حسن يوسف.. يفتح خزائن أسراره (4/5): ورث نجله عمر منه حب الفن.. ورجل جزائري كان السبب في هدايته داخل الحرم

«الولد الشقي» يخص «الشرق الأوسط» بأجزاء من مذكراته الشخصية

حسن يوسف أثناء تجسيده مشهدا من مسلسل الشيخ الشعراوي
حسن يوسف أثناء تجسيده مشهدا من مسلسل الشيخ الشعراوي
TT

حسن يوسف.. يفتح خزائن أسراره (4/5): ورث نجله عمر منه حب الفن.. ورجل جزائري كان السبب في هدايته داخل الحرم

حسن يوسف أثناء تجسيده مشهدا من مسلسل الشيخ الشعراوي
حسن يوسف أثناء تجسيده مشهدا من مسلسل الشيخ الشعراوي

نجم يمتلك صكوك النجاح والبقاء. ارتدى في مشواره الفني الصعب عشرات الشخصيات بإبداع وإتقان واحتراف. دخل قلوب المشاهدين بخفة دمه وشقاوته. يؤمن بأن حب الناس هو كل رصيده. يعرف ما يريده لنفسه وما يؤجله أو يعتذر عنه في اختياراته. مع كل نجاح يحققه يشعر بالرهبة لأنه يؤمن بأن الحفاظ على القمة أصعب من تسلقها. فنان من جيل أثرى السينما المصرية. كان في شبابه «الدنجوان» الذي تعشقه البنات، والذي تمنى كل شاب أن يكون مثله في خفة دمه وأناقته، لقب بـ«الولد الشقي» في فترة الستينات والسبعينات والثمانينات نظرا لتأكيد النقاد أنه أفضل من جسد هذا الدور في السينما مع الفنان الراحل «أحمد رمزي» ولقب أيضا بـ«جاك ليمون العرب» لاعتماده على كوميديا الموقف.
إنه نجم السينما المصرية والدراما التلفزيونية الفنان الكبير حسن يوسف، الذي بدأ حياته لاعبا لكرة القدم في نادي الزمالك ووصل لفريق تحت 21 سنة، حيث كان يسكن في حي السيدة زينب، وربطت أسرته بحكم الجيرة بعلاقات قوية مع الكابتن حنفي بسطان أحد أبرز نجوم الكرة المصرية في الأربعينات والخمسينات، ومنه تعلم حسن يوسف كرة القدم، حتى إنه تقدم لاختبارات الناشئين بنادي الزمالك واجتازها بنجاح، وكان من الممكن أن يصبح أحد نجوم جيل الستينات في فريق الكرة بالنادي لولا التحاقه بمعهد التمثيل ودخوله لعالم الفن، حيث كان ملتزما بالتمثيل على المسرح حتى الثانية صباحا، فلم يستطع المواصلة في تدريبات الكرة في التاسعة صباحا من كل يوم.
النجم حسن يوسف انتهى مؤخرا من كتابة مذكراته الشخصية التي يرصد فيها أهم محطات حياته الفنية والشخصية والعائلية وأيضا السياسية. ورغم تكتمه الشديد على خزينة أسراره فإنه سمح لـ«الشرق الأوسط» بتفقد بعض أوراقها ليختصها دون غيرها من وسائل الإعلام الأخرى المقروءة والمرئية بأجزاء من هذه المذكرات ننشرها في خمس حلقات مع أبرز محطات حياة «الولد الشقي». ويتم النشر بالتعاون مع «وكالة الأهرام للصحافة».

حسن يوسف ليس مجرد ممثل فحسب، لكنه أيضا مخرج متمكن من أدواته، فقد قام بإخراج معظم أفلامه، فهو يعرف جيدا كيف يوظف كل مكونات العمل الفني لخدمة العمل ونجاحه، كما حقق نفس النجاح بالتلفزيون حيث قدم العديد من المسلسلات التلفزيونية، وحقق نجاحا بها لا يضاهيه نجاح، فهو يحمل دائما من خلالها مضمونا ورسالة سامية، فهو بحق فنان قدير يحمل رسالته الفنية ويقدمها على أكمل وجه وفي أحسن صورة فنية.
والحقيقة أنه كلما تعمقنا أكثر في حياته وجدنا أن طريقه لم يكن أبدا سهلا، فقد مهد هو طريقه بعرقه وجهده، وتحمل الكثير من أجل أن يصل إلى ما وصل له، حيث أصبح أحد النجوم الكبار في السينما المصرية، وتعددت في أفلامه نجمات السينما الشهيرات، فاتن حمامة وهند رستم وشادية وسعاد حسني ونادية لطفي وسميرة أحمد ونجاة الصغيرة، وكأن نبوءة الفنان الراحل حسين رياض له بأنه سوف يكون أنور وجدي السينما الجديد قد تحققت.
وقد يرى كثير من الفنانين أن أهم أسباب شهرة يوسف سعادته الزوجية التي أصبحت مضرب المثل، لا في الوسط الفني فحسب بل في جميع الأوساط التي تتابع أخبار النجوم، بل يعتقد البعض أن يوسف وزوجته شمس البارودي اتفقا منذ البداية على أن تبدأ حياتهما الزوجية بالتفاهم الممزوج بالحب والاحترام، وهكذا عاشا حياتهما الزوجية لأكثر من 42 عاما وكأنهما متزوجان حديثا، ومضت بهما حياتهما الزوجية إلى بر الأمان رغم كل ما اعتراها من مشاكل ومنغصات في أوقات معينة خاصة بعد اعتزال زوجته التمثيل والتزامه هو دينيا، حيث تعرضا لحملات كثيرة من الانتقادات جراء تلك الخطوة.
وربما يعتبر حسن يوسف من الأزواج القلائل الذين يفضلون البيت على أي مكان آخر، وقلما يُرى حسن وشمس في مكان عام، فالبيت - كما يقول مثل إنجليزي - هو قلعتهما الوحيدة التي يلوذان بها من أعداء الحياة الخارجية. ويعتقد يوسف أن البيت الجميل البسيط يعطي الزوج قابلية شديدة لأن يمكث فيه أكبر وقت ممكن، مؤكدا أنه يحب الحياة العائلية ويقدسها، ولعل شمس أحد أسباب هذا الحب، لأنها هي أيضا تقدس الحياة العائلية وتفضل البيت على أي مكان آخر، ومرض أحد أولادهما يمثل حادثا جللا في البيت. ومع تلك الأيام والذكريات تواصل «الشرق الأوسط» في هذه الحلقة عرض أجزاء منها سمح لنا النجم الشهير وزوجته الجميلة بالاطلاع عليها تمهيدا لطرحها كاملة بالأسواق تحت عنوان «50 سنة سينما».

* فن بالوراثة
كان لا بد من أن تترك أضواء الشهرة والنجومية، والمعجبون المترددون طوال الوقت، وكاميرات التصوير، أثرا واضحا في أحد الأبناء إن لم يكن فيهم جميعا، خاصة إن كان الأبوان يعملان في الفن وحققا شهرة كبيرة، وما زال اسمهما يصنع خبرا تتداوله مختلف وسائل الإعلام، وهو ما حدث مع أسرة الفنان حسن يوسف وزوجته الفنانة المعتزلة شمس البارودي، حيث اتجه أحد أفراد العائلة بخطوات ثابتة نحو النجومية وهو الفنان عمر حسن يوسف، الذي احترف الفن بعدما شاهده المنتج محمد العدل أكثر من مرة، لأن ابنته كانت زميلة عمر في المدرسة. وبعدما كبر توسم العدل فيه ملامح النجومية فعرض عليه التمثيل في مسلسل «محمود المصري» مع الفنان محمود عبد العزيز. إلا أن يوسف رفض وقال له: «أكمل دراستك أولا ثم اختر». وفعلا تخرج عمر في كلية السياحة والفنادق وعمل في شركة أجنبية، وبعد ذلك جاءه فيلم «شارع 18»، وأخذ رأي والده فبارك له الخطوة هو ووالدته، وقال له: «جرب واحكم على التجربة». وعرض الفيلم وحقق عمر من خلاله نجاحا كبيرا، وانهالت عليه العروض السينمائية فقدم «قاطع شحن»، و«بنتين من مصر»، و«تلك الأيام». كما قدم مسلسلي «فرق توقيت» و«المرافعة». وقدم مع والده النجم حسن يوسف مسلسلي «مسألة كرامة» و«العارف بالله الإمام عبد الحليم محمود». وقد صرح لنا «يوسف» بأنه يتمني أن يكون نجله عمر مثل النجم العالمي «عمر الشريف»، فهو مثله الأعلى، خصوصا أنه يجيد الإنجليزية ولغات أخرى، ولديه علاقات جيدة في الخارج، ولذلك يتوقع أن يكون له مستقبل باهر. كما أنه يتمنى أن يكون فتى الشاشة الأول، خصوصا أنه يملك مواصفات النجم الوسيم، وأن عمر لديه ميزة جيدة، وهي أنه يبحث عن الدور الجيد والإتقان، وليس مجرد الوجود، فهو اختار الطريق الصعب في التمثيل، وذلك على عكس أشقائه ناريمان ومحمود وعبد الله، الذين لم يفضل أحد منهم العمل بالتمثيل، حيث بدأت «ناريمان» تعليمها في المدرسة الألمانية (راهبات) ومن ثم أكملتها في الجامعة الأميركية وتخصصت في علوم الكومبيوتر، وهي الآن تعمل مهندسة، كما حازت من جامعات إنجلترا شهادتي ماجستير، الأولى في العلوم الإنسانية والثانية في الترجمة، وهي تحضر حاليا للدكتوراه في «تاريخ المرأة العربية». أما محمود فهو خريج كومبيوتر وحاسبات في جامعة لندن، ويعمل مدير شركة إعلانات، أما عبد الله فهو طالب في الأكاديمية البحرية، ويرفض العمل في الفن رغم أن لديه الموهبة.

* موقف صعب
من أكثر المواقف الصعبة التي هزت كيان عائلة حسن يوسف عندما اختفى نجله عبد الله في ظروف غامضة لمدة أسبوعين، مما جعله يتقدم ببلاغ رسمي إلى قسم الدقي عن اختفائه، مؤكدا لهم أنه يعاني اكتئابا ولا يشتبه في غيابه جنائيا، فتشكل فريق بحث عنه وتم استدعاء حسن إلى نيابة شمال الجيزة للتحقيق في البلاغ، إلا أن عبد الله اتصل به وأخبره بأنه يقيم بشقة الأسرة في الإسكندرية مع بعض أصدقائه. كما تلقى حسن خطاب تهديد بقتل ابنته ناريمان إذا لم يدفع 20 ألف جنيه، مما جعله يتقدم ببلاغ إلى الشرطة لحمايتها.
ومن الموقف الصعبة أيضا التي تعرض لها حسن يوسف، عندما وجد أن كل المخرجين أخذوا ضده موقفا بسبب اتجاهه للإخراج، حيث وجد أن كل السيناريوهات التي كان سيمثلها أسندت إلى ممثلين آخرين. ويعلق حسن على ذلك قائلا «الحقيقة أن الشيء الوحيد الذي حز في نفسي وقتها هو أنني لم أتوقع من زملائي مثل هذا الموقف، لكني قلت لنفسي إن مقاطعة المخرجين لا تهمني لأنني فنان أثبتّ وجودي كممثل، وهم في حاجة إليّ، ولا بد أن يأتي يوم ويعدلون فيه عن مقاطعتهم لي، حتى لو تقدم العمر فإن مواهبي ترشحني لأدوار تتناسب مع عمري في كل مرحلة، لكن للأسف عندما يتحول المخرج إلى ممثل فإن المخرجين يتوهمون أنه سيفرض وجهة نظره على العمل فينصرفون عن التعاقد معه.

* أسباب الهداية
وتمر أيام قليلة ويقرر حسن يوسف التوجه إلى المملكة العربية السعودية لأداء مناسك العمرة برفقة والد زوجته في عام 1981. وهنا يقول: «عندما دخلت المسجد الحرام لأصلي تذكرت وصية والدي لي بالجلوس في الصفا، فسألت عنه، فدلوني عليه، فصليت بجانب رجل ملتح، حيث تباركت بالجلوس بجانبه، ولكن بمجرد أن انتهيت من صلاة السنة رأيت هذا الرجل يتحرك ويقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، وقام من مكانه، فاندهشت وأمسكته وسألته: أين تذهب؟. فقال لي: (لن أجلس بجانبك). فقلت له: لماذا؟. فقال لي: (أنت تعمل في مجال الشياطين)، وبدأ يتحدث إلي، وبدأت أستمع إليه، فارتجفت من نصائحه وإرشاداته. ورجعت من تلك الرحلة وأنا لا أنام، وكانت البداية في التحول من هذه النقطة، وببركة هذا الرجل الجزائري الفاضل الذي استعاذ بالله مني، لكنها كانت خيرا لي، ولو أن هذا الرجل خجل من أن يواجهني بهذه المواجهة لكنت رجعت إلى بلدي طبيعيا كالعادة من دون قلق وتساؤلات، لكن هذه الشرارة جعلتني أصعد المسألة، وذهبت إلى شيخ الحرم المكي وسألته، وعندما عدت إلى مصر سألت شيوخا كثيرين، فنصحني البعض منهم بلزوم الابتعاد تماما عن التمثيل والفن، ونصحني البعض الآخر بأن أصحح المسار».

* أنا والشيخ الشعراوي
يواصل يوسف: «كما أنني كنت قد تقابلت في الطائرة مع أبناء الحاج عبد الله سلام، صاحب إحدى الشركات، وأثناء الحوار قالوا لي إن والدهم يعد إفطارا في اليوم الثاني من رمضان من كل عام على شرف فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي (رحمه الله)، وعرضوا عليّ مشاركتهم هذا الإفطار، ولأنني اعتدت ألا أتناول طعام إفطار رمضان بعيدا عن زوجتي وأبنائي، فقد كسرت صيامي كما يقال معهم بطبق شوربة وأسرعت إلى المقطم لألحق إفطار الشيخ الشعراوي. وبالفعل وجدتهم يتناولون طعامهم، وكانت هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها الشيخ، ورأيته يجلس على المائدة يتناول طعامه، فصافحته ورد عليّ قائلا: (ازيك يا بني). وكان يعرفني على المستوى الفني، وحدث لي انبهار برؤيته شخصيا. وأثناء جلوسي بجانبه جاء رجل مسن للجلوس لكنه لم يجد كرسيا، فقمت من على الكرسي وأعطيته له وجلست على الأرض بجوار الشيخ الشعراوي، أنظر له منبهرا، وكنت أتمنى حفظ أي كلمة يقولها، وشعرت بأنني أمام عالم وشيخ وإمام ينطق بكلمات يجب أن أحفظها وأتعلمها، ومن هنا تعلقت به وصرت أتابعه باستمرار إلى أي مكان يذهب إليه، وبدأت أتجرأ وأتحدث معه في التليفون. وكم كانت سعادتي عندما أسمع صوته عبر الهاتف وهو يرد علي قائلا: (إزيك يا بني.. انت فين؟.. إحنا هنسجل في مسجد كذا).. وكنت أحرص على متابعة لقاءاته أينما ذهب ما دمت غير مرتبط بأعمال معينة، وصرت من الوجوه الملتصقة به والقريبة منه التي اعتاد رؤيتها».

* ما ذنب الكوب؟
ما زال حسن يوسف يسرد ذكرياته مع الشيخ الشعراوي، حيث يقول: «أتذكر أنني مرة دخلت عليه ووجدته يشاهد التلفزيون فقلت له: (يا مولانا أتتفرج على التلفزيون؟). فرد على قائلا: (يا بني التلفزيون ذنبه إيه؟.. التلفزيون مثل كوب الشاي الذي أمامك، ماذا في هذا الكوب؟).. فأجبته: شاي. فقال: (طيب يمكن واحد تاني يضع في نفس الكوب خمرا، فما ذنب الكوب؟.. وما ذنب التلفزيون الذي اخترعه العالم حتى يستفيد منه من خلال عرض أعمال تدعو إلى الخير وتنشر الفضيلة؟.. فسألته: هل العمل بالفن حلال أم حرام؟.. فقال لي إن الفنان صاحب رسالة مثله مثل أستاذ الجامعة، وإنه كداعية يمكن أن يضلل الناس ويمكن أن يرشدهم إلى طريق الحق وكذلك الفنان. ثم قال وهو يمزح معي: (مثلما علمت الشباب معاكسة البنات قدم لهم أعمالا اجتماعية أو دينية تكون قدوة لهم). وأدركت في هذه الجلسة أن الفن في حد ذاته ليس حراما وإنما الذي يقدم داخله من الممكن أن يكون حلالا أو يكون حراما. ووقفت أمام الآية الكريمة التي تقول: (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض). وعاهدت الله بعدها ألا أقدم من خلال فني إلا ما ينفع الناس».

* هداية ربانية
يضيف يوسف «ثم أتم الله علي نعمته، حيث سافرت شمس بعدي بعام واحد إلى المملكة العربية السعودية لتأدية مناسك العمرة مع والدها بصحبة صديق له وزوجته، لأنني كنت مشغولا وقتها في تصوير مسلسل (سلمان الفارسي)، وكانت هذه السيدة تحرص دوما على اصطحاب شمس معها أثناء الصلاة لتدخلا معا من باب النساء، وعقب صلاة الفجر تزوران قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وكانت شمس تصطحب معها دوما في هذه الزيارة المباركة كتيبا صغيرا مليئا بالأدعية الدينية التي ترددها في حضرة رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام، وتدعو الله أن يغفر ذنوبها. وكثيرا ما كانت تجلس وحدها بعيدا عن صديقتها في اتجاه القبلة وهي تقرأ القرآن الكريم، وفي إحدى مرات قراءتها للقرآن فوجئت بعينيها وقد دمعتا للمرة الأولى خشوعا لكلام الله الذي وضحت لها كل آياته ومعانيه سهلة متيسرة وهي من كانت من قبل لا تقوى على فهمها، وهمت من مجلسها لترحل وهي تنظر إلى باب قبر الرسول وشفتاها ما زالتا ترددان بعض الأدعية التي اختزنتها ذاكرتها وإذا بها ترى ما لا يدركه عقل أو يصدقه بشر، فأمامها كانت هيئة رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام، رأته رأي العين وهو ينظر إليها، ولم تتمالك نفسها واهتزت بشدة وارتعش جسدها وقالت في خشوع لم تشعر به من قبل: (حبيبي يا رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وإذا بالسيدة التي تصاحبها دائما لا تفهم شيئا مما يجري وتحاول مساعدتها على مغادرة المكان بهستيرية، وظل جسدها يرتعش بقوة وهي تردد (حبيبي يا رسول الله) حتى خارت قواها وسط ذهول الجميع وعادت إلى والدها واجمة لا أحد يعلم ما الذي أصابها، ولم تفصح لأحد عما رأت. وخلال تسعة أيام فقط في الأراضي المقدسة ختمت القرآن الكريم، وكان دعاؤها الدائم في الطواف حول الكعبة بدموعها المنهمرة (اللهم قوِّ إيماني وإيمان زوجي وأولادي وأبي وأمي)، ووقفت في جوف الليل ببيت الله الحرام رافعة كلتا يديها تتضرع لله أن يثبتها على ما هي فيه من إيمان وجلاء للبصيرة. وعادت من العمرة وقد أضاء الله قلبها بنور الإيمان، وإذا بها تفاجئني بقرار اعتزالها الفن وارتداء الحجاب، وكنت وقتها أجهز لفيلم (غرام صاحبة السمو) عن رواية للكاتب الصحافي موسى صبري، وسيناريو وحوار أحمد صالح، فأحسست بأنني وقعت في ورطة، فإذا كانت شمس سوف تعتزل وتتحجب، فمن التي ستقوم بالبطولة أمامي؟ ومع ذلك عرضت عليها الموقف، ولم يكن رد شمس سوى: (اعمل الفيلم بواحدة غيري).. فقلت في نفسي قد يكون ذلك بسبب تأثير العمرة، فتركتها عدة أيام ثم فتحت معها الموضوع ثانية، ولكن الله سبحانه وتعالى كان ثبتها على ذلك، فقلت لها: ولا بواحدة غيرك، لقد قررت ألا أمثل الفيلم ولا أخرجه ولا أنتجه أيضا. ورفعت سماعة التليفون وتحدثت إلى موسى صبري وأخبرته بذلك».

حسن يوسف.. يفتح خزائن أسراره (1/5)
حسن يوسف.. يفتح خزائن أسراره (2/5)
حسن يوسف.. يفتح خزائن أسراره (3/5)



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)