عندما فاز حزبه الحاكم بغالبية مقاعد البرلمان خلال الانتخابات التي جرت قبل 9 سنوات، صرح لي كوان يو، مؤسس سنغافورة الحديثة قائلا: «من فضلكم، لا تتصوروا أنكم قادرون على تغيير الحكومات. الشباب لا يدركون ذلك».
مع انتقال الأحداث إلى يومنا هذا، تغيرت الكثير من الأمور في هذه المدينة - الدولة ذات التقنيات العالية، وبات كثيرون هنا يجدون صعوبة في تصور «سنغافورة من دون لي». انتقل السياسي المخضرم البالغ من العمر 91 عاما إلى المستشفى إثر إصابته بداء الالتهاب الرئوي مطلع فبراير (شباط) الماضي ووضع على جهاز التنفس الصناعي. وصرح مكتب رئيس الوزراء - وهو نجل لي الأكبر ويدعى لي هسين لونغ - الثلاثاء الماضي بأن حالته تدهورت نظرا لإصابته بعدوى، وفي اليوم التالي، صرح بأن الحالة الصحية للي شهدت مزيدا من التدهور وأنه انتقل إلى وحدة العناية المركزة في حالة مرضية شديدة. ورغم تعرض لي للمرض من قبل والتعافي منه، فإن هناك شعورا عاما هذه المرة بأن مرضه خطير للغاية وأن سنغافورة، مع اقتراب الذكرى الخمسين للاستقلال، قد تشهد لحظة تاريخية جديدة. أشرف لي على عملية الاستقلال عن بريطانيا وماليزيا عام 1959 بعدما صار أول رئيس للوزراء في تلك الجزيرة بجنوب شرقي آسيا، ثم استغل رؤيته الاقتصادية بعيدة المدى وقبضة حديدية حاكمة لتحويل سنغافورة من مركز تجاري استعماري على نمط العالم الثالث إلى مركز تجاري متألق ومتعدد الثقافات. حدث ذلك من خلال تشجيع الأعمال عبر مجموعة يسيرة من اللوائح والضرائب المخفضة، وباستخدام الحكومة القوية لرعاية المواطنين. غير أن التقدم جاء على حساب الحريات المدنية، مع إخماد وسائل الإعلام - من خلال دعاوى التشهير في كثير من الأحيان - والتسامح المحدود للغاية مع المعارضة السياسية. ورغم انتهاء فترة حكمه، رئيسا للوزراء، الممتدة لثلاثة عقود بحلول عام 1990، فإن لي احتل مناصب استشارية حتى السنوات الأربع الأخيرة واستمر في ممارسة نفوذه من خلال نجله، الذي صار رئيسا للوزراء عام 2004، ومن خلال حزب العمل الشعبي، الذي كانت له مطلق السيطرة على برلمان البلاد. ويقول إرنست بوير، رئيس شؤون جنوب شرقي آسيا لدى مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (مقره واشنطن): «مثل كل الرجال العظماء الذين شيدوا جنوب شرقي آسيا في فترة ما بعد الاستعمار، فإن لي كوان يو سيستمر في منصبه حتى آخر نفس يتنفسه». وأضاف: «تبحث سنغافورة الآن عن التغيير والتطور، إلا أنهم ليسوا واثقين من ذلك. أعتقد أن شيئا من الخوف والقلق يساورهم حول الأمر برمته».
وحتى رئيس الوزراء الحالي يعترف بأن سنغافورة تقف عند منعطف هام. يعترف كبار السن هنا كيف كان شكل الحياة قبل التحول الكبير وكيف كانوا مستعدين لتحمل القيود المفروضة عليهم، إلا أن الشباب الذين هم في سن العشرينات والثلاثينات لا يتحملون، وبشكل متزايد، استمرار تلك القيود. ويقول عبد القادر بن إبراهيم، وهو من مواطني الجزيرة وفي الخمسينات من عمره ويدير متجرا لبيع الملابس في حي الشارع العربي: «كانت احتياجات الأجيال السابقة محل رعاية الحكومة وكانوا سعداء بوجود لي حينما كان رئيسا للوزراء، لكن جيل الشباب الآن يتميز بصراحة أكبر، غالبيتهم من ذوي التعليم العالي ويتحدرون من عائلات ميسورة لم تضطرهم الظروف للمعاناة والنضال ليبقوا على قيد الحياة، وكانوا أكثر عرضة وانفتاحا على العالم الخارجي، ولذلك يجب أن يكون هناك قدر ما من التغيير في المستقبل».
كارلتون تان، من الصحافيين المحليين وأحد مواطني سنغافورة الصغار الذين تنتزعهم مشاعر مختلطة حول الزوال المنتظر للرجل الذي وصفه بأنه «المستبد المحبوب». وكتب في عمود أخير له يقول: «إننا نحب ونكره، ونحترم ونحتقر، ونعتز ونمقت الرجل في وقت واحد. نشعر بالامتنان لعقود مضت علينا من التقدم الاقتصادي، لكننا نتساءل ما إذا كان من الضروري التضحية بحرياتنا مقابل ذلك التقدم. نشعر بالشكر لقاء الاستقرار والأمان، لكننا نتساءل ما إذا كنا نستطيع المحافظة على ذلك من دون وجود مجتمع مدني قوي».
الآن، يمكن لأهل سنغافورة تكريم الأب المؤسس لدولتهم من خلال طرح أسئلة عسيرة، وتبني خيارات شاقة، وتصور سنغافورة مختلفة، كما استطرد الصحافي تان. وهناك فرصة قريبة ومواتية للتصويت لصالح سنغافورة مختلفة؛ فخلال الانتخابات العامة الأخيرة التي عقدت عام 2011 فقد الحزب الحاكم 6 من أصل 87 مقعدا من مقاعد البرلمان - وهي النتيجة التي بدت كأنها إيذان بالتغيير المنشود. ويتوقع فوز المعارضة بالمزيد من المقاعد البرلمانية في الانتخابات المقرر عقدها العام المقبل. تشهد التغييرات السياسية تسارعا في الأحداث مثل مثيلتها الاقتصادية تماما كلما اتسعت فجوة التفاوت في الدخل، حيث يرتفع عدد أصحاب المليارات، بينما يعيش ربع تعداد السكان تحت خط الفقر ويكافحون يوميا وباستمرار من أجل تأمين أساسيات الحياة.
تعتبر الهجرة كذلك من القضايا الملحة، إذ يشكل الأجانب ثلث سكان سنغافورة، وفي حين أن أكثريتهم يعملون في المهن المعمارية والوظائف المنزلية التي يعزف مواطنو سنغافورة المتعلمون عن العمل فيها، فإن هناك شعورا متناميا بأنهم يأخذون الوظائف التي يريدونها لأنفسهم.
وتنظر حكومة سنغافورة باهتمام إلى جزيرة هونغ كونغ التجارية المتألقة حيث تسببت الدعوات المطالبة بمزيد من التمثيل الديمقراطي في نشوب احتجاجات ضد الحكومة العام الماضي، فقد بدت أكثر استعدادا لإيجاد مساحة ما للمجتمع المدني. لاحظت جيليان كوه، وهي من كبار الباحثين في معهد الدراسات السياسية لدى جامعة سنغافورة، وجود نشاط مجتمعي متصاعد أفضى إلى تغييرات ملموسة خلال السنوات الأخيرة مثل إصلاح نظام عقوبة الإعدام، وتعزيز القوانين الخاصة بالتحرش، وإعادة تقييم سياسات الدعم الاجتماعي.
ويعتقد كثيرون أن رحيل لي قد تكون له آثار بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية، على اعتبار أن واشنطن كانت تعتمد على لي لعقود طويلة في تفسير الأحداث الجارية في آسيا. ويقول غراهام أليسون، وهو بروفسور في كلية كنيدي بجامعة هارفارد والمؤلف المشارك لكتاب حول لي بعنوان «الأستاذ الكبير»: «إن لي من الشخصيات القادرة على فهم الصين وقياداتها وخياراتها من الداخل. لا يوجد أحد يمكنه لعب ذلك الدور، ومعاونة الزعماء الصينيين فعليا في تفهم الولايات المتحدة ومساعدة قادة الولايات المتحدة كذلك في إدراك بعض الأمور حول الصين».
غير أن بعض المحللين يلاحظون أن إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما قللت من الاعتماد على سنغافورة. وفي حين اعتاد لي على زيارة البيت الأبيض سنويا، فإن نجله لم يزر واشنطن إلا مرة واحدة خلال فترة ولاية باراك أوباما. ويرجع ذلك في جزء منه إلى إقامة علاقات أفضل مع دول آسيوية أخرى، وامتلاك معلومات استخبارية أفضل حول الصين.
غير أن أليسون يقول إنه من قبيل الغباء السياسي أن تنأى واشنطن بذاتها عن سنغافورة، ويقول: «إننا بحاجة إلى شخص مثل لي كوان يو أكثر من أي وقت مضى، يأتي من دولة صغيرة ناجحة للغاية، ويمكنه النظر إلى الصينيين والأميركيين بنظرة مستقلة وحكيمة».
* خدمة «واشنطن بوست»
خاص بـ«الشرق الأوسط»





