إيلي فهد: بالفن يلتئم الجرح

تنبّه إيلي فهد إلى أنه لا يريد دراسة الكيمياء، فانتقل بعد سنتين لدراسة السينما في الجامعة اللبنانية. حياته استجابة للحلم في مكان آخر. «رحتُ أشاهد الأفلام بكثافة؛ أنام وأصحو على الروائع». لا نعرف ما نريد، وحين نكتشفه، نتورّط في الشغف حتى العظم. عمل المخرج اللبناني نادلاً في مطعم قبل اكتشاف الذات. شكّل فيلم تخرّجه شرارة البداية، حين سافر لعرضه في مهرجانات. راح الجميع يقول: شاب من الجامعة اللبنانية لديه قصة عن الأحلام، فاسمعوها! لم يتوقّع، حين بدأ تصوير الفيديوهات وعرضها على «السوشيال ميديا»، حجم التفاعل. ماذا سيهم الناس إن أخبرهم أنه يحب الشيش برك مثلاً؟ ماذا يريد أن يقول؟ لاحقته هذه الأسئلة. يخبر «الشرق الأوسط» أبرز المحطات، من التصوير في كاراج صديقه إلى العمل مع النجوم. وعن بيروت التي يشعر بأنه «تزوّجها». مدينة العشق والنزف والاستباحة.
يصوّر بعين حسّاسة ويكتب بروح حقيقية. خطرت له فكرة: «أنا مخرج؛ والإنترنت موجود. ينبغي مدّ جسر بين (يوتيوب) والكاميرا، فبدأتُ بتنزيل الفيديوهات». عمله الأساسي: تصوير كليبات وإعلانات ومقاطع أزياء. لم تكن واردة فكرة الفيديوهات الشخصية. حين حمَّل الفيديو الأول قبل ست سنوات تقريباً، نام بهدوء واستيقظ على عاصفة. لم يترقب الأصداء. ما تفسيرك؟ «الناس تحب الصدق. ما يخرج من القلب يدخل إلى القلب».
«الحياة بدقيقتين»، فيديو الإهداء لروح الأب الراحل، وجّه فيه الابن أسئلة للحياة. «شعرتُ بنقمة. كتبتُ الكلمات وصوّرتها بوجع. كنتُ نفسي، فوصل الفيديو إلى مهرجانات ونال أكبر تفاعل». يصف أفلامه بـ«شغل البيت»، يحضّرها حين يشعر باجتياح المشاعر: «أتبع إحساسي». في الواقع، يا إيلي، الفيديوهات بديعة لأنها أولاً بسيطة؛ وثانياً صادقة. «الخوف من الخوف» كان رائعاً. «صوّرتُه في كاراج صديقي من دون تخطيط. العفوية تحرّكني».
الأجمل، فيديو «ست الدنيا» مع كارمن بصيبص عن بيروت. صوّره قبل الانفجار بشهر. تساءل عن سكوت المدينة بعدما ازدحمت شوارعها بصرخات الحالمين. «خلال ثورة أكتوبر (تشرين الأول) تحدث الجميع عن بيروت. كيف سكتت الأصوات؟ كيف ألمّ بها الخواء؟ لا يحق لنا الصمت. أردتُ الاطمئنان عليها». بعد الصخب على النت، جال الفيلم القصير في مهرجانات، بينها «برلين»: «لم أستطع وصف الفرحة!».
تشهد زوجته على مسوداته وتشعر بأنّ الفيديوهات ستذهب بعيداً، فتدعم وتشجّع. يحاول التمايُز: «لا أريد أن أشبه غيري. الفيديو لا يكون حقيقياً إلا إذا جعل الأبدان تقشعر». على عاتقه مسؤولية الإبقاء على بيروت حيّة... «لن تموت ما دمنا نتكلم عنها». ألا تعاتبها يا إيلي على إذلال أبنائها وإقفارهم وقهرهم وتفجيرهم وتفحُّم جثثهم؟ «كيف ألوم، وهي مظلومة أيضاً؟ نتساوى معها في أننا شهود على المذبحة. لو عاد الأمر لها لنفضتهم جميعاً والتحقت بأصلها وجوهرها؛ منارة وحضناً وضوءاً ولؤلؤة متوسطية. وظيفتنا إحياؤها. مدن عظمى عانت قسوة التاريخ، ثم نهضت من ركامها. مهمة الرسامين والشعراء والمفكرين إنقاذ ما يمكن إنقاذه».
لا قواعد في الفن؛ فقط إحساس. يرفض إيلي فهد تقييد وظيفته: «الفن هو ما يشعر الفنان به. لا أريد اعتباره فعل مقاومة ولا مداواة لجرح. هو باقة من هذه جميعها. التصنيف مضرّ. أحد لا يملك الحق في وضع شروط على الفن. أنا كفنان أفعل ما تلهمني إياه مشاعري».
صوّر مع إليسا، ونانسي عجرم، ونادين نجيم، وبلقيس، وعبير نعمة... ومكانه يتأكد يوماً بعد يوم. لم يتخلَّ إيلي فهد عن أحلامه، أو يدعها تغادره حين تعذّر تحقيقها. احتفظ بها، ولما حان الوقت، اندفع من أجلها. منذ مقاعد الجامعة وهو يحلم بلقاء إليسا: «فنانة فريدة، لا نقدّر تماماً قيمتها». تخيّلها بالأبيض والأسود، بفيديو من إخراجه يحقق ملايين المشاهدات. إلى أن اجتمعا بإعلان «بودكاست أنغامي»، فصوّرها كما حلم بها. «ونانسي أيضاً... كما أحبُّها أظهرتها».
محظوظ من لا يزال يؤمن بالأمل. لإيلي فهد فلسفته: «نحن في حاجة إليه أكثر من أي وقت. دوره الآن الولادة فينا». لكن... ما إن أوشكنا على المقاطعة لاستنكار نظرية اجتراح الآمال من صلب الفواجع، حتى استدرك: «أعلم أنّ ما أقوله صعب. قد يقال عني: إنه يعيش على كوكب آخر! ربما. لدي إيمان بأنّ الأمور ستكون على ما يرام. لن أعطي السيستم اللبناني فرصة سرقة أحلامي. لن أدعه يستلذ بتحطيمي. أواجهه بالفن والأمل».
وحده مشهد الطوابير في الأفران وأمام المحطات، يُسكت أعماقه: «ماذا نقول أمام قهر كهذا؟». ألا تستعدّ لفيديو يفجّر الغضب في داخلك؟ «لم أستطع بعد». استوقفه في صف البنزين المرهِق ثلاثة شباب خلعوا ستراتهم وفتحوا أبواب سياراتهم للتسامر بانتظار الفرج. «حديثهم دليل إلى أننا شعب يجيد تقطيع الوقت. هناك حلول لكتلة العقد الملتفّة حول أعناقنا. حلول بسيطة لكنها عميقة التشبّث بالحياة». بلغ الثالثة والثلاثين، وصوّر فيديو عن الأحبة: بعضهم يبقى وروداً، بعضهم يذبل، والبعض الثالث يتحول وطناً. «ترتاح الأعماق حين نزيل شيئاً من أحمالها. بالفن يلتئم الجرح».