«نزيف حاد» للأدمغة والكفاءات اللبنانية

زحمة يومية للمغادرين في مطار بيروت (غيتي)
زحمة يومية للمغادرين في مطار بيروت (غيتي)
TT

«نزيف حاد» للأدمغة والكفاءات اللبنانية

زحمة يومية للمغادرين في مطار بيروت (غيتي)
زحمة يومية للمغادرين في مطار بيروت (غيتي)

قد تبدو كل الخسائر التي يتكبدها لبنان منذ نحو عامين نتيجة انفجار كل الأزمات في وجه أبنائه دفعة واحدة، قابلة للتعويض؛ أقله في المدى المتوسط إن لم نقل في المدى القريب، في حال وُضع البلد على سكة الحل خلال الأعوام المقبلة. كل الخسائر يمكن تعويضها... لكن النزف الحاد في الكفاءات والأدمغة سيترك تداعيات مدوية في المجتمع اللبناني؛ مما يهدد لبنان بمستقبل قاتم.
موجة الهجرة الجديدة التي يشهدها البلد منذ عام 2019 والتي انطلقت مع تداعي القطاع المصرفي واحتجاز أموال المودعين، كانت حتى منتصف عام 2020 مفهومة ومتوقعة، إلى حد ما، إلا إنها ومع انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس (آب) 2020 الذي أدى إلى تدمير نصف العاصمة بيروت وحصد أكثر من 200 ضحية وآلاف الجرحى، تحولت هذه الموجة إلى «تسونامي» جارف؛ ما لبث أن هدأ حتى عاد ليتجدد مع الوصول مؤخراً إلى مرحلة الارتطام حيث بات اللبنانيون يفتقدون كل مقومات الحياة من خبز وماء وبنزين ومازوت وغاز وحليب أطفال ودواء…
الجحيم الذي يعاني اللبنانيون منه، لم يترك لأهل هذا البلد خياراً إلا الفرار... وتبين بعد التدقيق أن العدد الأكبر من «الهاربين» هو من النخبة؛ أي من الكفاءات والأدمغة التي لم تعد تجد في لبنان أرضاً خصبة لطموحاتها وأحلامها. ويصيب نزف الكفاءات الحاصل بشكل أساسي القطاع الطبي، مع تسجيل هجرة مئات الأطباء والممرضات والممرضين الاختصاصيين في العامين الماضيين. وتجمع كل النقابات على عدم امتلاكها أي عدد محدد ودقيق للمهاجرين من صفوفها، وتعتمد بشكل أساسي على تقديرات وترجيحات.
إيلي غصن (22 عاماً) ابن بلدة عندقت الشمالية الحدودية، الذي غادر قبل نحو شهر لإكمال دراسته الجامعية في فرنسا بعد حصوله على منحة لتميزه في مجال الهندسة، لا يفكر في العودة للاستقرار في بلده. رغم مضي أسابيع معدودة على تركه لبنان؛ فإنه لاحظ الفرق الشاسع في نمط الحياة والتقديمات والخدمات التي توفرها الدولة هناك مقابل مقومات الحياة الأساسية المفقودة في بلده الأم.
ويقول غصن لـ«الشرق الأوسط»: «اتخذت قرار الهجرة منذ فترة، حتى قبل تطور الأوضاع بشكل دراماتيكي في لبنان. ففرص العمل شبه مفقودة مقابل وجود عدد كبير من خريجي الهندسة. أضف أنه في مجال الميكانيك الذي تخصصت فيه لا مجال للتطور؛ نظراً لأن قطاع الصناعة في لبنان صغير ومحصور جداً مقارنة بالدول المتطورة».
ويتطلع الشاب العشريني الطموح إلى الحصول على الجنسية الفرنسية قريباً نظراً للتقديمات والتسهيلات التي تتيحها، وهو يرى آفاقاً كثيرة في ربوع فرنسا «انطلاقاً مما تقدمه الجامعات لجهة عدم حصر هذه التقديمات في التعليم، وتركيزها كذلك على تطوير الإنسان نفسياً وجسدياً واجتماعياً، وهو ما نفتقده في معظم الجامعات بلبنان».
أما نهى أنطون؛ التي اختارت أن تكون ربة عائلة كبيرة نسبياً (4 أولاد) بوصفها تحب أن تكون محاطة بالأطفال والأحفاد، فحرمت بعد سنوات طويلة من التربية والسهر والتعب هذه المتعة. 3 من أولادها هاجروا في السنوات القليلة الماضية؛ آخرهم «عزيز» الأصغر العام الماضي؛ وهو مهندس كومبيوتر هاجر للعمل والعيش في أمستردام بعد نجاحات كثيرة في أكثر من مؤسسة لبنانية. وتقول نهى لـ«الشرق الأوسط»: «رحلوا الواحد تلو الآخر، ولم يبقَ إلا ابني الكبير الذي أخشى كثيراً أن يكون مصيره كمصير إخوته؛ الهجرة». وتضيف: «لا شك في أننا لا نستطيع أن نقول لهم ابقوا هنا، فلا وجود لمقومات البقاء والصمود... أما أنا ووالدهم فلن نترك منزلنا رغم كل الصعوبات، وسيبقى نقطة التقاء لهم في الأعياد والمناسبات».

«سرقة ممنهجة» للمتفوقين والمتميزين
لعل الأخطر من كل ما سبق هو محاولة مؤسسات أجنبية الاستفادة من المأساة اللبنانية لاصطياد المتفوقين والمتميزين في كل القطاعات. وهو ما بدا جلياً مع توجه أكثر من مؤسسة لإقناع الأطباء والممرضين والممرضات بترك البلد، وتقديم عروض باتوا يجدونها مغرية نتيجة الانهيار الحاد في سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي.
ويبدو أن هذا التوجه ليس حكراً على القطاع التمريضي؛ إذ يذهب رئيس «جامعة البلمند» الدكتور إلياس وراق إلى أبعد من ذلك، متحدثاً لـ«الشرق الأوسط» عن «سرقة ممنهجة للتلامذة المتفوقين والأساتذة المتميزين» من قبل «جامعات ومراكز علمية في الخارج نتعاون معها منذ سنوات، وهي على اطلاع على الداتا الخاصة بنا نتيجة هذا التعاون». وأشار وراق إلى أن «المؤسف أن العروض التي كانت تقدم لهؤلاء قبل سنوات وكانوا يرفضونها، لم تعد متوفرة، وهم يقدمون لهم عروضاً تصل المبالغ فيها لنصف ما كان يعرض سابقاً... أي إنهم يسرقون الأدمغة والكفاءات اللبنانية بالرخيص»، لافتاً إلى أن «النزف الحاصل كبير، وأنا أطلع بشكل يومي؛ لا أسبوعي، على أعداد إضافية من التلامذة والأساتذة المتميزين الذين يغادرون البلد... حتى إن آخر الأرقام التي بحوزتنا تفيد بأن 75 في المائة من طلاب لبنان ينتظرون الفرصة للهجرة، إضافة إلى أن ما بين 10 و15 في المائة من الأساتذة تركوا البلد؛ بينهم نحو 60 في المائة من المتميزين». وأضاف: «ما نحن بصدده مجزرة حقيقية... كل شيء يمكن تعويضه إلا نزف الأدمغة... يبدو واضحاً أن هناك نية وإرادة لتدمير ممنهج للبلد، ولم يعد يجوز أن نسكت عن هذا الواقع الخطير».
داني موسى (33 عاماً) اللبناني من عكار شمال البلاد، الرئيس التنفيذي لـ3 شركات تعنى بتكنولوجيا البرمجيات، والذي تمكن في وقت قياسي من الانتقال من تطوير المواقع الإلكترونية في لبنان، وقد أنشأ وطور أهم وأبرز المواقع الحالية، إلى العمل بالبرمجيات، وشركاته حالياً التي تعمل من دبي تغطي عدداً كبيراً من الدول، هو أحد الشبان اللبنانيين الرواد في مجال التكنولوجيا.
ويقول موسى لـ«الشرق الأوسط» إنه في عام 2019 قرر ترك لبنان بعدما استشرف مستقبلاً قاتماً فيه، وإنه أقنع فريق عمله المؤلف من 28 شخصاً بترك البلد أيضاً، موضحاً أنه لم يبق إلا 4 منهم يعملون من بيروت، «وأنا بصدد إقناعهم بالمغادرة؛ لأن البنى التحتية لم تعد مناسبة على الإطلاق لإنجاز أي عمل، خصوصاً نتيجة وضع الكهرباء والإنترنت».
وأسف موسى «كيف أن الدولة في لبنان لا تقوم بأي مبادرة للتمسك بالكفاءات والشركات، كشركاتنا مثلاً التي تتعامل حصراً مع الخارج، وتؤمن دخول (الفريش دولار) إلى البلد الذي هو في أمسّ الحاجة إليه».
وأضاف: «بعد أن يعيش اللبناني في دول أخرى، خصوصاً بعد أن يبدأ العمل فيها ويكتشف كيف أن ما يعدّه مَن هم على رأس السلطة في لبنان إنجازاً، كتأمين الكهرباء والإنترنت والمياه؛ إنما هي خدمات مؤمنة بشكل تلقائي لمواطني هذه الدول والمقيمين فيها، وهم لم يفكروا يوماً كيف هي الحياة من دونها، يحسم أمره بأنه لا عودة إلى لبنان للعيش فيه في المدى المنظور، ولا في البعيد، ولا إذا بقيت الأوضاع على ما هي عليه، ولا إذا تحسنت، علماً بأنني ممن يستبعدون تحسنها قريباً». ويشير موسى إلى أن القسم الأكبر من زملائه في المهنة «تركوا البلد، ومن تبقى منهم يحزم حقائبه للرحيل».

موجات مرتقبة
يشير أستاذ السياسات والتخطيط في «الجامعة الأميركية في بيروت» والمشرف على «مرصد الأزمة» الدكتور ناصر ياسين، إلى أن «لبنان اعتاد تاريخياً تصدير الأدمغة ورأس المال البشري، ولكن طبعاً ليس بالأعداد الحالية»، موضحاً أنه «في الأسابيع الماضية لحظنا ارتفاعاً كبيراً في نسبة الناس التي لديها نية للهجرة بعد تردي الأحوال المعيشية وجوانب الحياة من ناحية الحصول على الخدمات والمواد الأساسية والفوضى الأمنية». ويتحدث ياسين لـ«الشرق الأوسط» عن «3 قطاعات مهمة في لبنان بدأت تخسر وستخسر أكثر قريباً مواردها البشرية: أولاً القطاع الصحي؛ الذي يشهد تأزماً بنيوياً وعدم قدرة على الاستمرار بشكله وطريقة عمله المعتادة. ثانياً؛ القطاع التعليمي الذي يعيش تداعيات كبيرة للأزمة، بحيث إنه في (الجامعة الأميركية) مثلاً هناك نحو 200 دكتور بين (الجامعة – الحرم) والمستشفى غادروا أو أخذوا إجازات مفتوحة، ونتوقع أن ترتفع هذه الأعداد مع افتتاح العام الدراسي الجديد، بحيث إن كثيراً من المؤسسات التربوية ستضطر للإقفال أو تشهد انكماشاً كبيراً.
أما القطاع الثالث؛ فهو قطاع المصارف بعد إقفال عدد كبير من الفروع وتسريح كثير من الموظفين... هذا القطاع أصبح متعثراً ويحتاج لسنوات ليتمكن من النهوض مجدداً». ويتوقع ياسين أن تكون هناك موجات جديدة من الهجرة للعاملين في الصناعات الإبداعية كالإعلام والطباعة والتصميم.

260 ألف جواز سفر في 8 أشهر
سجل الأمن العام اللبناني ارتفاعاً كبيراً في إصدارات جوازات السفر خلال الأشهر الثمانية الأولى من العام الحالي؛ إذ تفيد الإحصاءات بأن عدد جوازات السفر التي صدرت منذ مطلع عام 2021 وحتى نهاية شهر أغسطس (آب) الحالي، نحو 260 ألف جواز سفر، مقارنة مع نحو 142 ألف جواز سفر في الفترة نفسها من عام 2020؛ أي بزيادة نسبتها 82 في المائة.
وحسب الإحصاءات نفسها؛ فإن الأشهر الثمانية الأولى من السنة الحالية كان المعدل الأسبوعي لطلبات الاستحصال على جواز سفر يتجاوز 7 آلاف طلب مقارنة مع 4 آلاف طلب في الفترة نفسها من 2020. وأشارت إلى أن فئات الجوازات المصدرة هي من الفئات الأطول زمناً؛ أي فئة السنوات العشر، والسنوات الخمس، على حساب تراجع الفئات الأقل مدى زمنياً، مثل فئة السنة الواحدة وفئة السنوات الثلاث، مما يعني أن معظم من يطلبون جوازات من هذا النوع هاجروا أو يفكرون في الهجرة.

هجرة 1500 طبيب في عامين
> يشير نقيب الأطباء في لبنان، الدكتور شرف أبو شرف، إلى أنه «لا أعداد دقيقة للأطباء الذين هاجروا؛ لأن كثيرين يتركون البلد من دون علم وخبر، خصوصاً أن بعض البلدان لا تطلب شهادات من النقابة. أما دول أخرى، كفرنسا وبلجيكا ودول خليجية، فتطلب شهادة للتأكد من أنه لا إشكالية من ناحية الأداء»، كاشفاً عن أن «نحو 130 طبيباً من الجامعة الأميركية في بيروت تركوا لبنان بمعظمهم إلى الولايات المتحدة الأميركية، كما غادر من مستشفيات (الروم) و(رزق) نحو 30 في المائة من الأطباء». وإذ رجح أبو شرف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن يكون قد ترك لبنان أكثر من 1500 طبيب منذ عامين معظمهم من الأطباء المختصين ذوي الكفاءات العالية، نبه إلى أن هذا العدد قد يتضاعف أو يبلغ 3 أضعاف ما هو عليه اليوم في حال بقي الوضع على ما هو عليه، مضيفاً: «الدول التي تستقطب هؤلاء الأطباء تعرف كفاءتهم باعتبار أن معظمهم أنجزوا دراساتهم فيها، أو حتى عملوا فيها قبل سنوات».
ورأى أبو شرف أن «المشكلة الأساسية هي أن المريض لم يعد قادراً على الدفع، كما أن الطبيب لم يعد قادراً على الاستمرار بالقليل، من دون أن ننسى أن الدولة أيضاً لم تعد تدفع ما يتوجب عليها للقطاع، وأن أموال الأطباء أصلاً محتجزة في المصارف». وأضاف: «الأطباء باتوا يقومون بعمل شبه مجاني، وهم في المقابل يتعرضون لاعتداءات، كما يشتكون من غياب الدواء والمستلزمات الطبية والدواء». ورأى أبو شرف أن «الأطباء الذين غادروا إلى دول الخليج والعراق من السهل أن يعودوا إلى البلد في حال تحسنت الأوضاع. أما من غادروا إلى دول أوروبا وأميركا فهؤلاء عودتهم لن تكون سهلة، وسيكونون أقرب للهجرة الدائمة».
وحذر أبو شرف من أن القطاع في «خطر؛ خصوصاً بعد دخول أطباء من جنسيات أخرى على الخط»، مضيفاً: «إذا كان القانون يمنعهم من مزاولة المهنة؛ إلا إننا نتلقى شكاوى كثيرة عن مزاحمة أطباء سوريين أطباء لبنانيين في عدد من المناطق؛ حيث يكتفون مثلاً بتقاضي 20 ألف ليرة (دولار واحد) عن المعاينة الواحدة». وشدد على وجوب «دعم الأطباء وتشجيعهم على البقاء في لبنان، والتواصل مع المؤسسات الدولية لتأمين الدعم اللازم لهم».

1600 ممرض إلى الاغتراب
> لا شك في أن ما يسري على الأطباء؛ يسري على الممرضات والممرضين. ين عدد الممرضين والممارضات الذين هاجروا بـ1600 منذ 2019.
فهنا أيضاً؛ بحسب نقيبة الممرضين والممرضات في لبنان، الدكتورة ريما ساسين، «لا أعداد دقيقة لعدد الممرضين والممرضات الذين غادروا لبنان؛ إنما تقديرات»، مؤكدة أن «العدد لا شك فاق الألفين منذ عام 2019؛ وهم بمعظمهم من أصحاب الخبرات والكفاءات». وتقدر نقابة الممرضات والممرضوأوضحت ساسين، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أنهم في النقابة «بصدد تجميع المعلومات من المستشفيات لتحديد عدد الذين غادروا عملهم، وما اختصاصاتهم، وما ظروف عمل من تبقى من الممرضين والممرضات»، لافتة إلى أن «أبرز البلدان التي يغادر إليها هؤلاء هي الدول العربية المجاورة والعراق، وبلجيكا، وفرنسا، وكندا، والولايات المتحدة الأميركية»، مضيفة: «هم يغادرون إلى حيث يجدون فرص عمل تؤمن لهم معيشة لائقة، ولا شك في أنهم يتلقون كثيراً من العروض».
ونبهت ساسين إلى أن «وضع القطاع في خطر، مما يعني أن الوضع الصحي في لبنان ككل في خطر»، لافتة إلى أنه «لا يزال هناك ممرض أو ممرضة واحدة لكل 20 مريضاً، وهذا الوضع كان ليكون أسوأ لو لم يتراجع عدد المرضى الذين يدخلون المستشفيات بعد حصر الاستشفاء مؤخراً في الحالات الطارئة».
وأشارت ساسين إلى أنه «يجري العمل على بعض التحفيزات وتأمين الدعم للممرضات والممرضين الذين ما زالوا يعملون في لبنان، كتأمين بدل بنزين وإعطاء الأولوية لهم على المحطات كي يتمكنوا من الوصول إلى أعمالهم وعناية المرضى من دون تأخير»، لافتة إلى أنه و«لأول مرة نسعى أيضاً إلى تأمين مساعدات من الجمعيات والمنظمات الدولية لمساندة الممرضين والممرضات في هذه المرحلة الصعبة، خصوصاً أنه رغم تحديدنا الحد الأدنى للأجور في القطاع بمليونين و500 ألف ليرة؛ فإنه لا يزال هناك من يتقاضى مليوناً و500 ألف ليرة شهرياً».

مهندسون ومحامون يواجهون مصيراً واحداً
> باقي القطاعات الرئيسية كالهندسة والمحاماة وغيرهما، ليست أحسن حالاً، وإن كان بوطأة أخف؛ إذ تقول مصادر نقابة المهندسين إنه لا معلومات واضحة عن عدد المهندسين الذين تركوا البلد نهائياً بحسبان أن المهندسين في لبنان معروفون تاريخياً بأنهم دائمو التنقل ويعملون في الوقت عينه داخل وخارج البلد، وبالتالي يصعب تحديد من غادر منهم ولن يعود. وتشير المصادر لـ«الشرق الأوسط» إلى أن «ما يمكن الجزم به أن أعداد المهندسين الذين تركوا البلد مؤخراً أكبر من أي وقت مضى، فيما ينتظر كثيرون غيرهم فرصة خارج البلد للرحيل».
ويدرس المهندس المعماري طارق عباس وزوجته ألين ساسين مهندسة الديكور جدياً خيار الهجرة، وإن كانت حتى الساعة حظوظ البقاء تطغى على المغادرة ما دام لا تزال تتوافر أمامهما فرص العمل. ويقول عباس لـ«الشرق الأوسط» إنهما إذا قررا الهجرة، فسيكون ذلك لتأمين حاضر ومستقبل أفضل لأولادهما. ويضيف: «نحن نمتلك المال لشراء الدواء؛ لكنه غير متوفر... نستطيع تكبد تكلفة البنزين؛ لكنه أيضاً بالقطارة، كما أن وضع المدارس غير مطمئن على الإطلاق».
من جهتها، توضح ساسين أن «توافر فرص العمل لا يعني أن البديل المادي لا يزال كما كان عليه قبل انهيار سعر الصرف»، لافتة إلى أن «العروض التي يتلقاها المهندس اللبناني في كثير من الدول لم تعد مغرية»، مضيفة: «عدد لا بأس به من أصدقائي وزملائي ترك البلد. هناك عدد يبذل قصارى جهوده كي يرحل، وعدد لا يزال يفكر في ما إذا كان يجب أن يرحل أم يبقى، كحال عائلتنا».
ويشبه كثيراً وضع المهندسين وضع المحامين، بحيث توضح مصادر نقابة المحامين أن «المحاماة مهنة حرة، بحيث إن المحامي غير مقيد بوظيفة، وإن عدداً كبيراً من المحامين يعملون في لبنان وفي الوقت عينه بالخارج، مما يجعل من الصعب إحصاء عدد المهاجرين منهم»، لافتة في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إلى أن «من دفعوا الرسوم هذا العام، أي إنهم يعملون في لبنان ارتفع بعد أن كان 6900 محام العام الماضي إلى نحو 7300 هذا العام، إلا إن هذه الأرقام ليست مؤشراً على عدم هجرة أو مغادرة أعداد إضافية من المحامين مؤخراً».
وتضيف المصادر: «المحامون في النهاية جزء من هذا المجتمع؛ يتأثرون كما سواهم بالوضع، فإذا كان الوضع الاقتصادي جيداً؛ كان عملهم جيداً، علماً بأن جزءاً كبيراً مما يقومون به هو تأدية لخدمة عامة، وفي هذه المرحلة هم يقومون أكثر من أي وقت مضى بهذا الدور وبدور وطني بارز».
ويقول المحامي أنطوان نصر الله إن «قطاع المحاماة، كغيره من القطاعات، يواجه ظروفاً صعبة جداً، لكنه قد يكون بخلاف بقية القطاعات يئن بصمت».
وأوضح أنه «يصعب على المحامي العمل خارج بلده بسبب اختلاف القوانين والأنظمة؛ أضف أنه يصعب عليه أن يسجَّل في النقابات في دولة غير دولته. لذلك يمكن الحديث عن هجرة عدد كبير من المحامين اللبنانيين إلى كثير من الدول العربية، حيث يعملون في مكاتب محاماة؛ كما أن قسماً هاجر إلى فرنسا ولندن حيث يعملون استشاريين لشركات ومصارف». ويعدد نصر الله «أسباباً كثيرة تدفع بالمحامين للهجرة؛ أبرزها اليأس مما آلت إليه الأوضاع؛ إضراب المحامين الذي طال كثيراً، إضراب المساعدين القضائيين، إضراب الدوائر العقارية ودوائر الدولة، انهيار سعر الصرف، ارتفاع أسعار كتب القانون والمراجع على الإنترنت، تراجع عدد الدعاوى القضائية بسبب الإضرابات، عدم الثقة بالقضاء والبطء في التقاضي».



طارق متري لـ«الشرق الأوسط»: لا بديل عن الـ1701 وإنْ بصياغة جديدة

وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
TT

طارق متري لـ«الشرق الأوسط»: لا بديل عن الـ1701 وإنْ بصياغة جديدة

وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري

يشكّل قرار مجلس الأمن الدولي 1701 الركيزة الأساسية لأي حلّ دبلوماسي للحرب الإسرائيلية على لبنان، رغم التصدعات التي أصابته جراء الخروق المتكررة لمضامينه منذ إقراره في شهر أغسطس (آب) 2006. وعلى رغم أن الأحداث المتسارعة تجاوزته وسياسة التدمير التي تنفذها إسرائيل على كامل الأراضي اللبنانية جعلت من الصعب البناء عليه، فإن وزير الخارجية الأسبق طارق متري، تحدث عن «استحالة الاتفاق على قرار بديل عنه بفعل الانقسام الحاد داخل مجلس الأمن الدولي وامتلاك الولايات المتحدة الأميركية وروسيا حق النقض (الفيتو) لتعطيل أي قرار بديل». وشدد متري على أنه «لا بديل لهذا القرار وإن كان يحتاج إلى مقدمة جديدة وإعادة صياغة».

ثغرات تسهل الخرق

ثمة بنود ملتبسة في هذا القرار الدولي، تسببت بخرقه مراراً من إسرائيل و«حزب الله» على السواء؛ لكون كلّ منهما يفسّر هذه البنود بحسب رؤيته ومصلحته. ومتري هو أحد مهندسي الـ1701 عندما مثَّل لبنان وزيراً للخارجية بالوكالة في حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، وأشار إلى أن «كل قرارات مجلس الأمن يشوبها بعض الغموض، ومن يقرأ 1701 بتأنٍ يتبيّن أنه ينطوي على لهجة قوية، لكن منطوقه يحمل بعض التأويل». وقال متري في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «مشكلة القرار 1701 الأساسية والتي كانت سبباً وراء تفسيره من نواحٍٍ مختلفة، أنه يدعو إلى وقف الأعمال العدائية وليس وقف إطلاق النار، وكذلك شابه الغموض أو عدم الوضوح، خصوصاً في الفقرة (8) التي تتحدث عن ترتيبات أمنية في المنطقة الفاصلة ما بين مجرى نهر الليطاني والخطّ الأزرق وجعلها خالية من المسلحين»، مشيراً إلى أن «هذا القرار صدر تحت الفصل السادس، لكن الالتباس الأكبر الذي شابه عندما تطرق إلى مهمة القوات الدولية (يونيفيل)؛ إذ أطلق يدها باتخاذ الإجراءات الضرورية كافة لمنع أي تواجد عسكري أو ظهور مسلّح غير شرعي كما لو أنه جاء تحت الفصل السابع». ويتابع متري قوله: «لكن للأسف هذه القوات لم تقم بدورها، وبدلاً عن أن تكون قوّة مراقبة وتدخل، باتت هي نفسها تحت المراقبة» (في إشارة إلى تعقبها من قِبل مناصري «حزب الله» واعتراضها).

ظروف صدور القرار

فرضت تطورات حرب يوليو (تموز) 2006 إصدار هذا القرار تحت النار والمجازر التي ارتكبتها إسرائيل، ولم يخفِ الوزير متري أن «القرار 1701 لم يشبع درساً، وكان همّ كلّ الأطراف الاتفاق على ما يوقف الأعمال العدائية ولو كان ملتبساً». ويقول متري إن القرار «لم يكن ليصدر لو لم تتخذ حكومة لبنان برئاسة فؤاد السنيورة قراراً بإرسال 15 ألف جندي إلى الجنوب. لكن لأسباب متعددة لم يستطع لبنان أن يفي بوعده بإرسال هذا العدد من الجنود، أولاً لعدم توفر الإمكانات وانشغال الجيش بكثير من المهمات بينها حفظ الأمن الداخلي».

صحيح أن القرار الدولي كان عرضة للخرق الدائم وهذا كان موضع تقييم دائم من مجلس الأمن الدولي الذي لطالما حذّر من تجاوزه، لكنه بقي إطاراً ضابطاً للوضع الأمني على طول الخطّ الأزرق الفاصل ما بين لبنان وفلسطين المحتلّة.

جسر دمَّرته حرب 2006 شمال بيروت (غيتي)

وذكّر متري بأن «الفترة التي فصلت إقرار القانون ووقف الأعمال العدائية في عام 2006، وبين 7 أكتوبر (2023) لم يبادر (حزب الله) إلى الاصطدام بأحد، ولم يكن سلاحه ظاهراً كما غابت نشاطاته العسكرية، واعتبر نفسه مطبّقاً للقرار 1701 على النحو المطلوب، في حين أن إسرائيل خرقت السيادة اللبنانية جوّاً آلاف المرات، حتى أنها امتنعت عن إعطاء لبنان خرائط الألغام؛ وهو ما تسبب بسقوط عشرات الضحايا من المدنيين اللبنانيين». كذلك أشار متري إلى أن «دبلوماسيين غربيين تحدثوا عما يشبه الاتفاق الضمني بأن كلّ ما هو غير ظاهر من السلاح جنوبي الليطاني ينسجم القرار مع 1701، وأن (حزب الله) لم يقم بعمليات تخرق الخطّ الأزرق، بل كانت هناك عمليات في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا».

هل ما زال القرار قابلاً للحياة؟

يتردد طارق متري في الإجابة عن مستقبل هذا القرار؛ لأن «النوايا الفعلية لحكومة بنيامين نتنياهو غير واضحة». وسرعان ما يلفت إلى وجود تناقضات كبيرة في السياسة الدولية اليوم، ويقول: «الأميركيون يحذّرون نتنياهو من الغزو البرّي، لكنّ الأخير يزعم أنه يريد القيام بعمليات محدودة لضرب أهداف لـ(حزب الله)، وهذا غير مضمون»، مذكراً بأن «جناح اليمين المتطرف داخل الحكومة الإسرائيلية يدعو لاحتلال جزء من جنوب لبنان، لكنّ هؤلاء قلّة غير مؤثرة؛ لأن القرار في جنوب لبنان ونوعيّة الغزو البرّي تتخذه المؤسسة العسكرية»، متحدثاً عن «وجود إشارات متضاربة، إذ أنه عندما قدّم الأميركيون والفرنسيون ورقتهم لوقف النار، جاء التصعيد الإسرائيلي سريعاً في لبنان». وأضاف: «قبل الانتخابات الرئاسية يفضل الأميركيون ألا تندلع الحرب، وفي الوقت نفسه يغضون النظر عمّا تلحقه إسرائيل من أذى بحق المدنيين اللبنانيين».

سيناريو 2006

وتنطلق مخاوف وزير الخارجية السابق التجارب الإسرائيلية السابقة، قائلاً: «في عام 2006 زعمت إسرائيل أن الغاية من عملياتها في لبنان ضرب (حزب الله)، لكنها دمرت لبنان، واليوم تطبّق السيناريو نفسه، إن كانت لا تزال تحيّد مطار بيروت الدولي عن الاستهداف وتتجنّب تدمير الجسور، والفرنسيون متفهمون لذلك».

آثار القصف الإسرائيلي على بيروت خلال الحرب مع «حزب الله» عام 2006 (رويترز)

وشدد في الوقت نفسه على «مسؤولية لبنان بفتح نافذة دبلوماسية؛ إذ ليس لديه خيار سوى تطبيق القرار 1701 والاستعداد لإرسال الجيش إلى الجنوب». وتابع: «إسرائيل تعرف أن الحكومة اللبنانية ضعيفة وإذا حصلت على التزام لبناني بتطبيق القرار ستطالب بالأكثر».

وفي حين يسود اعتقاد بأن القرار 1701 لم يعد الوثيقة الدولية الصالحة لإنهاء الحرب القائمة على لبنان اليوم، استبعد طارق متري إصدار مجلس الأمن الدولي قراراً بديلاً عنه. ورأى أنه «يمكن لمجلس الأمن الدولي أن يجدد المطالبة بتنفيذه مع إعادة صياغته ووضع مقدّمة جديدة له». وتحدث عن «استحالة صدور قرار جديد لأن مجلس الأمن الدولي مشلول ولا يمكن إصدار الاتفاق على بديل، لأن الفيتو الأميركي والروسي موجودون ولا إمكانية لقرار آخر». وأكد أن «التقدم الإسرائيلي ميدانياً سيقفل الباب أمام الحلّ الدبلوماسي، أما إذا تمكن (حزب الله) من الصمود أمام التدخل الإسرائيلي فهذا قد يفتح باباً أمام الحلول السياسية».