المستمر، تعمل الولايات المتحدة على بناء استراتيجية تضمن عدم خروج الأمور عن السيطرة، ودخول إيران على خط المواجهة، ويشدد العمري على أن «الأولوية الآن هي ضمان بقاء إيران خارج هذه الحرب»، مشيراً إلى أن هذا الأمر ضروري للحد من انتشار الصراع، و«لإضعاف مصداقية إيران الإقليمية ونفوذها مع وكلائها»، لكنه يرى في الوقت نفسه أنه «لا يمكن تحقيق مثل هذه النتيجة إلا إذا كانت إيران مقتنعة بأن الولايات المتحدة مستعدة لاستخدام العمل العسكري».

عنصران من الدفاع المدني الفلسطيني في دير البلح في غزة (أ.ف.ب)

أما الترمان الذي يؤكد ضرورة استمرار الولايات المتحدة «في تقديم مسار للمضي قدماً لجميع الأطراف»، فيحذّر من أن هذا لا يعني أنها يجب أن «تحمي الأطراف من العواقب الناجمة عن أفعالهم»، ويختم قائلاً: «هناك مفهوم يسمى (الخطر الأخلاقي)، يعني أن الناس يميلون إلى اتخاذ سلوكيات أكثر خطورة إذا اعتقدوا أن الآخرين سيحمونهم من الخسارة».