«الشارقة الثقافية»: من أجل خطاب جديد لقراءة التراث

«الشارقة الثقافية»: من أجل خطاب جديد لقراءة التراث
TT

«الشارقة الثقافية»: من أجل خطاب جديد لقراءة التراث

«الشارقة الثقافية»: من أجل خطاب جديد لقراءة التراث

صدر أخيراً العدد (59) لشهر سبتمبر (أيلول) من مجلة «الشارقة الثقافية» التي تصدر عن دائرة الثقافة بالشارقة، وجاء في الافتتاحية التي حملت عنوان «التواصل الثقافي وركائز التقدم الحضاري»، أنّ مفهوم الشراكة الثقافية اتخذ أبعاداً جديدة، خصوصاً بعد التحولات والتطورات التي شهدها عالمنا المعاصر على مستوى العلاقات والفعاليات؛ إذ تحوّل هذا المفهوم إلى منهج عالمي إنساني يكرس الانفتاح والتعاون والتفاعل والتواصل.
أما مدير التحرير نواف يونس؛ فدعا في مقالته «المقدمات الأولى للنقد الفني عربياً» إلى نظرة جديدة للماضي، باعتباره ليس مجرد تراكم نوعي وحسب، بل بما ينضوي عليه من لحظات وعي، تجعله تراثاً يحمل قيمته الجمالية والفنية.
وفي تفاصيل العدد، توقف يقظان مصطفى عند جابر بن حيان «أبو علم الكيمياء» الذي صنع أول مختبر يسترشد المنهج العلمي. وكتبت هبة أبو الفتوح عن بوكاشيو صاحب «الديكاميرون» الذي تأثر بكتاب «ألف ليلة ولية»، في حين تناول أحمد أبو زيد تاريخ مدينة سراييفو التي تحمل عبق الشرق الإسلامي. وجال محمد العساوي في ربوع مدينة السعيدية التي تعد جوهرة المغرب الزرقاء.
أمّا في باب «أدب وأدباء»؛ فتابع كل من عبد العليم حريص وجعفر العقيلي فعاليات الدورة الخامسة من «ملتقى الشارقة للتكريم الثقافي»، الذي احتفى بالأدباء في أوطانهم وكرَّم مبدعي الأردن. وتناول صابر خليل الاتجاهات الجديدة في الرواية التي أسسها الطاهر وطار، وعبّر بالكتابة عن هويته وواقعه الجزائري. وكتب نبيل سليمان عن الإيقاع الذي يعد من أسرار الإبداع، وقرأ وليد رمضان سيرة عبد الله الطيب الذي يعتبر عميد الأدب العربي في السودان، وأجرى محمد زين العابدين حواراً مع الكاتبة هالة البدري التي رأت أن هناك علاقة وثيقة بين الشخصية المصرية والبيئة الريفية، بينما ألقى حسن بن محمد الضوء على تجربة الكاتبة السودانية استيلا قايتانو التي تعد رائدة الرواية باللغة العربية في جنوب السودان. وتناول خلف أبو زيد مسيرة الأديب عيسى الناعوري.
ومن الموضوعات الأخرى، حاور أحمد حسين حميدان الدكتور عبد المالك أشهبون الذي دعا إلى تأسيس خطاب جديد لقراءة التراث. وكتبت غنوة عباس عن الدكتور محمد عناني «الذي غاص في عمق الأدب العالمي وترجمه»، في حين حاور الأمير كمال فرج الدكتور يسري عبد الغني الذي أصدر 55 كتاباً في الأدب والتاريخ والتحقيق والنقد. وتناول ناجي العتريس سيرة الشاعر كامل الشناوي الذي درس الآداب العربية والأجنبية في عصورها المختلفة، وكان من رواد ندوات طه حسين والعقاد، وغيرها من الموضوعات.
وفي باب «فن. وتر. ريشة» نقرأ الموضوعات التالية «إطلاق الخيال الإبداعي في تدوير (المهمل)» لمحمد العامري، و«السينما المستقلة...المعادلة الأصعب في حصد الجوائز»، لأسامة عسل، و«هدى العجيمي ورحلة نصف قرن في الإذاعة المصرية»، لمصطفى عبد الله، و«طاهر أبو فاشا وقصته مع رابعة العدوية وأم كلثوم»، لمحمد الشحات.
وفي باب «تحت دائرة الضوء»، نشرت المجلة قراءات وإصدارات، منها «التحليل الاجتماعي للأدب» لنجلاء مأمون، و«تجسيد الطبيعة وتوظيفها... بين الفن والمضمون في (فرح) وقصص أخرى»، لمصطفى غنايم، و«محمد البريكي يتساءل في شعره عن هموم الإنسان وتطلعاته»، لزمزم السيد، و«في كتابه (حارة العرب) المستشرق جوستاف لوبون أنصف الإسلام»، لحجاج سلامة، و«النوم إلى جوار الكتب... لؤي حمزة يرصد حاضر الكتابة وماضي الحياة»، للدكتورة هويدا صالح، و«أحمد يحيى علي والخطاب الروائي»، لانتصار عباس، و«السرد الأدبي من التجريبي إلى الترابطي»، لأبرار الآغا، و«محمد المر من القص إلى الرؤيا» لناديا عمر.
وأفرد العدد مساحة للقصص القصيرة والترجمات لمجموعة من الأدباء والمبدعين العرب: ضو سليم، ومصطفى الحفناوي، وذكاء ماردلي، ورفعت عطفة، وآخرين، بالإضافة إلى الزوايا الثابتة.



«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل
TT

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

في كتابه «هوامش على دفتر الثقافة» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يستعرض الشاعر عزمي عبد الوهاب العديد من قضايا الإبداع والأدب، لكنه يفرد مساحة مميزة لمسألة «الحزن»، وتفاعل الشعراء معها في سياق جمالي إنساني رهيف. ويشير المؤلف إلى أن ظاهرة الحزن لم تعد ترتبط بأسباب عرضية، أو بحدث يهم الشاعر، ويدفعه إلى الحزن كما كان الحال في الشعر العربي القديم.

ومن بين بواعث الحزن ومظاهره في الشعر قديماً، أن يفقد الشاعر أخاً أو حبيبة، فيدعوه هذا إلى رثاء الفقيد بقصائد تمتلئ بالفقد والأسى، مثل الخنساء في رثاء شقيقها، وأبي ذؤيب الهذلي في رثاء أبنائه، وجرير في رثاء زوجته، وهناك من يشعر بقرب الموت فيرثي نفسه، كما فعل مالك بن الريب، وقد يعاني الشاعر مرضاً، فيعبر عن ألمه.

أما في الشعر الحديث، فيعد الحزن ظاهرة معنوية تدخل في بنية العديد من القصائد، وقد استفاضت نغمتها، حتى صارت تلفت النظر، بل يمكن أن يقال إنها صارت محوراً أساسياً في معظم ما يكتبه الشعراء المعاصرون حتى حاول بعض النقاد البحث في أسباب تعمق تلك الظاهرة في الشعر العربي. ومن أبرزهم دكتور عز الدين إسماعيل الذي يعزو أسباب الظاهرة إلى تنامي الشعور بالذات الفردية بدلاً من الجماعية، وهذا ما يقودنا إلى الحديث عن «اغتراب» الإنسان المبدع؛ إذ يأخذ أشكالاً متعددة، ولعل أقسى أشكال ذلك الاغتراب ما عبر عنه أبو حيان التوحيدي بقوله: «أغرب الغرباء من صار غريباً في وطنه».

ذكر إسماعيل عدة أسباب للحزن منها تأثر الشاعر العربي الحديث بأحزان الشاعر الأوروبي وبالفنين الروائي والمسرحي، وقد توصل إلى أن أحزان الشاعر مصدرها المعرفة، وكأن شاعرنا الحديث تنقصه أسباب للحزن وبالتالي يعمد إلى استيرادها أوروبياً من شعراء الغرب.

وفي كتابه «حياتي في الشعر» يواجه صلاح عبد الصبور مقولات النقاد حول أنه شاعر حزين، موضحاً أن هؤلاء يصدرون عن وجهة نظر غير فنية، لا تستحق عناء الاهتمام مثل آراء محترفي السياسة أو دعاة الإصلاح الأخلاقي التقليديين. وانبرى عبد الصبور لتفنيد النظريات التي يأتي بها هؤلاء النقاد لمحاكمة الشعر والشاعر قائلاً: «لست شاعراً حزيناً لكني شاعر متألم، وذلك لأن الكون لا يعجبني ولأني أحمل بين جوانحي، كما قال شيللي، شهوة لإصلاح العالم، وهي القوة الدافعة في حياة الفيلسوف والنبي والشاعر، لأن كلاً منهم يرى النقص فلا يحاول أن يخدع نفسه، بل يجهد في أن يرى وسيلة لإصلاحه».

يتحدث الشاعر أيضاً عن قضيتين أثارهما بعض النقاد عن شعره، أولاهما أن حزن هذا الجيل الجديد من الشعراء المعاصرين حزن مقتبس عن الحزن الأوروبي، وبخاصة أحزان اليوميات. وكذلك قولهم إن الشعراء يتحدثون عن مشكلات لم يعانوها على أرض الواقع كمشكلة «غياب التواصل الإنساني» من خلال اللغة، كما تتضح عند يوجين يونيسكو أو «الجدب والانتظار» عند صمويل بيكيت وإليوت، أو «المشكلات الوجودية» عند جان بول سارتر وكامو، وبخاصة «مشكلة الموت والوعي».

وشرح عبد الصبور كيف أن الحزن بالنسبة إليه ليس حالة عارضة، لكنه مزاج عام، قد يعجزه أن يقول إنه حزن لكذا ولكذا، فحياته الخاصة ساذجة، ليست أسوأ ولا أفضل من حياة غيره، لكنه يعتقد عموماً أن الإنسان «حيوان مفكر حزين».

ويضيف عبد الصبور: «الحزن ثمرة التأمل، وهو غير اليأس، بل لعله نقيضه، فاليأس ساكن فاتر، أما الحزن فمتقد، وهو ليس ذلك الضرب من الأنين الفج، إنه وقود عميق وإنساني».

لكن ما سبب الحزن بشكل أكثر تحديداً عن الشاعر صلاح عبد الصبور؟ يؤكد أنه هو نفسه لا يستطيع الإجابة ويقول: «أن أرد هذا الحزن إلى حاجة لم أقضها، أو إلى فقد شخص قريب، أو شقاء طفولة، فذلك ما لا أستطيعه».

ومن أشهر قصائد صلاح عبد الصبور في هذا السياق قصيدة تحمل عنوان «الحزن» يقول في مطلعها:

«يا صاحبي إني حزين

طلع الصباح فما ابتسمت

ولم ينر وجهي الصباح»

لقد حاول التحرر فيها من اللغة الشعرية التقليدية عبر لغة يراها أكثر مواءمة للمشهد، لكن كثيرين اعترضوا على تلك اللغة، في حين أنه كان يريد أن يقدم صورة لحياة بائسة ملؤها التكرار والرتابة. ويؤكد الناقد د. جابر عصفور أن السخرية والحزن كلاهما ركيزتان أساسيتان في شعر عبد الصبور، وهو ما جعل عصفور يسأل الأخير في لقاء جمعهما: «لماذا كل هذا الحزن في شعرك؟» فنظر إليه عبد الصبور نظرة بدت كما لو كانت تنطوي على نوع من الرفق به ثم سأله: «وما الذي يفرح في هذا الكون؟».

وتحت عنوان «ظاهرة الحزن في الشعر العربي الحديث»، يوضح الباحث والناقد د. أحمد سيف الدين أن الحزن يشكل ظاهرة لها حضورها وامتدادها في معظم التجارب الشعرية الحديثة، خلافاً لما كان عليه الحال في الشعر العربي القديم. ويميز سيف الدين بين حزن الإنسان العادي وحزن المبدع الذي يتسم بحساسية خاصة، حيث يستطيع أن يحول حزنه وألمه إلى مادة إبداعية.

ويلفت الكتاب إلى أن هناك أسباباً متنوعة للحزن، منها أسباب ذاتية يتعرض لها الشاعر في حياته كالمرض أو الفقر أو الاغتراب. أيضاً هناك أسباب موضوعية تتصل بالواقع العربي، وما فيه من أزمات ومشكلات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية. ومن ثم، فالحزن ليس فقط وعاء الشعر، إنما هو أحد أوعية المعرفة الإنسانية في شمولها وعمقها الضارب في التاريخ.