الدولة العراقية... تناقضات المواطنة والهوية

بعد مائة عام على تتويج فيصل الأول

الملك فيصل الأول
الملك فيصل الأول
TT

الدولة العراقية... تناقضات المواطنة والهوية

الملك فيصل الأول
الملك فيصل الأول

في الثالث والعشرين من شهر أغسطس (آب) عام 1921 تم تتويج فيصل الأول ملكاً على العراق. وفي الثالث والعشرين من أغسطس الحالي أكملت الدولة العراقية عامها المائة. لم تنظم احتفالات جماهيرية كبرى تليق بحدث بهذا الحجم، لكنه نال اهتماماً رسمياً عبر تغريدات وبيانات، فيما اشتعلت كالعادة وسائل الإعلام؛ خصوصاً مواقع التواصل الاجتماعي، ومجموعات النخب السياسية والفكرية في محاولة لتسليط الضوء على هذا الحدث من جوانبه المختلفة؛ السلبية منها والإيجابية.
ففي حين رأى كثيرون أن العراق كان يوماً ما دولة بمؤسسات كاملة وحياة مستقرة وشبه ديمقراطية وهي الفترة الملكية (1921 - 1958) ومنهم من يمد فترة الاستقرار عبر مؤسسات دولة رصينة إلى الأنظمة الجمهورية (1958 - 2003) بما في ذلك الحقبة التي تسلم فيها البعثيون السلطة (1968 - 2003)، فإن نسبة المدافعين عن حقبة ما بعد عام 2003 قليلة بالقياس إلى من قارن بين هذه التجارب من عمر العراق الذي بلغ مائة عام.
هناك شبه اتفاق بين الجميع على أن الآباء المؤسسين للعراق سابقاً ولاحقاً لم ينجحوا في بناء دولة بهوية موحدة.
الملك فيصل الأول (توفي عام 1933) سبق جميع العراقيين قبل كل وسائل ووسائط الإعلام الحديث باستثناء الصحف (الإذاعة دخلت العراق عام 1936 أول دولة عربية) في التعبير عن خيبة أمله بشأن إمكانية بناء دولة بهوية وطنية موحدة. فقبيل وفاته بأعوام قال في رسالة له إلى العراقيين: «أقول وقلبي ملآن أسى… إنه في اعتقادي لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد، بل توجد تكتلات بشرية خيالية، خالية من أي فكرة وطنية، متشبعة بتقاليد وأباطيل دينية، لا تجمع بينهم جامعة، سمّاعون للسوء، ميالون للفوضى، مستعدون دائماً للانتفاض على أي حكومة كانت، فنحن نريد؛ والحالة هذه، أن نشكل شعباً نهذبه وندرّبه ونعلمه، ومن يعلم صعوبة تشكيل وتكوين شعب في مثل هذه الظروف يجب أن يعلم أيضاً عظم الجهود التي يجب صرفها لإتمام هذا التكوين وهذا التشكيل... هذا هو الشعب الذي أخذت مهمة تكوينه على عاتقي».
هذا التوصيف الذي ينسب إلى الملك فيصل الأول انشغل به المؤرخون والباحثون في التاريخ والشأن العراقي طوال العقود العشرة الماضية من عمر الدولة العراقية. فمنهم من أنكره، ومنهم من أثنى عليه. فالذين أنكروا على الملك، سليل الأسرة الهاشمية، هذا التوصيف يستندون إلى تاريخ طويل موغل في الزمن من عمر العراق الذي ربما يتعدى 7000 عام؛ بما في ذلك الحقبة السومرية والكلدانية والآشورية، وبالتالي لا يحق لمواطن غير عراقي (الملك فيصل الأول حجازي) أن يصف العراقيين بمثل هذا الوصف، مشيرين إلى أنه إذا كان هو فشل في بناء دولة؛ فهذه مسؤوليته لا مسؤولية العراقيين.
في مقابل ذلك، فهناك غالبية اتفقت مع رأي الملك فيصل الأول من منطلق أنه حتى وهو يطلق مثل هذه المقولة كان بنى دولة جرى تداول السلطة فيها بطريقة سلسة فضلاً عن أنها كانت واحدة من أهم دول الشرق الأوسط، لا سيما أواخر الخمسينات حين تزعمت «حلف بغداد» قبل نهاية الحقبة الملكية بطريقة مأساوية صبيحة الرابع عشر من يوليو (تموز) عام 1958.
وبصرف النظر عن الجدل الذي أثارته مقولة فيصل الأول بشأن العراقيين، فإن الأخطر منه هو ما أحدثه عالم الاجتماع العراقي المعروف علي الوردي من هزة في المجتمع العراقي حين حلل الشخصية العراقية بطريقة أثارت مزيداً من الجدل بين رافض ومؤيد، علماً بأن كفة المؤيدين هي الراجحة. فالوردي رأى أن الشخصية العراقية شخصية ازدواجية تحمل قيماً متناقضة هي قيم البداوة وقيم الحضارة في الوقت نفسه. وفي سلسلة كتب ومحاضرات مهمة على مدى 6 عقود من الزمن كان فيها الوردي «الرقم واحد» في هذا الميدان، أثبت أن لجغرافيا العراق أثراً في تكوين الشخصية العراقية. فالعراق بلد معقد من ناحية الجغرافيا؛ ففي الوقت الذي يوجد فيه نهران كبيران (دجلة والفرات) فإن له امتدادات صحراوية بقيت لفترات طويلة من الزمن عرضة لهجرات كبيرة أثرت على بنائه ونسيجه المجتمعي. وطبقاً للوردي؛ فإن العراقي ضحية قيم متناقضة حضرية وبدوية في وقت واحد. فهو في الوقت الذي يدافع فيه عن الكرامة والشهامة؛ فإن الجانب الآخر من حياته في مدن شهدت مستويات عالية من التحضر تجبره على الانصياع لقيم التحضر والتمدن.
ومع أن ما أفصح عنه الملك فيصل وما حلله فيما بعد الوردي يخص الشخصية العراقية؛ فإن ذلك انسحب بالتالي على الدولة العراقية التي هي دولة مكونات إثنية ومذهبية ودينية؛ الأمر الذي انسحب على طبيعة بناء الدولة؛ حيث عجز العراقيون، وفي مقدمتهم الآباء المؤسسون، عن بناء دولة لا تتحول بعد نحو مائة عام على بنائها دولة شبه فاشلة طبقاً لمجموعة مؤشرات تبدأ من جواز السفر العراقي الذي هو الآن في ذيل القائمة، فضلاً عن مؤشرات الشفافية والفساد حيث يحتل العراق مراتب متقدمة لجهة الفساد ومتأخرة لجهة الشفافية.
ومن بين المؤشرات الأخرى طبيعة الهجرة والنزوح؛ سواء داخل العراق في أماكن أكثر أمناً مثل إقليم كردستان الذي يجد نفسه الآن، في ظل الفشل في بناء دولة بهوية مواطنة موحدة، شبه دولة مستقلة... والهجرة خارج العراق، وآخرها ما حدث ولا يزال للعراقيين العالقين بين بيلاروسيا وليتوانيا في طريقهم نحو الهروب إلى أوروبا.
وبينما بدت الحقبة الملكية مقبولة من حيث وجود دولة مؤسساتها مكتملة على كل الصعد ويشعر فيها المواطنون بقدر كبير من الاستقرار، فإن إشكالية الهوية ظهرت في الحقب الجمهورية، لا سيما مع بدء الثورة الكردية أوائل ستينات القرن الماضي واستمرارها بأشكال عسكرية وسياسية مختلفة حتى اتفاقية الجزائر عام 1957. وبعد نجاح «حزب البعث» في الوصول إلى السلطة عام 1968 وبروز نجم صدام حسين بدأت أولى ملامح المعارضة العراقية بنسختين (شيعية وكردية)؛ الأمر الذي طرح لأول مرة إشكالية الهوية. فالعراق الذي تحكمه الأقلية السنية من وجهة نظر الشيعة وهم الغالبية بدءاً من عام 1921 وحتى 2003، بدا كأن هناك اختلالاً في التوازن الوطني فيه؛ الأمر الذي أدى إلى ظهور مصطلحات مثل «المظلومية الشيعية» التي تشعر بتهميش طائفي، ومصطلح «الحقوق الكردية» حيث يشعر الأكراد بتهميش عرقي. وبينما لم تنجح قوى المعارضة في إسقاط نظام صدام حسين إلا بالاستعانة بالأميركيين عام 2003؛ فإن هذه المعارضة وعبر ما سمي بعد وصولهم إلى الحكم «التحالف الشيعي - الكردي» لم تتمكن من بناء دولة بهوية مواطنة؛ بل عملية سياسية لا تزال ترتبط كل مؤشرات الفشل بها؛ بدءاً من العلم الوطني والنشيد الوطني وكل ما يرتبط بالوطنية التي لم يبق منها، مثلما يدوّن العراقيون في وسائل التواصل الاجتماعي، سوى الكهرباء التي تسمى «وطنية» في حال كانت من الدولة، بينما تسمى «سحب» في حال كان مصدرها المولدات الأهلية.



ملاهي سوريا وحاناتها تعيد فتح أبوابها بحذر بعد انتصار فصائل المعارضة

سوري يصب شراباً محلياً في سوق باب توما بدمشق (رويترز)
سوري يصب شراباً محلياً في سوق باب توما بدمشق (رويترز)
TT

ملاهي سوريا وحاناتها تعيد فتح أبوابها بحذر بعد انتصار فصائل المعارضة

سوري يصب شراباً محلياً في سوق باب توما بدمشق (رويترز)
سوري يصب شراباً محلياً في سوق باب توما بدمشق (رويترز)

احتفل سكان دمشق بسقوط نظام بشار الأسد بعد حرب وحشية استمرت 13 عاماً، لكن أصحاب أماكن السهر في المدينة اعتراهم القلق وهم يعيدون فتح أبواب حاناتهم وملاهيهم.

فقد قادت «هيئة تحرير الشام» فصائل المعارضة التي أطاحت بنظام الأسد، وكانت هناك خشية لدى بعض الناس من أن تمنع الهيئة شرب الكحول.

ظلت حانات دمشق ومحلات بيع الخمور فيها مغلقة لأربعة أيام بعد دخول مقاتلي «هيئة تحرير الشام» المدينة، دون فرضهم أي إجراءات صارمة، والآن أعيد فتح هذه الأماكن مؤقتاً.

ما يريده صافي، صاحب «بابا بار» في أزقة المدينة القديمة، من الجميع أن يهدأوا ويستمتعوا بموسم عيد الميلاد الذي يشهد إقبالاً عادة.

مخاوف بسبب وسائل التواصل

وفي حديث مع «وكالة الصحافة الفرنسية» في حانته، اشتكى صافي، الذي لم يذكر اسم عائلته حتى لا يكشف عن انتمائه الطائفي، من حالة الذعر التي أحدثتها وسائل التواصل الاجتماعي.

فبعدما انتشرت شائعات أن المسلحين المسيطرين على الحي يعتزمون شن حملة على الحانات، توجه إلى مركز الشرطة الذي بات في أيدي الفصائل في ساحة باب توما.

وقال صافي بينما كان يقف وخلفه زجاجات الخمور: «أخبرتهم أنني أملك حانة وأود أن أقيم حفلاً أقدم فيه مشروبات كحولية».

وأضاف أنهم أجابوه: «افتحوا المكان، لا مشكلة. لديكم الحق أن تعملوا وتعيشوا حياتكم الطبيعية كما كانت من قبل»، فيما كانت الموسيقى تصدح في المكان.

ولم تصدر الحكومة، التي تقودها «هيئة تحرير الشام» أي بيان رسمي بشأن الكحول، وقد أغلق العديد من الأشخاص حاناتهم ومطاعمهم بعد سقوط العاصمة.

لكن الحكومة الجديدة أكدت أيضاً أنها إدارة مؤقتة وستكون متسامحة مع كل الفئات الاجتماعية والدينية في سوريا.

وقال مصدر في «هيئة تحرير الشام»، لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»، طلب عدم كشف هويته، إن «الحديث عن منع الكحول غير صحيح». وبعد الإلحاح عليه بالسؤال شعر بالغضب، مشدداً على أن الحكومة لديها «قضايا أكبر للتعامل معها».

وأعيد فتح «بابا بار» وعدد قليل من الحانات القريبة، لكن العمل محدود ويأمل صافي من الحكومة أن تطمئنهم ببيان يكون أكثر وضوحاً وقوة إلى أنهم آمنون.

في ليلة إعادة الافتتاح، أقام حفلة حتى وقت متأخر حضرها نحو 20 شخصاً، ولكن في الليلة الثانية كانت الأمور أكثر هدوءاً.

وقال إن «الأشخاص الذين حضروا كانوا في حالة من الخوف، كانوا يسهرون لكنهم في الوقت نفسه لم يكونوا سعداء».

وأضاف: «ولكن إذا كانت هناك تطمينات (...) ستجد الجميع قد فتحوا ويقيمون حفلات والناس مسرورون، لأننا الآن في شهر عيد الميلاد، شهر الاحتفالات».

وفي سوريا أقلية مسيحية كبيرة تحتفل بعيد الميلاد، مع تعليق الزينات في دمشق.

في مطعم العلية القريب، كان أحد المغنين يقدم عرضاً بينما يستمتع الحاضرون بأطباق من المقبلات والعرق والبيرة.

لم تكن القاعة ممتلئة، لكن الدكتور محسن أحمد، صاحب الشخصية المرحة والأنيقة، كان مصمماً على قضاء وقت ممتع.

وقال لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»: «كنا نتوقع فوضى عارمة في الموقف»، فيما كانت الأضواء تنعكس على ديكورات المطعم، مضيفاً: «لكننا عدنا سريعاً إلى حياتنا، حياتنا الليلية، وحقوقنا».

حفلة مع مغنٍ

وقال مدير المطعم يزن شلش إن مقاتلي «هيئة تحرير الشام» حضروا في ليلة إعادة الافتتاح ولم يغلقوا المكان.

وأضاف: «بدأنا العمل أمس. كانت الأمور جيدة جداً. كانت هناك حفلة مع مغنٍ. بدأ الناس بالتوافد، وفي وسط الحفلة حضر عناصر من (هيئة تحرير الشام)»، وأشار إلى أنهم «دخلوا بكل أدب واحترام وتركوا أسلحتهم في الخارج».

وبدلاً من مداهمة المكان، كانت عناصر الهيئة حريصين على طمأنة الجميع أن العمل يمكن أن يستمر.

وتابع: «قالوا للناس: لم نأتِ إلى هنا لنخيف أو نرهب أحداً. جئنا إلى هنا للعيش معاً في سوريا بسلام وحرية كنا ننتظرهما منذ فترة طويلة».

وتابع شلش: «عاملونا بشكل حسن البارحة، نحن حالياً مرتاحون مبدئياً لكنني أخشى أن يكون هذا الأمر آنياً ولا يستمر».

ستمارس الحكومة الانتقالية الجديدة في سوريا بقيادة «هيئة تحرير الشام» عملها حتى الأول من مارس (آذار). بعد ذلك، لا يعرف أصحاب الحانات ماذا يتوقعون.