«نزيف حاد» للأدمغة والكفاءات اللبنانية

زحمة يومية للمغادرين في مطار بيروت (غيتي)
زحمة يومية للمغادرين في مطار بيروت (غيتي)
TT

«نزيف حاد» للأدمغة والكفاءات اللبنانية

زحمة يومية للمغادرين في مطار بيروت (غيتي)
زحمة يومية للمغادرين في مطار بيروت (غيتي)

قد تبدو كل الخسائر التي يتكبدها لبنان منذ نحو عامين نتيجة انفجار كل الأزمات في وجه أبنائه دفعة واحدة، قابلة للتعويض؛ أقله في المدى المتوسط إن لم نقل في المدى القريب، في حال وُضع البلد على سكة الحل خلال الأعوام المقبلة. كل الخسائر يمكن تعويضها... لكن النزف الحاد في الكفاءات والأدمغة سيترك تداعيات مدوية في المجتمع اللبناني؛ مما يهدد لبنان بمستقبل قاتم.
موجة الهجرة الجديدة التي يشهدها البلد منذ عام 2019 والتي انطلقت مع تداعي القطاع المصرفي واحتجاز أموال المودعين، كانت حتى منتصف عام 2020 مفهومة ومتوقعة، إلى حد ما، إلا إنها ومع انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس (آب) 2020 الذي أدى إلى تدمير نصف العاصمة بيروت وحصد أكثر من 200 ضحية وآلاف الجرحى، تحولت هذه الموجة إلى «تسونامي» جارف؛ ما لبث أن هدأ حتى عاد ليتجدد مع الوصول مؤخراً إلى مرحلة الارتطام حيث بات اللبنانيون يفتقدون كل مقومات الحياة من خبز وماء وبنزين ومازوت وغاز وحليب أطفال ودواء…
الجحيم الذي يعاني اللبنانيون منه، لم يترك لأهل هذا البلد خياراً إلا الفرار... وتبين بعد التدقيق أن العدد الأكبر من «الهاربين» هو من النخبة؛ أي من الكفاءات والأدمغة التي لم تعد تجد في لبنان أرضاً خصبة لطموحاتها وأحلامها. ويصيب نزف الكفاءات الحاصل بشكل أساسي القطاع الطبي، مع تسجيل هجرة مئات الأطباء والممرضات والممرضين الاختصاصيين في العامين الماضيين. وتجمع كل النقابات على عدم امتلاكها أي عدد محدد ودقيق للمهاجرين من صفوفها، وتعتمد بشكل أساسي على تقديرات وترجيحات.
إيلي غصن (22 عاماً) ابن بلدة عندقت الشمالية الحدودية، الذي غادر قبل نحو شهر لإكمال دراسته الجامعية في فرنسا بعد حصوله على منحة لتميزه في مجال الهندسة، لا يفكر في العودة للاستقرار في بلده. رغم مضي أسابيع معدودة على تركه لبنان؛ فإنه لاحظ الفرق الشاسع في نمط الحياة والتقديمات والخدمات التي توفرها الدولة هناك مقابل مقومات الحياة الأساسية المفقودة في بلده الأم.
ويقول غصن لـ«الشرق الأوسط»: «اتخذت قرار الهجرة منذ فترة، حتى قبل تطور الأوضاع بشكل دراماتيكي في لبنان. ففرص العمل شبه مفقودة مقابل وجود عدد كبير من خريجي الهندسة. أضف أنه في مجال الميكانيك الذي تخصصت فيه لا مجال للتطور؛ نظراً لأن قطاع الصناعة في لبنان صغير ومحصور جداً مقارنة بالدول المتطورة».
ويتطلع الشاب العشريني الطموح إلى الحصول على الجنسية الفرنسية قريباً نظراً للتقديمات والتسهيلات التي تتيحها، وهو يرى آفاقاً كثيرة في ربوع فرنسا «انطلاقاً مما تقدمه الجامعات لجهة عدم حصر هذه التقديمات في التعليم، وتركيزها كذلك على تطوير الإنسان نفسياً وجسدياً واجتماعياً، وهو ما نفتقده في معظم الجامعات بلبنان».
أما نهى أنطون؛ التي اختارت أن تكون ربة عائلة كبيرة نسبياً (4 أولاد) بوصفها تحب أن تكون محاطة بالأطفال والأحفاد، فحرمت بعد سنوات طويلة من التربية والسهر والتعب هذه المتعة. 3 من أولادها هاجروا في السنوات القليلة الماضية؛ آخرهم «عزيز» الأصغر العام الماضي؛ وهو مهندس كومبيوتر هاجر للعمل والعيش في أمستردام بعد نجاحات كثيرة في أكثر من مؤسسة لبنانية. وتقول نهى لـ«الشرق الأوسط»: «رحلوا الواحد تلو الآخر، ولم يبقَ إلا ابني الكبير الذي أخشى كثيراً أن يكون مصيره كمصير إخوته؛ الهجرة». وتضيف: «لا شك في أننا لا نستطيع أن نقول لهم ابقوا هنا، فلا وجود لمقومات البقاء والصمود... أما أنا ووالدهم فلن نترك منزلنا رغم كل الصعوبات، وسيبقى نقطة التقاء لهم في الأعياد والمناسبات».

«سرقة ممنهجة» للمتفوقين والمتميزين
لعل الأخطر من كل ما سبق هو محاولة مؤسسات أجنبية الاستفادة من المأساة اللبنانية لاصطياد المتفوقين والمتميزين في كل القطاعات. وهو ما بدا جلياً مع توجه أكثر من مؤسسة لإقناع الأطباء والممرضين والممرضات بترك البلد، وتقديم عروض باتوا يجدونها مغرية نتيجة الانهيار الحاد في سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي.
ويبدو أن هذا التوجه ليس حكراً على القطاع التمريضي؛ إذ يذهب رئيس «جامعة البلمند» الدكتور إلياس وراق إلى أبعد من ذلك، متحدثاً لـ«الشرق الأوسط» عن «سرقة ممنهجة للتلامذة المتفوقين والأساتذة المتميزين» من قبل «جامعات ومراكز علمية في الخارج نتعاون معها منذ سنوات، وهي على اطلاع على الداتا الخاصة بنا نتيجة هذا التعاون». وأشار وراق إلى أن «المؤسف أن العروض التي كانت تقدم لهؤلاء قبل سنوات وكانوا يرفضونها، لم تعد متوفرة، وهم يقدمون لهم عروضاً تصل المبالغ فيها لنصف ما كان يعرض سابقاً... أي إنهم يسرقون الأدمغة والكفاءات اللبنانية بالرخيص»، لافتاً إلى أن «النزف الحاصل كبير، وأنا أطلع بشكل يومي؛ لا أسبوعي، على أعداد إضافية من التلامذة والأساتذة المتميزين الذين يغادرون البلد... حتى إن آخر الأرقام التي بحوزتنا تفيد بأن 75 في المائة من طلاب لبنان ينتظرون الفرصة للهجرة، إضافة إلى أن ما بين 10 و15 في المائة من الأساتذة تركوا البلد؛ بينهم نحو 60 في المائة من المتميزين». وأضاف: «ما نحن بصدده مجزرة حقيقية... كل شيء يمكن تعويضه إلا نزف الأدمغة... يبدو واضحاً أن هناك نية وإرادة لتدمير ممنهج للبلد، ولم يعد يجوز أن نسكت عن هذا الواقع الخطير».
داني موسى (33 عاماً) اللبناني من عكار شمال البلاد، الرئيس التنفيذي لـ3 شركات تعنى بتكنولوجيا البرمجيات، والذي تمكن في وقت قياسي من الانتقال من تطوير المواقع الإلكترونية في لبنان، وقد أنشأ وطور أهم وأبرز المواقع الحالية، إلى العمل بالبرمجيات، وشركاته حالياً التي تعمل من دبي تغطي عدداً كبيراً من الدول، هو أحد الشبان اللبنانيين الرواد في مجال التكنولوجيا.
ويقول موسى لـ«الشرق الأوسط» إنه في عام 2019 قرر ترك لبنان بعدما استشرف مستقبلاً قاتماً فيه، وإنه أقنع فريق عمله المؤلف من 28 شخصاً بترك البلد أيضاً، موضحاً أنه لم يبق إلا 4 منهم يعملون من بيروت، «وأنا بصدد إقناعهم بالمغادرة؛ لأن البنى التحتية لم تعد مناسبة على الإطلاق لإنجاز أي عمل، خصوصاً نتيجة وضع الكهرباء والإنترنت».
وأسف موسى «كيف أن الدولة في لبنان لا تقوم بأي مبادرة للتمسك بالكفاءات والشركات، كشركاتنا مثلاً التي تتعامل حصراً مع الخارج، وتؤمن دخول (الفريش دولار) إلى البلد الذي هو في أمسّ الحاجة إليه».
وأضاف: «بعد أن يعيش اللبناني في دول أخرى، خصوصاً بعد أن يبدأ العمل فيها ويكتشف كيف أن ما يعدّه مَن هم على رأس السلطة في لبنان إنجازاً، كتأمين الكهرباء والإنترنت والمياه؛ إنما هي خدمات مؤمنة بشكل تلقائي لمواطني هذه الدول والمقيمين فيها، وهم لم يفكروا يوماً كيف هي الحياة من دونها، يحسم أمره بأنه لا عودة إلى لبنان للعيش فيه في المدى المنظور، ولا في البعيد، ولا إذا بقيت الأوضاع على ما هي عليه، ولا إذا تحسنت، علماً بأنني ممن يستبعدون تحسنها قريباً». ويشير موسى إلى أن القسم الأكبر من زملائه في المهنة «تركوا البلد، ومن تبقى منهم يحزم حقائبه للرحيل».

موجات مرتقبة
يشير أستاذ السياسات والتخطيط في «الجامعة الأميركية في بيروت» والمشرف على «مرصد الأزمة» الدكتور ناصر ياسين، إلى أن «لبنان اعتاد تاريخياً تصدير الأدمغة ورأس المال البشري، ولكن طبعاً ليس بالأعداد الحالية»، موضحاً أنه «في الأسابيع الماضية لحظنا ارتفاعاً كبيراً في نسبة الناس التي لديها نية للهجرة بعد تردي الأحوال المعيشية وجوانب الحياة من ناحية الحصول على الخدمات والمواد الأساسية والفوضى الأمنية». ويتحدث ياسين لـ«الشرق الأوسط» عن «3 قطاعات مهمة في لبنان بدأت تخسر وستخسر أكثر قريباً مواردها البشرية: أولاً القطاع الصحي؛ الذي يشهد تأزماً بنيوياً وعدم قدرة على الاستمرار بشكله وطريقة عمله المعتادة. ثانياً؛ القطاع التعليمي الذي يعيش تداعيات كبيرة للأزمة، بحيث إنه في (الجامعة الأميركية) مثلاً هناك نحو 200 دكتور بين (الجامعة – الحرم) والمستشفى غادروا أو أخذوا إجازات مفتوحة، ونتوقع أن ترتفع هذه الأعداد مع افتتاح العام الدراسي الجديد، بحيث إن كثيراً من المؤسسات التربوية ستضطر للإقفال أو تشهد انكماشاً كبيراً.
أما القطاع الثالث؛ فهو قطاع المصارف بعد إقفال عدد كبير من الفروع وتسريح كثير من الموظفين... هذا القطاع أصبح متعثراً ويحتاج لسنوات ليتمكن من النهوض مجدداً». ويتوقع ياسين أن تكون هناك موجات جديدة من الهجرة للعاملين في الصناعات الإبداعية كالإعلام والطباعة والتصميم.

260 ألف جواز سفر في 8 أشهر
سجل الأمن العام اللبناني ارتفاعاً كبيراً في إصدارات جوازات السفر خلال الأشهر الثمانية الأولى من العام الحالي؛ إذ تفيد الإحصاءات بأن عدد جوازات السفر التي صدرت منذ مطلع عام 2021 وحتى نهاية شهر أغسطس (آب) الحالي، نحو 260 ألف جواز سفر، مقارنة مع نحو 142 ألف جواز سفر في الفترة نفسها من عام 2020؛ أي بزيادة نسبتها 82 في المائة.
وحسب الإحصاءات نفسها؛ فإن الأشهر الثمانية الأولى من السنة الحالية كان المعدل الأسبوعي لطلبات الاستحصال على جواز سفر يتجاوز 7 آلاف طلب مقارنة مع 4 آلاف طلب في الفترة نفسها من 2020. وأشارت إلى أن فئات الجوازات المصدرة هي من الفئات الأطول زمناً؛ أي فئة السنوات العشر، والسنوات الخمس، على حساب تراجع الفئات الأقل مدى زمنياً، مثل فئة السنة الواحدة وفئة السنوات الثلاث، مما يعني أن معظم من يطلبون جوازات من هذا النوع هاجروا أو يفكرون في الهجرة.

هجرة 1500 طبيب في عامين
> يشير نقيب الأطباء في لبنان، الدكتور شرف أبو شرف، إلى أنه «لا أعداد دقيقة للأطباء الذين هاجروا؛ لأن كثيرين يتركون البلد من دون علم وخبر، خصوصاً أن بعض البلدان لا تطلب شهادات من النقابة. أما دول أخرى، كفرنسا وبلجيكا ودول خليجية، فتطلب شهادة للتأكد من أنه لا إشكالية من ناحية الأداء»، كاشفاً عن أن «نحو 130 طبيباً من الجامعة الأميركية في بيروت تركوا لبنان بمعظمهم إلى الولايات المتحدة الأميركية، كما غادر من مستشفيات (الروم) و(رزق) نحو 30 في المائة من الأطباء». وإذ رجح أبو شرف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن يكون قد ترك لبنان أكثر من 1500 طبيب منذ عامين معظمهم من الأطباء المختصين ذوي الكفاءات العالية، نبه إلى أن هذا العدد قد يتضاعف أو يبلغ 3 أضعاف ما هو عليه اليوم في حال بقي الوضع على ما هو عليه، مضيفاً: «الدول التي تستقطب هؤلاء الأطباء تعرف كفاءتهم باعتبار أن معظمهم أنجزوا دراساتهم فيها، أو حتى عملوا فيها قبل سنوات».
ورأى أبو شرف أن «المشكلة الأساسية هي أن المريض لم يعد قادراً على الدفع، كما أن الطبيب لم يعد قادراً على الاستمرار بالقليل، من دون أن ننسى أن الدولة أيضاً لم تعد تدفع ما يتوجب عليها للقطاع، وأن أموال الأطباء أصلاً محتجزة في المصارف». وأضاف: «الأطباء باتوا يقومون بعمل شبه مجاني، وهم في المقابل يتعرضون لاعتداءات، كما يشتكون من غياب الدواء والمستلزمات الطبية والدواء». ورأى أبو شرف أن «الأطباء الذين غادروا إلى دول الخليج والعراق من السهل أن يعودوا إلى البلد في حال تحسنت الأوضاع. أما من غادروا إلى دول أوروبا وأميركا فهؤلاء عودتهم لن تكون سهلة، وسيكونون أقرب للهجرة الدائمة».
وحذر أبو شرف من أن القطاع في «خطر؛ خصوصاً بعد دخول أطباء من جنسيات أخرى على الخط»، مضيفاً: «إذا كان القانون يمنعهم من مزاولة المهنة؛ إلا إننا نتلقى شكاوى كثيرة عن مزاحمة أطباء سوريين أطباء لبنانيين في عدد من المناطق؛ حيث يكتفون مثلاً بتقاضي 20 ألف ليرة (دولار واحد) عن المعاينة الواحدة». وشدد على وجوب «دعم الأطباء وتشجيعهم على البقاء في لبنان، والتواصل مع المؤسسات الدولية لتأمين الدعم اللازم لهم».

1600 ممرض إلى الاغتراب
> لا شك في أن ما يسري على الأطباء؛ يسري على الممرضات والممرضين. ين عدد الممرضين والممارضات الذين هاجروا بـ1600 منذ 2019.
فهنا أيضاً؛ بحسب نقيبة الممرضين والممرضات في لبنان، الدكتورة ريما ساسين، «لا أعداد دقيقة لعدد الممرضين والممرضات الذين غادروا لبنان؛ إنما تقديرات»، مؤكدة أن «العدد لا شك فاق الألفين منذ عام 2019؛ وهم بمعظمهم من أصحاب الخبرات والكفاءات». وتقدر نقابة الممرضات والممرضوأوضحت ساسين، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أنهم في النقابة «بصدد تجميع المعلومات من المستشفيات لتحديد عدد الذين غادروا عملهم، وما اختصاصاتهم، وما ظروف عمل من تبقى من الممرضين والممرضات»، لافتة إلى أن «أبرز البلدان التي يغادر إليها هؤلاء هي الدول العربية المجاورة والعراق، وبلجيكا، وفرنسا، وكندا، والولايات المتحدة الأميركية»، مضيفة: «هم يغادرون إلى حيث يجدون فرص عمل تؤمن لهم معيشة لائقة، ولا شك في أنهم يتلقون كثيراً من العروض».
ونبهت ساسين إلى أن «وضع القطاع في خطر، مما يعني أن الوضع الصحي في لبنان ككل في خطر»، لافتة إلى أنه «لا يزال هناك ممرض أو ممرضة واحدة لكل 20 مريضاً، وهذا الوضع كان ليكون أسوأ لو لم يتراجع عدد المرضى الذين يدخلون المستشفيات بعد حصر الاستشفاء مؤخراً في الحالات الطارئة».
وأشارت ساسين إلى أنه «يجري العمل على بعض التحفيزات وتأمين الدعم للممرضات والممرضين الذين ما زالوا يعملون في لبنان، كتأمين بدل بنزين وإعطاء الأولوية لهم على المحطات كي يتمكنوا من الوصول إلى أعمالهم وعناية المرضى من دون تأخير»، لافتة إلى أنه و«لأول مرة نسعى أيضاً إلى تأمين مساعدات من الجمعيات والمنظمات الدولية لمساندة الممرضين والممرضات في هذه المرحلة الصعبة، خصوصاً أنه رغم تحديدنا الحد الأدنى للأجور في القطاع بمليونين و500 ألف ليرة؛ فإنه لا يزال هناك من يتقاضى مليوناً و500 ألف ليرة شهرياً».

مهندسون ومحامون يواجهون مصيراً واحداً
> باقي القطاعات الرئيسية كالهندسة والمحاماة وغيرهما، ليست أحسن حالاً، وإن كان بوطأة أخف؛ إذ تقول مصادر نقابة المهندسين إنه لا معلومات واضحة عن عدد المهندسين الذين تركوا البلد نهائياً بحسبان أن المهندسين في لبنان معروفون تاريخياً بأنهم دائمو التنقل ويعملون في الوقت عينه داخل وخارج البلد، وبالتالي يصعب تحديد من غادر منهم ولن يعود. وتشير المصادر لـ«الشرق الأوسط» إلى أن «ما يمكن الجزم به أن أعداد المهندسين الذين تركوا البلد مؤخراً أكبر من أي وقت مضى، فيما ينتظر كثيرون غيرهم فرصة خارج البلد للرحيل».
ويدرس المهندس المعماري طارق عباس وزوجته ألين ساسين مهندسة الديكور جدياً خيار الهجرة، وإن كانت حتى الساعة حظوظ البقاء تطغى على المغادرة ما دام لا تزال تتوافر أمامهما فرص العمل. ويقول عباس لـ«الشرق الأوسط» إنهما إذا قررا الهجرة، فسيكون ذلك لتأمين حاضر ومستقبل أفضل لأولادهما. ويضيف: «نحن نمتلك المال لشراء الدواء؛ لكنه غير متوفر... نستطيع تكبد تكلفة البنزين؛ لكنه أيضاً بالقطارة، كما أن وضع المدارس غير مطمئن على الإطلاق».
من جهتها، توضح ساسين أن «توافر فرص العمل لا يعني أن البديل المادي لا يزال كما كان عليه قبل انهيار سعر الصرف»، لافتة إلى أن «العروض التي يتلقاها المهندس اللبناني في كثير من الدول لم تعد مغرية»، مضيفة: «عدد لا بأس به من أصدقائي وزملائي ترك البلد. هناك عدد يبذل قصارى جهوده كي يرحل، وعدد لا يزال يفكر في ما إذا كان يجب أن يرحل أم يبقى، كحال عائلتنا».
ويشبه كثيراً وضع المهندسين وضع المحامين، بحيث توضح مصادر نقابة المحامين أن «المحاماة مهنة حرة، بحيث إن المحامي غير مقيد بوظيفة، وإن عدداً كبيراً من المحامين يعملون في لبنان وفي الوقت عينه بالخارج، مما يجعل من الصعب إحصاء عدد المهاجرين منهم»، لافتة في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إلى أن «من دفعوا الرسوم هذا العام، أي إنهم يعملون في لبنان ارتفع بعد أن كان 6900 محام العام الماضي إلى نحو 7300 هذا العام، إلا إن هذه الأرقام ليست مؤشراً على عدم هجرة أو مغادرة أعداد إضافية من المحامين مؤخراً».
وتضيف المصادر: «المحامون في النهاية جزء من هذا المجتمع؛ يتأثرون كما سواهم بالوضع، فإذا كان الوضع الاقتصادي جيداً؛ كان عملهم جيداً، علماً بأن جزءاً كبيراً مما يقومون به هو تأدية لخدمة عامة، وفي هذه المرحلة هم يقومون أكثر من أي وقت مضى بهذا الدور وبدور وطني بارز».
ويقول المحامي أنطوان نصر الله إن «قطاع المحاماة، كغيره من القطاعات، يواجه ظروفاً صعبة جداً، لكنه قد يكون بخلاف بقية القطاعات يئن بصمت».
وأوضح أنه «يصعب على المحامي العمل خارج بلده بسبب اختلاف القوانين والأنظمة؛ أضف أنه يصعب عليه أن يسجَّل في النقابات في دولة غير دولته. لذلك يمكن الحديث عن هجرة عدد كبير من المحامين اللبنانيين إلى كثير من الدول العربية، حيث يعملون في مكاتب محاماة؛ كما أن قسماً هاجر إلى فرنسا ولندن حيث يعملون استشاريين لشركات ومصارف». ويعدد نصر الله «أسباباً كثيرة تدفع بالمحامين للهجرة؛ أبرزها اليأس مما آلت إليه الأوضاع؛ إضراب المحامين الذي طال كثيراً، إضراب المساعدين القضائيين، إضراب الدوائر العقارية ودوائر الدولة، انهيار سعر الصرف، ارتفاع أسعار كتب القانون والمراجع على الإنترنت، تراجع عدد الدعاوى القضائية بسبب الإضرابات، عدم الثقة بالقضاء والبطء في التقاضي».



ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
TT

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)

عندما بدأت عملية «طوفان الأقصى» ونشوب الحرب في غزة، كانت إيران تواجه تداعيات الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة إثر وفاة الشابة مهسا أميني، التي جعلت خريف 2022 الأكثر دموية في الداخل الإيراني.

اندلعت الحرب في قطاع غزة، في لحظة محورية بالنسبة لمؤسسة المرشد الإيراني؛ حيث زادت الضغوط الدولية عليه بسبب قمع الاحتجاجات الداخلية، وإرسال الطائرات المسيّرة إلى روسيا، مع وصول المفاوضات النووية إلى طريق مسدود.

ومنذ الموقف الرسمي الأول، رأت طهران أن هجوم حركة «حماس» هو «رد فعل طبيعي وحركة عفوية على السياسات الحربية والاستفزازية والإشعال المتعمّد للصراعات من قبل رئيس الوزراء المتطرف والمغامر لإسرائيل».

دأب المسؤولون الإيرانيون على نفي أي دور في اتخاذ قرار عملية «طوفان الأقصى»، لكن الحراك الدبلوماسي والسياسي أوحى بأن أركان الدولة، بما في ذلك الجهاز الدبلوماسي، كان على أهبة الاستعداد للتطور الكبير الذي يهز المنطقة.

بعد أقل من أسبوع على هجوم «طوفان الأقصى» بدأ وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان، أول جولاته الخمس على دول المنطقة قبل وفاته في 19 مايو (أيار)؛ بهدف عقد مشاورات مع مسؤولي دول الجوار ولقاءات تنسيقية قادة جماعات «محور المقاومة» وتوجيه رسائل إقليمية، وتوجه إلى العراق وواصل زيارته إلى دمشق، ومنها إلى بيروت، وانتهى المطاف في الدوحة.

وحينها وجهت إيران رسالة لإسرائيل، بأنها قد تواجه عدة جبهات إذا لم تتوقف عملياتها العسكرية في غزة.

ودفعت طهران باتجاه تعزيز صورة الجماعات المسلحة في المنطقة، والعمل على إضفاء الشرعية على دورها في دعم تلك الجماعات، مستغلة الأوضاع السياسية والاضطرابات الإقليمية.

اجتماع ثلاثي بين عبداللهيان وزياد النخالة أمين عام «الجهاد الإسلامي» وصالح العاروري رئيس مكتب حركة «حماس» في بيروت مطلع سبتمبر 2023 (الخارجية الإيرانية)

وشكل هذا الموقف المحطة الأولى لإيران. وترى طهران أنها نقلت جماعات «محور المقاومة» من نطاق محصور إلى نطاق «عالمي»، أو ما يسميه الدبلوماسيون الإيرانيون من «عالم المقاومة» إلى «المقاومة العالمية».

بذلك، انتقلت إيران، التي حاولت الحفاظ على مرحلة التهدئة مع جيرانها الإقليميين، إلى وضع هجومي فيما يتعلق بالجماعات المرتبطة بها، وهو ما يراه البعض انعكاساً لاستراتيجيتها على توسيع نفوذها ودورها في المنطقة.

على المستوى الرسمي، بعثت إيران برسالة للأوساط الدولية بأن تلك الجماعات مستقلة، وتملك قرارها بنفسها، وتصنع أسلحتها، لكن عدة مسؤولين وقادة عسكريين إيرانيين أشاروا في تصريحاتهم إلى دور الجنرال قاسم سليماني وقوات الوحدة الخارجية في «الحرس الثوري» بتسليح تلك الجماعات وتزويدها بتقنيات صناعة الأسلحة.

أما ثاني محطة لإيران بعد «طوفان الأقصى»، فقد بدأت بعد شهر من اندلاع الحرب في غزة؛ حيث دعا المرشد الإيراني علي خامنئي إلى ما وصفه بـ«قطع الشرايين الاقتصادية» لإسرائيل، خصوصاً ممرات النفط والطاقة. ومنها دخلت الجماعات المرتبطة بطهران، وجماعة «الحوثي» تحديداً على خط الأزمة، وشنّت هجمات على سفن تجارية على مدى أشهر، أثرت على حركة الملاحة في البحر الأحمر.

كما باشرت الميليشيات والفصائل العراقية الموالية لإيران، هجمات بالطائرات المسيّرة على إسرائيل والقواعد الأميركية على حد سواء.

وبدأ الجيش الأميركي رده بعدما تعرضت له قاعدة في الحدود السورية بالرد على هجمات طالت قواته، مستهدفاً مواقع للفصائل المسلحة.

على المستوى السياسي، أصرت طهران على وضع شروط الجماعات الحليفة معها أولاً لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ومنها أبدت معارضتها لأي تسويات دولية، خصوصاً إحياء مقترح «حل الدولتين». وفي ديسمبر (كانون الأول)، قال وزير الخارجية الإيراني إن رفض «حل الدولتين» نقطة مشتركة بين إيران وإسرائيل.

المحطة الثالثة: بموازاتها باشرت إسرائيل بشن هجمات هادفة ضد القوات الإيرانية في سوريا، واستهدفت رضي موسوي مسؤول إمدادات «الحرس الثوري» في سوريا في ديسمبر، وبعد شهر، أعلن «الحرس الثوري» مقتل مسؤول استخباراته هناك، حجت الله أميدوار، لكن أقوى الضربات جاءت في مطلع أبريل (نيسان) عندما استهدفت غارة جوية إسرائيلية اجتماعاً لقادة «الحرس» في مقر القنصلية الإيرانية، وقتلت أرفع مسؤول عسكري إيراني في سوريا ولبنان، الجنرال محمد رضا زاهدي.

المرشد الإيراني علي خامنئي يؤم صلاة الجنازة على جثامين زاهدي وجنوده في حسينية مكتبه 4 أبريل 2024 (أ.ف.ب - موقع المرشد)

أما المحطة الإيرانية الرابعة، فقد وصلت إيران فيها إلى حافة الحرب مع إسرائيل، عندما ردت على قصف قنصليتها، بشن أول هجوم مباشر من أراضيها على الأراضي الإسرائيلية بمئات الصواريخ والمسيّرات.

ورغم تأكيد الجانب الإسرائيلي على صد الهجوم الإيراني، فقد وجهت ضربة محدودة لإيران باستهداف منظومة رادار مطار عسكري في مدينة أصفهان، قرب منشأة نووية حساسة.

وزادت المواجهة من احتمال تغيير مسار البرنامج النووي الإيراني، مع تكاثر الحديث في طهران عن ضرورة التوصل لأسلحة رادعة، وأيضاً التهديدات الإسرائيلية بشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية.

امرأة غير محجبة تمر أمام لافتة دعائية للصواريخ الإيرانية في ساحة «ولي عصر» وسط طهران 15 أبريل الماضي (رويترز)

المحطة الإيرانية الخامسة، جاءت بعد مقتل الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، في حادث تحطم مروحية قرب الحدود الأذربيجانية. وسارعت السلطات الإيرانية لنفي نظرية المؤامرة، مستبعدة بذلك أي احتمالات لتعرض أرفع مسؤول تنفيذي في البلاد لضربة إسرائيلية. وأصدرت هيئة الأركان بعد نحو 3 أشهر على مقتل رئيسي، تأكيداً بأن مروحيته سقطت نتيجة ظروف مناخية، رغم أنها لم تُجِب عن كل الأسئلة.

عبداللهيان خلال اللقاء الذي جمعه بنصر الله في ضاحية بيروت الجنوبية فبراير الماضي (إعلام «حزب الله»)

وفي هذه المرحلة، توسعت الحملة الإيرانية، مع دخول الموقف السياسي الإيراني مرحلة السبات فيما يخص تطورات الحرب في غزة، نظراً لانشغال السلطات بالانتخابات الرئاسية، والسعي لتشكيل حكومة جديدة.

وخلال حملة الانتخابات الرئاسية، تجنب المرشحون للانتخابات إثارة القضايا المتعلقة بحرب غزة والدعم الإيراني. على الرغم من الانتقادات الداخلية لتأجيل القضايا الإيرانية الملحة مثل رفع العقوبات وتعطل المسار الدبلوماسي لإحياء الاتفاق النووي.

وكان لافتاً أن تصريحات المرشحين بمختلف توجهاتهم لم تذهب أبعد من الإشادة بالبرنامج الصاروخي، وتوجيه الضربة لإسرائيل، والتعهد بتعزيز معادلات الردع.

المحطة السادسة: بمراسم تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في 30 يوليو (تموز)؛ إذ شهدت طهران أكبر تحول في حرب غزة، ألا وهو اغتيال رئيس حركة «حماس» إسماعيل هنية، في مقر تابع لـ«فيلق القدس» في شمال طهران.

هنية ونائب الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني ورئيس حركة «الجهاد الإسلامي» والمتحدث باسم الحوثيين في مراسم القسم الدستوري للرئيس الإيراني بطهران 30 يوليو الماضي (رويترز)

وتعهد المرشد الإيراني علي خامنئي حينها بالرد على «انتهاك السيادة الإيرانية» واغتيال «ضيف إيران»، وتنوعت نبرة ومفردات التهديد بين مسؤولين سياسيين وقادة عسكريين. وشدد المسؤولون الإيرانيون على حتمية الرد مع تقدم الوقت وتراكم الشكوك بشأن رد إيران.

وأثار اغتيال هنية في طهران الكثير من التساؤلات حول طبيعة العملية، خصوصاً مع وجود الاختراقات.

موكب تشييع إسماعيل هنية في طهران يوم 1 أغسطس الماضي (أ.ب)

المحطة السابعة: كان عنوانها تفجيرات أجهزة «البيجر»، بالتزامن مع رسالة تهدئة من الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، خصوصاً مع الولايات المتحدة، وشملت إسرائيل.

وقبل أن يتوجه إلى نيويورك، قال بزشكيان في مؤتمر صحافي إن بلاده لا تريد أن تكون عاملاً لزعزعة الاستقرار في المنطقة، ولا تريد تصدير الثورة، مبدياً استعداده للانفتاح على واشنطن، إذا أثبتت أنها ليست معادية لطهران، وذهب أبعد من ذلك عندما استخدم وصف «الأخوة الأميركية».

واصل بزشكيان هذه النبرة في لقاءات على هامش حضوره أعمال الجمعية العامة في نيويورك، وقال: «إيران مستعدّة لوضع أسلحتها جانباً إذا وضعت إسرائيل أسلحتها جانباً»، حسب تسجيل صوتي انتشر من اللقاء نفسه. وقال إن تأخير الرد الإيراني على اغتيال هنية هو تلقي بلاده رسائل بأن اتفاقاً لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حماس» سيُبرم خلال أسبوع، مبدياً انزعاجه من عدم التوصل للاتفاق واستمرار الهجمات الإسرائيلية.

خامنئي يلقي خطاباً أمام مجموعة من أنصاره وفي الخلفية صورة نصر الله (موقع المرشد)

وقلل بزشكيان من قدرة «حزب الله» على مواجهة إسرائيل وحده، وهو ما مزق الصورة التي رسمها مسؤولون مقربون من المرشد علي خامنئي.

وزاد موقف بزشكيان وكذلك الفرضيات بوجود اختراق في هجمات «البيجر»، واستهداف قادة «حزب الله»؛ من الشكوك في طهران بوجود اختراقات للجبهة الإيرانية، وعززت أيضاً مخاوف داخلية من وجود اختراقات.

المحطة الثامنة والخطيرة، بدأت باغتيال الأمين العام لـ«حزب الله»، حسن نصر الله، ثاني أهم لاعب للاستراتيجية الإقليمية الإيرانية، بعد الجنرال قاسم سليماني، خلال 35 سنة من حكم المرشد علي خامنئي. كما أدت الغارة الجوية الإسرائيلية على مقر نصر الله، إلى تسجيل ثاني خسائر «الحرس الثوري» الكبيرة منذ «طوفان الأقصى»، وهو نائب قائد غرفة العمليات، الجنرال عباس نيلفروشان.

ويحظى نصر الله بأهمية كبيرة لدى حكام إيران وخصوصاً الأوساط المحافظة، لدرجة تداول اسمه في بعض الفترات لتولي منصب المرشد الإيراني بعد خامنئي بوصفه «ولي الفقيه»، ولو أن الترشيح بدا مثالياً لأنه ليس مسؤولاً إيرانياً، فسيكون مرفوضاً من غالبية الأطراف السياسية.

نظام القبة الحديدية الإسرائيلي يعترض الصواريخ الآتية من إيران (رويترز)

ورداً على اغتيال هنية في عمق الأراضي الإيرانية، ونصر الله، ونيلفروشان، وجهت إيران هجومها الصاروخي الثاني المباشر على إسرائيل، في خطوة هدّدت إسرائيل بالرد عليها مع التلويح ببنك أهداف غير محدودة تشمل مصافي النفط ومحطات الوقود وأيضاً المنشآت النووية والعسكرية، ما يجعل الأزمة بين إسرائيل وإيران مفتوحة على كل الاحتمالات.