تحديات أمنية لإسرائيل لم يبلورها بنيت

في عهد إدارة أميركية ديمقراطية تختلف توجهاتها عن ترمب

تحديات أمنية لإسرائيل لم يبلورها بنيت
TT

تحديات أمنية لإسرائيل لم يبلورها بنيت

تحديات أمنية لإسرائيل لم يبلورها بنيت

حمل رئيس الوزراء الإسرائيلي الجديد نفتالي بنيت بالأمس معه إلى العاصمة الأميركية واشنطن رؤية حكومته لما تعتبرها أولوياتها ورؤيتها لمستقبل في ظل الأوضاع السياسية والأمنية المتسارعة. ومما لا شك فيه أن الجديد في الأمر، ليس فقط أنه لأول مرة هناك رئيس حكومة إسرائيلي جديد منذ مارس (آذار) 2009 يحمل ملفاتها إلى الإدارة الأميركية، بل أن في البيت الأبيض أيضاً إدارة ديمقراطية تحمل مقاربات – إن لم يكن سياسات – مختلفة عن سابقتها الجمهورية تحت رئاسة دونالد ترمب. ثم إن لقاء بايدن - بنيت يأتي أمام خلفيات إقليمية مهمة، في مقدمها الملف الإيراني النووي الذي عادت واشنطن إلى التفاوض بشأنه، وتولي المتشدد الجديد إبراهيم رئيسي منصب الرئاسة في إيران، ومستقبل نفوذ طهران في العراق وسوريا ولبنان وغزة، وأخيراً، لا آخراً، الانسحاب الأميركي الإشكالي من أفغانستان، ما قد يعني إطلاق يد «حركة طالبان» والقوى المتعاطفة معها في الشرق الأوسط.
في الوقت الذي كانت المعارضة الإسرائيلية تهاجم نفتالي بنيت وحكومته، لأنها لم ترد على صاروخ أُطلق باتجاه إسرائيل من قطاع غزة، وتعتبره «متهرباً من المواجهة مع (حماس)»، هرع بنيت مهرولاً إلى مقر قيادة فرقة غزة في اللواء الجنوبي للجيش الإسرائيلي، التي تقف على أهبة الاستعداد لمواجهة أي توتر حربي جديد.
بنيت أخذ معه في حينه وزير الأمن في حكومته، الجنرال بيني غانتس، ورئيس أركان الجيش، أفيف كوخافي، ورئيس هيئة الأمن القومي في مكتب رئيس الوزراء، الدكتور إيال حولاتا، وقائد المنطقة العسكرية الجنوبية اللواء إليعيزر توليدانو، وقائد فرقة غزة العميد نمرود ألوني، ومسؤولين في المخابرات. واعتبرها يومذاك جلسة طارئة تحمل العنوان «تقييم الأوضاع في الحدود مع غزة»، وأطلق التصريح: «سنعمل في الوقت والمكان المناسبين، وفي الظروف المناسبة لنا، وليس لأي طرف آخر».
ثمة مَن حسب أنه يهدد «حماس»، إلا أنه في الواقع كان يخاطب الداخل الإسرائيلي أكثر. لقد حاول توضيح أن سكوته على الصاروخ لم يكن ضعفاً، بل لأنه اقتنع برسالة «حماس»، التي حاولت بعدة طرق وعن طريق أكثر من وسيط، تأكيد أنها لم تكن على علم بنية إطلاق هذا الصاروخ، وتنصلت منه بشكل تام.
كان بنيت قد اتخذ قراراً بألا يرد هذه المرة على الصاروخ، والجيش وافق معه. لكن هذا الموقف يبدو متناقضاً مع السياسة الجديدة التي وضعها بنيت نفسه وتباهى بها على الملأ في أعقاب الحرب الأخيرة على القطاع. وبموجبه، صار يرسل طائراته المقاتلة لقصف غزة، حتى بعد إطلاق بالونات متفجرة.

أسئلة إسرائيلية
وإذا كانت الصحافة الإسرائيلية تتعاطى مع بنيت وحكومته بقفازات من حرير، باعتبار أنه لم تمر 100 يوم بعد، ولا تجوز مهاجمتها، فإن المعارضة بقيادة بنيامين نتنياهو راحت تهاجمه بشدة، وتطرح تساؤلاً لاذعاً، وتقول؛ إذا كان بنيت يخاف من «حماس»، فماذا سيفعل عندما يطلق «حزب الله» 1000 صاروخ في اليوم، ويدفع بقوات الكوماندوز عنده للتسلل إلى البلدات الإسرائيلية لتنفيذ عمليات؟ والسؤال الصعب؛ ماذا ستفعل عندما تفتح الميليشيات الإيرانية جبهة جديدة على إسرائيل في الشمال الشرقي؟ بل ماذا ستفعل عندما تقرر إيران، وهي بقيادة رئيس يميني محافظ ومتطرف مثل إبراهيم رئيسي؟
الحقيقة أن هذه التساؤلات تدور أيضاً داخل أروقة الحكومة وبين أقطابها، ولم يجدوا جواباً عليها حتى الآن. فهم عندما شكلوا هذه الحكومة كانوا يهدفون أولاً وقبل كل شيء للتخلص من حكم بنيامين نتنياهو. بعضهم رأوا أنه حكم فاسد يجب التخلص منه. وبعضهم اتخذ موقفاً عدائياً منه، فانضم إلى الهبة المتصاعدة بغرض التغيير، مجرد التغيير. وبعضهم دخلها حرباً انتقامية. وآخرون لمسوا اتجاه الريح في واشنطن، فقرّروا دخول السباق للفوز بقلبها، ولذلك هاجموا كل قوى التطرف من حزب كهانا، برئاسة إيتمار بن جبير، الممثل بـ6 مقاعد في الكنيست، حتى «طالبان».
وبنيت، الذي يعرف مكانة الولايات المتحدة في قلوب الإسرائيليين، سيبحث في واشنطن مع الرئيس جو بايدن، وحشد من القادة الآخرين في الخارجية والدفاع جملة من القضايا. وستوجه إليه عدة أسئلة في هذه القضايا، بدءاً من الموضوع الإيراني حتى موضوع أفغانستان. وكذلك سوريا ولبنان... حتى الصين. وستوجه إليه أسئلة في الموضوع الفلسطيني أيضاً. ولكي يجيب، يفترض أن يكون قد حدد مع وزرائه وجيشه ومخابراته رؤية استراتيجية واضحة.

التحديات الجدّية
بنيت قبل التوجه إلى واشنطن أعرب عن رغبته في وضع قضية إيران على رأس سلم أولويات مباحثاته في واشنطن. وهناك سيقول إن طهران استغلت انسحاب إدارة دونالد ترمب من الاتفاق النووي واكتسبت المعرفة والخبرة اللازمتين للاقتراب من تطوير الأسلحة النووية. فهي حققت تقدماً في تخصيب اليورانيوم إلى مستويات عالية وتشغيل أجهزة طرد مركزي متقدمة، وبدأت في إنتاج اليورانيوم المعدني. وسيضيف إنه من غير الواضح بعد إذا كانت طهران في عهد الرئيس الجديد، إبراهيم رئيسي، مهتمة بالعودة إلى الاتفاق.
التقديرات الإسرائيلية تقول إن القيادة الإيرانية تماطل وتكسب الوقت في «لعبة الاتهامات»، ولذا يجب التعامل مع السيناريوهات المحتملة بصرامة وحزم. وسيحاول وضع الدور الإيراني في الساحة الإقليمية، باعتبار أنها تواصل ترسيخ نفوذها السياسي والعسكري والاقتصادي في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وتدير دفتر حسابات مفتوحاً مع إسرائيل.
حكومة بنيت أحدثت بالفعل تغييراً ملموساً في الموقف الذي وضعه رئيس الحكومة السابق، بنيامين نتنياهو، من الاتفاق النووي. وبنيت يرى اليوم ضرورة التعاون الوثيق مع واشنطن، لا الصدام معها. وبدلاً من معارضة أي اتفاق جديد سيسعى للتأثير على موقفها بحيث يجري إدخال بنود تلائم السياسة الإسرائيلية من جهة... كأن يكون هذا اتفاقاً «أوضح أطول وأقوى وأشد قيوداً»، مع الحفاظ على حرية إسرائيل في العمل. ويريد أيضاً ضمانات لوجود خيار عسكري إسرائيلي ذي مصداقية تجاه إيران والتحسب لسيناريوهات الفشل في الوصول إلى اتفاق، والوصول إلى «عتبة قريبة» حتى تحقيق «اختراق (النووي)». ويريد إدخال بند يتعلق بأنشطة إيران الإقليمية وتقييد إنتاج الصواريخ الباليستية.
موضوع الساحة الحربية المحيطة بإسرائيل، والخاضعة لتأثير مباشر لإيران، مرشح للبحث جدياً. فمع ظهور التطورات الجديدة في أفغانستان، سيعيد قول ما سبق وطُرح في التصريحات الإسرائيلية. ففي تل أبيب يرون في هذه الأحداث برهاناً على أنه «لا يمكن الوثوق بالاتفاقيات مع تيارات إسلامية شبيهة بـ(حركة طالبان)، من إيران حتى (حزب الله) و(حماس) وغيرهما». وسيعبر عن القلق الإسرائيلي من الأوضاع في لبنان؛ حيث يسود انهيار اقتصادي وسلطوي ويسيطر على المشهد صراع القوى الذي لا ينتهي، وتبدو فيه إيران مصرة على التدخل والحسم لصالحها. لديها «حزب الله»، الذي يبدو منضبطاً أمام إسرائيل ومنفلتاً في دفع المصالح الإيرانية... وقد تنشأ أوضاع ودينامية للتصعيد الحربي.

حالة «حزب الله»
يورام شفايتسر، الباحث في معهد دراسات الأمن القومي في تل أبيب، يرى أن «قيام (حزب الله) بإطلاق 19 صاروخاً على قطاع جبل روس (في مزارع شبعا) في 6 أغسطس (آب) الحالي، رداً على غارة جوية شنتها القوات الجوية الإسرائيلية على لبنان، وبعد صمته على نيران المدفعية الإسرائيلية على جنوب لبنان في اليوم السابق، كان أمراً غير عادي. فمن جهة تجرأ على إطلاق صواريخ، وفي المقابل، أكد أنه غير معني بحرب... بل وجّه صواريخه إلى مناطق مفتوحة، تعبيراً عن ضبط النفس». ويضيف الباحث؛ ينبع ضبط النفس الطوعي الذي ينتهجه «حزب الله» من الوضع المتردي في لبنان المنهار، الذي يؤثر عليه أيضاً. هناك تفسير يدعي أن «حزب الله» مهتم حالياً بتسخين الحدود من أجل ترسيخ مكانته الحصرية كـ«مدافع عن لبنان» أمام منتقديه في الساحة الداخلية، وصرف الأنظار عن انتقاده اللاذع لدوره في فساد المؤسسات وانهيار الاقتصاد اللبناني والنظام السياسي، وكذلك بفعل الادعاءات بشأن مسؤوليته عن الانفجار الرهيب في مرفأ بيروت قبل عام بالضبط. ومن ناحية أخرى، هناك الادعاء الحاسم ضده بأن تأجيج النار المتعمد مع إسرائيل لا يخدم التنظيم، خاصة في ظل اتساع الاحتجاجات ضده، لأن ذلك يجرّ لبنان إلى مواجهة مع إسرائيل، لا يريدها أحد، خدمة لرعاته الإيرانيين.
الجولة الأخيرة عززت هذا الادعاء، بل إن خصومه باتوا يجرؤون على انتقاده علناً أكثر مما كان عليه في الماضي. وتجلى التعبير الملموس عن معارضة تحركاته في حادثة وقعت في قرية شويا الدرزية، عندما هاجم سكانها بغضب عناصر «حزب الله» العائدين من إطلاق الصواريخ على إسرائيل، بحجة أن القصف من محيط القرية كان من الممكن أن يؤدي إلى هجوم إسرائيلي عليها. وأثار نشر الفيديوهات الخاصة بالحدث على مواقع التواصل الاجتماعي ردود فعل غاضبة ضد «حزب الله»، لكن في المقابل، كان هناك من سارع للدفاع عن «المقاومة» اللبنانية، من أجل تهدئة التوتر بين الدروز والشيعة. وقام نصر الله الذي خشي من تضرر صورة التنظيم داخل لبنان، بتبني لهجة تصالحية في خطابه الأخير، وأوضح أن إطلاق النار وقع في منطقة مفتوحة وغير مأهولة، بل نشر مقطع فيديو يظهر أن إطلاق النار تم من بين أشجار كثيفة وليس من داخل البلدة. لكن رجال «حزب الله»، قاموا في الوقت نفسه، بإرسال رسائل تهديد إلى القرية الدرزية لردع سكانها عن القيام بعمل مماثل في المستقبل ودفع قادتهم إلى تهدئة النفوس في صفوف الطائفة.

جبهتا فلسطين وسوريا
من جهتها، تقول أورنا مزراحي، الباحثة في المعهد نفسه، إن النيران المتقطعة التي أطلقتها الفصائل الفلسطينية على الحدود، في الآونة الأخيرة، حلقة في سلسلة عمليات «محور المقاومة» بقيادة إيران، في إطار المواجهة مع إسرائيل... وشملت تجنيد «حماس» و«الجهاد الإسلامي» الفلسطيني، سواء أكان ذلك في قطاع غزة أو في التجمعات الفلسطينية في لبنان. ثم إن مشاركة زعيم «حماس» إسماعيل هنية في حفل تنصيب رئيسي في طهران، وإعلانه أن تنظيمه يعتبر نفسه شريكاً في محور المقاومة، إلى جانب زياد النخالة زعيم «الجهاد الإسلامي» في فلسطين، نعيم قاسم، نائب نصر الله، صورٌ تعبّر عن تعاون أوثق بين مركبات هذا «المحور». ويبدو تورط إيران أخيراً في تسخين الحدود الإسرائيلية اللبنانية، من قبل الفصائل الفلسطينية بديهياً تقريباً. إذ درّبت إيران مبعوثيها؛ «حزب الله» و«الجهاد الإسلامي» الفلسطيني و«حماس» (جنباً إلى جنب مع الميليشيات الشيعية في سوريا والعراق واليمن)، طوال سنوات وحثّتها على مضايقة إسرائيل وخلق شعور لديها بالحصار، وكان آخر ذلك فتح جبهة أخرى ضدها من لبنان. هذا، في ظل تصاعد التوترات بين إيران وإسرائيل في سوريا وفضاء «السايبر» والحلبة البحرية.
أيضاً، في إسرائيل هناك جهد يكرس لمتابعة التطورات في سوريا أيضاً؛ حيث تصرّ إيران على التموضع فيها عن طريق ميليشيات خاصة بها جلبتها من أفغانستان وباكستان والعراق، فضلاً عن ضباط «الحرس الثوري» وطبعاً «حزب الله». وهي - حسب التقديرات في الجيش الإسرائيلي - تعمل على بناء جبهة حربية مباشرة مع إسرائيل؛ خصوصاً في الجولان ودرعا وغيرهما من مناطق الجنوب السوري. ومع أن سلاح الجو الإسرائيلي ينفذ مئات الغارات الحربية على مواقع هذه الميليشيات ومخازن الأسلحة وقوافل نقل الأسلحة، تدرك إسرائيل أن جهودها يمكن أن تعطل وتعرقل وتؤخر... لكنها لن تمنع نشوء هذه الجبهة في النهاية.

حيرة في مجلس الأمن القومي الإسرائيلي
> في خلفية المداولات التي يجريها مجلس الأمن القومي الإسرائيلي حول هذه التحديات، تظهر حيرة إزاء التعاطي معها، وآراء مختلفة، وفي بعض الأحيان متناقضة، حول سبل العمل. وثمة من يقول إن إسرائيل تواجه تحدياً مزدوجاً.
من جهة، يوجد ضعف في معادلة الردع القائمة التي بموجبها سيقابل أي هجوم إسرائيلي في لبنان بردّ، كما وعد «حزب الله». حرص إسرائيل على الالتزام بقواعد اللعبة هذه ساعد في إرساء هدوء نسبي على مدى العقد الماضي، على طول الحدود اللبنانية، لكنه سمح في الوقت نفسه للمنظمة بمواصلة تعزيز قوتها، لتصبح التهديد العسكري التقليدي الرئيس لإسرائيل في طليعة محور المقاومة الإيراني.
ومن جهة ثانية، يرون محاولة «محور المقاومة» بقيادة إيران، لتحويل الحدود الإسرائيلية - اللبنانية إلى ساحة صراع نشطة، بطريقة تخدم إيران و«حزب الله» و«حماس» على حد سواء، من دون الانجرار إلى مواجهة عسكرية واسعة النطاق... لأن هذا المحور يثق بأن إسرائيل هي التي ستتجنب المغامرة في الظروف الحالية في لبنان، كي لا تتسبب في اندلاع حرب شاملة تشمل القتال على عدة جبهات.
فكيف ستتصرف؟ هل تستمر في الحفاظ على السياسة الحالية، والرد بشكل منضبط، وفقاً لقواعد اللعبة، على أي محاولة لإيذاء جنودها أو مدنيّيها، مع الحفاظ على قواعد اللعبة ضد «حزب الله»، أم تُقدم على تعزيز الردع بالرد على أي عملية من لبنان، لكن بقوة أكبر من ذي قبل، وبشكل أساسي عبر الضربات الجوية الكفيلة بتقويض معادلة الردع التي يحاول «حزب الله» ترسيخها، أم تستغل إسرائيل ضائقة «حزب الله» والمبادرة إلى تحرك عسكري مفاجئ وموضعي، يقوض قدرات التنظيم (مع التركيز على مشروع الدقة الصاروخية)، في محاولة لإعادة الهدوء إلى الحدود بعد جولة قصيرة من الاشتباكات، لكن مع الأخذ بالاعتبار والاستعداد لردّ قاسٍ (هجوم على الجبهة الداخلية) متوقع من «حزب الله»؟
يعتقد الجنرال إسحاق إبريك، وهو عضو سابق في رئاسة أركان الجيش، أن قوة الردع الإسرائيلية تصدّعت من جراء هذه الحيرة. ويرى إبريك، الذي يمثل تياراً في المؤسسة العسكرية والسياسية، أن المحور الإيراني يعد نفسه لحرب شاملة على عدة جبهات في آن واحد. وبالتالي، على إسرائيل استباق الحدث وتوجيه ضربة مسبقة تردع هذا المحور عن الإقدام على حرب كهذه. ويتساءل تيار إبريك: «ما المصلحة في الاستمرار بهذه الحيرة؟ ولماذا ننتظر حتى يكملوا مشروعهم ويجهزوا أنفسهم لحرب كهذه، بينما نحن قادرون على توجيه ضربات رادعة؟».
ثم يجيبون: «إذا كان خوفنا هو من ردّ فعل قاسٍ يفجّر حرباً شاملة بضرب الجبهة الداخلية، وإيقاع إصابات شديدة في صفوف المدنيين الإسرائيليين، فينبغي علينا إذاً أن نعد الجمهور لمثل هذه الحالة، ونوضح أن أي حرب متأخرة ستكون أسوأ، وستكون نتائجها أقسى».
أيضاً، يرى أصحاب هذا التيار ضرورة رفع مستوى التنسيق مع واشنطن، وإعداد الرأي العام العالمي أيضاً لهذه التحديات كي يكون أي حراك إسرائيلي في هذا الاتجاه مفهوماً دولياً ومدعوماً أميركياً بشكل فاعل.
إلا أن الحسم في هذه القضايا لم يأتِ بعد. والآراء في الحكومة الإسرائيلية تبدو منقسمة. وفي كل الأحوال، لم يبلور بنيت بعد موقفاً محدداً منها. وهو يحتاج إلى اللقاءات في واشنطن حتى تتبين له حدود المناورة. وهنا قد يساعده القادة الأميركيون في بعض القضايا... لكن سيكون عليه أن يتوقع أيضاً مواقف أميركية لا تعجبه ولا تعطيه إجابات شافية.



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.