واقعية الحب

الروائية الإنجليزية جورج إليوت... من روايتها «آدم بيد»

جورج أليوت
جورج أليوت
TT

واقعية الحب

جورج أليوت
جورج أليوت

«قس بروكستون هذا أفضل قليلاً من وثني!»، أسمع أحد قرائي يتعجب، مضيفاً: «كم كان ذلك سيكون مثرياً لو أنك طلبت منه أن يعطي آرثر نصيحة روحانية حقيقية. كان يمكنك تلقينه أجمل الأشياء - ما ليس بأقل جمالاً من قراءة موعظة».
من المؤكد أن ذلك كان بإمكاني، لو أنني التزمت بأكثر مهام الروائي رفعة في تمثيل الأشياء كما لم تحدث ولن تحدث. في تلك الحالة كنت بالطبع سأعيد تشكيل الحياة والشخصية بأكملهما على ذائقتي؛ كنت سأختار أكثر أنواع الكهنة استثنائية، وأجعل أفكاري تشع في فمه بكل المناسبات. لكن ما يحدث، على النقيض من ذلك، هو أنني أحاول جاهدة أن أتفادى أي صورة اعتباطية كتلك، وأن أقدم تصوراً صادقاً للناس والأشياء كما انعكسوا في مرآة عقلي. ولا شك أن المرآة خادعة؛ سيأتي ما يعكر صفاء الصورة أحياناً، يخبو الانعكاس أو يتشوش؛ لكني أشعر بأن من واجبي أن أخبركم بأعلى دقة ممكنة ما هو ذلك الانعكاس، كما لو أنني في منصة الشاهد أروي تجربتي تحت القسم.
قبل ستين عاماً - وهي فترة طويلة، لذا لا غرابة في أن الأشياء قد تغيرت - كان كل القساوسة بعيدين عن التشدد؛ ومن المحتمل جداً أنه إذا امتلك شخص من الأقلية المحدودة مصادر الدخل في بروكستون وهيسلوب في عام 1799، فإنك لن تحبه أكثر من حبك السيد إرواين. هناك احتمال من عشرة إلى واحد أنك ستظنه شخصاً عديم الذوق، متهوراً، وميثودي. إن من النادر جداً أن تؤثر الحقائق في تلك الأداة الجميلة التي تتطلبها أفكارنا المستنيرة وذوقنا الرفيع. ربما تقول: «حسّن الحقائق قليلاً إذن؛ اجعلها أكثر انسجاماً مع تلك الآراء التي تميزنا.
إن العالم ليس ما نريده بالضبط؛ المسه لمساً رقيقاً بقلم بِنسل وتظاهر بأنه ليس تماماً ذلك الشأن المتداخل المشتبك. اجعل الناس الذين لديهم أفكار غير استثنائية يتصرفون بطريقة غير استثنائية. واجعل شخوصك الأكثر عيوباً على الجانب الخطأ دائماً، وشخوصك من أهل الفضيلة على الجانب الصحيح. عندئذٍ سنرى بلمحة عين من الذين علينا أن نُدين، ومن الذين سنقبل. عندئذٍ سنكون قادرين على الإعجاب، دون أدنى إرباك لما نعتقده مسبقاً: سنكره ونحتقر بنكهة اجترار حقيقية مصدرها الثقة المطلقة».
لكن يا صديقتي الطيبة، ماذا ستفعلين بزميلك في الأبرشية الذي يعارض زوجك في مجلس الكنيسة؟ - بالقس الذي ترين أن أسلوبه في الوعظ أقل على نحو مؤلم من مستوى سلفه المأسوف عليه؟ - بالخادمة الشريفة التي تقلق روحك بعيبها الوحيد؟ - بجارتك، يا سيدة غرين، التي كانت فعلاً طيبة معك في مرضك الأخير، لكنها قالت أشياء سيئة عنك منذ شفيت؟ - لا، بزوجك الرائع نفسه بعاداته المزعجة الأخرى إلى جانب عدم مسحه لحذائه؟ هؤلاء الفانون من إخوتنا، كلهم واحداً واحداً، لا بد من قبولهم كما هم: لن تستطيعي تعديل أنوفهم، ولا زيادة ذكائهم، ولا تصحيح أمزجتهم؛ وهم هؤلاء الناس - الذين تمضي حياتك بينهم - الذين من الضروري تقبلهم، العطف عليهم، وحبهم: إنهم هؤلاء القبيحون نوعاً ما، الأغبياء، غير المخلصين، الذين عليك أن تكوني قادرة على الإعجاب بمبادراتهم الطيبة - الذين من أجلهم عليك أن تتمسكي بكل ما يمكن التمسك به من الآمال، كل ما يمكن من الصبر. ولن أكون، حتى لو كان لي الخيار، أن أكون الروائية الذكية التي تستطيع أن تصنع عالماً أفضل بكثير من هذا، عالماً نستيقظ فيه في الصباح لننجز مهامنا اليومية، وتستطيعين فيه أن تلقي نظرة أكثر تمعناً وبرودة على الشوارع المغبرة والحقول الخضراء - على الرجال والنساء الحقيقيين الذين يتنفسون، الذين يمكن أن تجمدهم لا مبالاتك أو يجرحهم تحيزك؛ الذين يمكن أن يشجعهم ويدعمهم إلى الأمام شعورك برفقتهم، تحملك، جرأتك، عدالتك الشجاعة.
لذا يكفيني أن أروي قصتي البسيطة، دون أن أحاول جعل الأشياء تبدو أفضل مما كانت؛ دون أن أخشى شيئاً ما عدا الزيف، الذي على المرء أن يخشاه على الرغم من كل المحاولات الجادة. الزيف سهل جداً، بينما الحقيقة بالغة الصعوبة. يشعر قلم البِنسل بانسيابية لذيذة حين يرسم «الغرفين» - كلما طالت المخالب، وكبرت الأجنحة، كان ذلك أفضل؛ لكن تلك السهولة المدهشة التي ظنناها خطأً عملاً عبقرياً مهيأة للتخلي عنا حين نريد أن نرسم الأسد الحقيقي الذي لا مبالغة فيه. تفحص كلماتك جيداً وستكتشف أنك حتى حين لا يكون لديك ما يدفعك لتكون مزيفاً، فإنه من الصعوبة البالغة أن تقول الحقيقة تماماً، حتى في التعبير عن مشاعرك المباشرة - أشد صعوبة من أن تقول شيئاً لطيفاً عنها لكنه ليس الحقيقة بالضبط.
إنه بسبب هذه الخصلة الثمينة النادرة من قول الحقيقة أجد المتعة في كثير من اللوحات الهولندية، التي يحتقرها ذوو المستويات العالية. أجد مصدراً للتعاطف اللذيذ في هذه الصور الصادقة للوجود البسيط المكرر الذي كان قدرَ أناس من إخوتي البشر يفوق عددهم بكثير عدد أولئك الذين عرفوا حياة البهرجة أو الفقر المدقع، حياة المعاناة المأساوية أو الأفعال التي تهز العالم. إنني أبتعد، دون تردد، عن الملائكة المحمولين على السحاب، عن الأنبياء، والعرافات، والمحاربين الأبطال، باتجاه امرأة عجوز تنحني على أصيص الزهور، أو تأكل عشاءها وحيدة، بينما يسقط ضوء النهار، مخففاً ربما بمظلة من الأوراق، على قلنسوتها وبالكاد يلمس حافة عجلتها الدوارة، وإناء مائها الحجري، وكل تلك الأشياء العامة الرخيصة التي هي من ضرورات الحياة بالنسبة لها؛ - أو ألتفت إلى ذلك العرس القروي، المحصور ضمن أربعة جدران بُنِّيَّة، حيث يفتتح عريس مرتبك الرقص مع عروسه ذات الكتفين العاليين والوجه العريض، بينما ينظر الأصدقاء المسنون والمتوسطو الأعمار، بأنوف وشفاه متعرجة وربما يحمل كل منهم بيده إناء ربع غالون، لكن بقناعة وطيبة لا تخطئهما العين. «قرف!» سيقول صديقي المثالي، «أي تفاصيل سوقية! أي فائدة ترجى من السعي المضني لإعطاء وصف دقيق لعجوز ومهرج؟ أي انحدار للحياة - أي أناس قبيحين وخرقى!».
يا إلهي، قد تكون الأشياء البعيدة تماماً عن الوسامة محببة للنفس. لست متأكدة تماماً من أن الأكثرية من الجنس البشري ليسوا قبيحين، وحتى بين أولئك «سادة جنسهم»، البريطانيين، ذوي الأجساد القصيرة والمناخير المعوجة، والملامح القذرة ليسوا استثناءات مذهلة. ومع ذلك فما بيننا حب أُسريّ عظيم. لديّ صديق أو اثنان يمكن القول عن مستوى ملامحهم إن التفافة الشعر التي تذكّر بأبوللو على حواجبهم سيجدها الكثيرون مرهقة؛ ومع ذلك فإني أعرف تمام المعرفة أن قلوباً رقيقة خفقت لهم، وأن الرسوم المصغرة لهم - على ما فيها من إطراء ليست حلوة - تُقبَّل سراً بشفاه الأمومة. لقد رأيت كثيراً ممن يشبهن تلك السيدة الرائعة التي لم تكن في زهرة أيامها وسيمة، ومع ذلك كانت تحتفظ في درجها الخاص برزمة من رسائل الحب الصفراء، والأطفال الحلوين يمطرون خديها الشاحبين بالقبل. وأعتقد أن هناك كثيراً من الأبطال الشبان، من ذوي الطول المتوسط واللحى الخفيفة، الذين كانوا واثقين بأنهم لن يقعوا في حب من هن أقل جمالاً من إلاهة القمر ديانا، ومع ذلك وجدوا أنفسهم في منتصف العمر سعداء مع زوجة تتهادى. نعم، حمداً لله أن الشعور الإنساني مثل الأنهار الكبرى التي تبارك الأرض: إنها لا تنتظر الجمال - بل تتدفق بقوة لا تقاوم وتأتي بالجمال معها.
كل التقدير والتبجيل لما في الشكل من جمال مقدس! دعونا نتعهده بالعناية إلى أقصى حد في الرجال والنساء والأطفال - في حدائقنا وفي بيوتنا. لكن دعونا نحب ذلك الجمال الآخر أيضاً الذي يكمن ليس في تناسب سري، وإنما هو في سر التعاطف الإنساني العميق. ارسم لنا ملاكاً، لو استطعت، برداء وردي مرفرف، ووجهاً جعله النور السماوي باهتاً؛ ارسم لنا مرات أكثر عذراء تدير وجهها اللطيف إلى الأعلى وتفتح ذراعيها مرحبة بالإشعاع المقدس؛ لكن لا تفرض علينا أي قواعد جمالية تنفي عن إقليم الفن تلك السيدات السمينات اللاتي يقشرن الجزر بأيديهن التي أرقها العمل... أولئك المهرجون بأوزانهم الثقيلة يستمتعون بإجازاتهم في حانات البيرة المتسخة، تلك الظهور المستديرة والوجوه الغبية التي خددتها الأجواء، أولئك الذين انحنوا على المحراث وأنجزوا العمل الشاق لهذا العالم - تلك المنازل بمقاليهم المعدنية، وأباريقهم البنية، وكلابهم الشرسة، وبصلهم المتراكم. في هذا العالم كثير من أولئك الناس العاديين الخشنين، الذين ليس لديهم بؤس عاطفي ملون بالمناظر الطبيعية! إن من الضروري أن نتذكر وجودهم، وإلا قد يحدث أن نتركهم مبعدين تماماً عن ديننا وفلسفتنا، ونرسم نظريات رفيعة تتناسب فقط مع عالم من الحالات القصوى. لذا لندع الفن يذكّرنا دائماً بهم؛ لذا لنجعل الرجال مهيئين ليحبوا التمثيل الصادق للعادي من الأشياء إذ يصور أوجاع الحياة، ويبتهج برسم نور السماء وهو يسقط بلطف عليهم. هناك قليل من الأنبياء في العالم؛ قليل من النساء الجميلات على نحو متجاوز؛ قليل من الأبطال. لا يمكنني أن أمنح كل حبي وإجلالي لتلك الأشياء النادرة: أحتاج إلى كثير من تلك المشاعر للناس من أمثالي الذي أراهم كل يوم، خصوصاً تلك القلة الواقفة في مقدمة الجموع الضخمة، الذين أعرف وجوههم، ألمس أيديهم، والذين لأجلهم علي أن أمضي بتهذيب ولطف. لا فقراء نابولي ذوو المظهر الغريب ولا المجرمون الرومانسيون يتكررون مثلما يتكرر عاملك العادي الذي يحصل على خبزه ويأكله بطريقة فجة ولكنها واقعية بسكين في جيبه.
ثمة حاجة أكبر لأن أتخلق بالتعاطف الذي يربطني بهذا المواطن البسيط الذي يزن سكري بربطة عنق وصدرية رديئة الاختيار، من أن أتعاطف مع أكثر الأوغاد وسامة وهو يرتدي لفحة حمراء وريشاً أخضر، - حاجة كبرى لأن يمتلئ قلبي بإعجاب المحب تجاه خصلة من الطيبة المهذبة في إنسان ذي عيوب يجلس على الأرض نفسها معي، أو لقسيس من أبرشيتي قد يميل إلى السمنة أكثر من اللازم ومن نواحٍ أخرى ليس مثل أوبرلين أو تيلوتسون، من أن أعجب بأفعال أبطال لن أعرفهم إلا من خلال ما يقال عنهم، أو بأكثر الخصال الكنسية سمواً وتجريداً التي اخترعها روائي متمكن.
* من كتاب «معالم الحداثة» الذي يصدر قريباً عن دار «روايات» في الشارقة



ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون
TT

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون

في اليوم العالمي للتسامح الذي صادف أمس، ينبغي لنا، نحن العرب تحديداً، أن نتساءل: ما بال العالم كله ينعم بالسلام ويتقلب في رغد العيش، ونحن نخرج من حرب لنلبس لأمة الحرب من جديد؟ وإن كانت أوكرانيا قد خرقت القاعدة، إلا أن الأعم الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية، تختلف عما نراه في أفلام السينما. بمناسبة اليوم، سنمر بمحطات تاريخية ذات علائق بالموضوع، ولعل أول رمز للتسامح في تاريخ الفكر هو سقراط، كما تجلّى في محاورات تلميذه أفلاطون، وتجلّت معه روح التسامح في أسلوبه الحواري كجزء من بحثه عن الحقيقة.

في المحاورات، كان متسامحاً للغاية مع محاوريه، ويدعوهم للسعي وراء الحقيقة أينما انطلق بهم هذا السعي. ولطالما شجّع خصومه على تفنيد كل ما يقول، وأن هذه هي الطريقة المُثلى للكشف عن وجه الحقيقة. وفي إحدى المحاورات يصف نفسه بأنه يبتهج بدحض الآخرين لأقواله أكثر من ابتهاجه بدحضه أقوال الآخرين، لأن النجاة من الشر خير من إنقاذ الآخرين.

السعي وراء الحقيقة، بالنسبة إلى سقراط، مرتبط بالعقل المنفتح، وهذا الشكل من التسامح الحواري يفترض بالطبع أن يؤدي إلى رؤية موحدة للحقيقة. لا بد أن تشعر في بعض الأحيان بأن تسامح سقراط مبالغ فيه للغاية، لكن ربما هذا هو أساس فكرة «المحاورات»، أن تخلق الإنسان الكامل المرجعي في كل شيء، مع أننا نعلم أنه في النهاية إنسان، ولا بد أن يكون غضب ذات مرة، بل مرات.

محطة التسامح الثانية يمكن أن نراها واضحة وأكثر تطوراً في رواقية إبكتيتوس وماركوس أوريليوس وسينيكا، فالفكرة الرواقية هي وجوب التركيز على تلك الأشياء التي يمكننا التحكم فيها، مثل آرائنا وسلوكياتنا، مع تجاهل تلك الأشياء التي لا يمكننا التحكم فيها، وخاصة آراء وسلوكيات الآخرين. ترتبط الفكرة بالاستسلام واللامبالاة، كما هو واضح في حالة إبكتيتوس، الذي قد يفسر وضعه الاجتماعي نصائحه بالتحرر الذهني، لا الجسدي، فقد نشأ مستعبداً عند الرومان.

بطبيعة الحال، صبر المستعبد ليس مثل تسامح المتسامح الذي يملك القدرة على الرفض، قدرة لا يمتلكها المستعبد، فالتسامح فضيلة القوي، كما يقول الإمبراطور ماركوس أوريليوس. وقد يرتبط الأمر بفضائل أخرى مثل الرحمة والإحسان، غير أن نظرة الرواقيين إلى التسامح لا تصل إلى درجة احترام الاستقلالية وحرية الضمير، كما الحال في الليبرالية الحديثة، إذ لم تكن الحياة السياسية الرومانية متسامحة مثل الحياة السياسية الحديثة، وعلى الرغم من أن «تأملات» ماركوس تحتوي على نصوص كثيرة تستحضر روح التسامح، فإن ماركوس نفسه كان مسؤولاً بشكل شخصي عن سحق واضطهاد المسيحيين في زمنه.

ولم يصبح التسامح موضوعاً جدياً للاهتمام الفلسفي والسياسي في أوروبا حتى القرنين السادس عشر والسابع عشر، بل قبل ذلك خلال عصر النهضة والإصلاح في القرنين الخامس عشر والسادس عشر رفع الإنسانيون من مثل إيراسموس ودي لاس كاساس ومونتين شعار استقلالية العقل البشري ضد دوغمائية الكنيسة التي كانت توقد نيران محاكم التفتيش وتلقي بالناس فيها وتقتل المخالف.

في أعقاب الانقسامات التي خلّفها مشروع الإصلاح اللوثري والإصلاح «الكاثوليكي» المضاد، دُمرت أوروبا بسبب الحرب التي أثيرت باسم الدين، حروب بلغت ذروتها في حرب الثلاثين عاماً (1618 - 1648). بسبب هذه الحرب الشنيعة، وكل الحروب كذلك، أدرك العلماء والحكماء حجم القوة التدميرية الكامنة في التعصب، فنهضوا لاجتثاث ذلك التدمير من خلال استعادة نصوص التسامح وإعادة النظر في العلاقة بين المعتقد الديني والسلطة السياسية.

لافونتين

وكان هناك تأثير ثقافي للتيار الذي قام من أجل تعريف معنى السيادة وتطهير الدين في بريطانيا مما علق به خلال الحروب الأهلية البريطانية (1640 - 1660)، ويضاف إلى كل ذلك تكاثر المعلومات عن الاختلافات الثقافية مع بداية عهد الرحلات واكتشاف العالم، وكان لاكتشاف الصين تحديداً أعظم الأثر، فقد صُدم المسيحيون صدمة فكرية عنيفة عندما وجدوا شعباً أخلاقياً لا يؤمن بدين، بمعنى أنهم وصلوا إلى أن الدين ليس مصدر الأخلاق. ورفع الإنسانيون في حركة الإصلاح شعاراً يقول: هل لديكم معرفة منقولة عن الله معصومة من الخطأ تبرر قتل من يُتهم بالزندقة؟ ولم يلبث هذا القلق بشأن قابلية الإنسان للخطأ أن فتح الطريق إلى ما يعرف باسم «التسامح المعرفي»، ومع اقتران الاعتراف بقابلية الإنسان للخطأ وانتقاد السلطة الكنسية، نشأت أشكال جديدة وأكثر عمقاً، من التسامح السياسي. وأخذ التسامح في القرن السابع عشر صورة الممارسة العملية في أجزاء معينة من أوروبا.

ربما حدث هذا نتيجة زيادة التجارة والحراك الاجتماعي. وصاغ سبينوزا حجة للتسامح ترتكز على 3 دعاوى، أولاً، تقييد حرية الفكر مستحيل. ثانياً، السماح بحرية الفكر لا يمس بسلطة الدولة. وثالثاً، يرى سبينوزا أن السلطة السياسية يجب أن تركز على التحكم في الأفعال، وليس على تقييد الفكر. هذا التركيز على الفرق بين الفكر والفعل أصبح قضية جوهرية في مناقشات المفكرين اللاحقة حول التسامح، خصوصاً عند لوك، وميل، وكانط. ويمكن العثور على صورة مختلفة إلى حد ما عن رؤى سبينوزا الأساسية في رسالة لوك الشهيرة حول التسامح (1689)، وهي مقالة كتبها أثناء منفاه في هولندا. وتركز حجة لوك بشكل خاص على الصراع بين السلطة السياسية والمعتقدات الدينية. لقد عبّر عن وجهة نظر مبنية على دعواه بأنه من المستحيل على الدولة فرض المعتقد الديني بالإكراه. وقال إن الدولة يجب ألا تتدخل في المعتقدات الدينية التي يختارها الأفراد، إلا عندما تؤدي هذه المعتقدات الدينية إلى سلوكيات أو مواقف تتعارض مع أمن الدولة. رسالة جون لوك اليوم لا تزال هي المانيفستو الأساس لكل مطالب التسامح، رغم أنها لم تكن كاملة في البداية.