دور النشر في لبنان: لا خطط للمواجهة... وتخوّف جماعي

دور النشر في لبنان: لا خطط للمواجهة... وتخوّف جماعي
TT

دور النشر في لبنان: لا خطط للمواجهة... وتخوّف جماعي

دور النشر في لبنان: لا خطط للمواجهة... وتخوّف جماعي

خمس دور نشر لبنانية تلتقيها «الشرق الأوسط»، تطلق صرخة: «ماذا بعد؟». «العزاء لمن ينام على ضربة ويصحو على صفعة!» حيث القهر بالجُملة: «الكوفيد»، الدولار المشتعل؛ والدارج في بؤس الأيام: سير الحياة وفق مزاج الكهرباء. لا قطاع ناجياً، ولا بشرى بالفرج. فقط، «يوم بيومه». قد يسهل التفكير بخطط لمواجهة الوباء الكوفيدي والتحايل عليه. لكن تكاثُر «الفيروسات» يشل العقل. هنا، الأمل مجازفة ولا ضمانات. دور نشر بيروتية تؤجل الأحلام: «نحاول الصمود. الغد ليس في اليد».

«ممنوع موت الثقافة!»

نبدأ مع مديرة «دار الآداب» رنا إدريس، التي لم تعد السوق اللبنانية أساسية للبيع بالنسبة إليها. كان الاعتماد الأكبر على معرض بيروت للكتاب، فغيبته الجائحة. «حافظت الدار على مستوى مبيعات عالٍ خلال فعالياته، فشكل توقفه ضربة». تقول: «سعر صرف الدولار، صلب المأساة، إذ يعجز القارئ اللبناني عن شراء الكتب، والرهان على المغتربين لتحريك العجلة. هناك مراعاة في الأسعار، ومع ذلك يقل البيع. لقد حدت إجراءات (الكوفيد) من حرية الزوار في معارض عربية أقيمت قهراً للظرف، لكن لم نحقق الربح المُبتغى». وتفصح إدريس عن واقع أليم: «قلصنا حركة النشر بنسبة 20 في المائة. لنفترض أن الدار أصدرت سابقاً 40 عنواناً، فإذا بعدد العناوين منذ العام الفائت يصبح 32». مع ذلك، بارقة ضوء. لا نزال ناشطين في النشر، لا بعدد العناوين فحسب، بل بالناجح منها.ماذا عن خطط الدار للمرحلة المقبلة؟ تقول: «لا خطط. نحاول البقاء. إيماننا بأن الأمور ستتحسن. حركت الجائحة الرغبة في القراءة والحاجة إلى الكتاب الورقي. الكتاب الإلكتروني يواجه القرصنة. ونحن نسعى نحو حل». وتتنهد مديرة دار «الآداب»: «لا كهرباء ولا مازوت، ولبنان رهن تشغيل المولد واستراحته الطويلة. المعاناة كبيرة. المطابع مرتبطة بالمازوت، وهو مرتفع الكلفة. العمل من المكاتب يصبح شاقاً. نتفادى رفع ثمن الكتاب وإرهاق القارئ، فنغطي التكاليف على حساب الربح». ورغم كل ذلك، تقول بإصرار كامل: «ممنوع موت الثقافة في لبنان». تخيفها فكرة تخلي بلد المنارة عن الكتاب، وهي «نؤمن بمستقبل أفضل».
وماذا عن الدورة القادمة لمعرض بيروت؟ تجيب: «لم تُبلغ بعد بإمكان إقامة معرض بيروت للكتاب بدورته المقبلة. الاحتمال الأكبر أن يتعثر. ثم، هل ستستطيع دور النشر تأمين أجور الأجنحة؟ سنكون متحمسين لو أقيم. المدينة تحتاج إلى نَفَس».

{المطلوب فقط الصمود}

أوقف «الكوفيد» عجلة «دار الساقي» خلال الإغلاق، «وتقريباً، توقفت المبيعات»، تقول مديرة تحرير الدار رانية المعلم لـ«الشرق الأوسط»، «أُغلقت المكتبات وألغت معظم معارض الكتب دوراتها، حتى الكتاب الإلكتروني لم ينشط كما يجب، فهذه الثقافة ليست رائجة تماماً في لبنان، ثم إنها لوجيستياً غير متاحة لمن لا يملك (التابلت) أو (الفيزا كارت)». باختصار: «الأضرار هائلة، لكننا نصمد».
تحركت المبيعات مع انحسار الجائحة، لكن السقوط الاقتصادي نسف كل التوقعات. بقهر، تُخبرنا رانية المعلم عن توقف مطبعة تتعامل معها الدار لتعذر تأمين المازوت! فتضطر الدار لشرائه من السوق السوداء: «لا ندري إلى أي مدى يمكننا التحمل. يستحيل التخطيط للمستقبل. لقد خففنا دوامات الموظفين في المكاتب لتقليص المصاريف، واختزلنا عدد الإصدارات للنصف». وتتساءل بعد «آخٍ» طويلة: «كيف يستطيع اللبناني شراء كتاب بـ200 ألف ليرة، أي ما يعادل 10 دولارات؟ في السابق كان المبلغ نفسه يساوي 15 ألفاً. الفارق ضخم». أي خطط لمواجهة هذا الوضع؟ ترى أنه «من الصعب وضع الاستراتيجيات. لو أن الهَم يقتصر على (الكوفيد)، لكنا حاولنا التجاوُز. سنقول مرحلة وتمر. في لبنان مصيبة يومياً. المطلوب فقط الصمود».

{الانتصار بالاستمرار}

ترتكز «دار هاشيت أنطوان» على المعارض العربية، فالسوق اللبنانية لم تعد تؤمن الربح. ويصف المدير العام للدار إميل تيان، المعارض العربية، وهي تعاند «الكوفيد» بـ«الجبارة»، لكن «الإجراءات الصارمة تحد من البيع. تأملنا عودة الحياة، فإذا بـ(دلتا) يتوعد. تنشط حركة المكتبات، لكن ظروف البلد تخفض المبيعات من 30 إلى 50 في المائة».
> والحل؟
- نحاول أن نوطد علاقاتنا لتكثيف المبيع الإلكتروني. لكن الوضع اللبناني يعرقل إيجاد الحلول. تتراجع القدرة الشرائية، فتؤثر في المبيعات بنحو 70 في المائة، علماً بأننا لم نرفع الأسعار لتوازي الدولار. قلصنا سعر الكتاب المدرسي نحو 55 في المائة، ومع ذلك لا نتوقع ارتفاع المبيعات.
يعمل موظفو الدار من المنزل لتخفيف التكاليف. حتى الآن، لم تعرقل أزمة المحروقات عمل «هاشيت أنطوان»، فنحن نسيطر على الوضع الآن.
> لكن ماذا عن الغد؟
- لا ندري. لا خطط ولا توقعات. نحقق انتصاراً بمجرد قدرتنا على الاستمرار.

«نعمل بالموجود»

حرك «الكوفيد» وتيرة البيع في «دار رياض الريس» خلال الإقفال. وتفسر فاطمة بيضون، زوجة الناشر الراحل رياض نجيب الريس السبب: «وجد القارئ وقتاً، والدولار لم يكن جنونياً. وكان الكتاب الورقي ما يزال مطلوباً في لبنان برغم الوجع. اليوم، يتغير الوضع. نار الدولار تجعل ما أمكن إصداره قبل سنتين، غير وارد في الأحلام. من الخمسين إصداراً، تنجو الدار بعشرة. المداخيل لا تسمح بأكثر». الضربة الكبرى هي تجمد معارض كتب عربية «عليها الاعتماد»، كما تعبر فاطمة الريس. من باب الامتنان، «فهناك تسهيلات تعتمدها معارض عربية مع دور نشر لبنانية. إنهم يتفهمون الوضع».
> ماذا عن المواجهة؟
- مستحيلة مع الانهيار. نقابة الناشرين نفسها لا تملك خططاً. نعمل بالموجود. وحين نسألها إذا كانت هناك دورة جديدة من معرض بيروت، تجيبنا بأنها لم تبلغ عن ذلك، ثم تتساءل بمرارة: «هل لدور النشر قدرة على دفع إيجارات الأجنحة؟ المعارض العربية الداعمة للكتاب هي الخلاص».

«تغير شكل النشر»

فرضت الجائحة تحدياً جماعياً، «ولم ندرك كيفية التعامل مع الطارئ المستجد»، تبدأ مديرة «دار النهضة العربية» نسرين كريدية، حديثها لـ«الشرق الأوسط»، استمرت الدار بالعمل طوال الإغلاق، ولم يتأثر الكتاب الورقي. بالعكس، ارتفعت المبيعات. آنذاك، صممت على رفع كمية الكتب الإلكترونية، والاهتمام بإصدار مقررات جامعية، مما ساهم في دفع حركة البيع. القارئ يعتاد الأونلاين، وهذه مرحلة انتقالية جدية.
ليست «الكورونا» وحدها المعضلة، بل المازوت والكهرباء. تتضاعف المصاريف لتأمين المحروقات، ولا أستطيع التكهن بما سيحدث. وتبدي نسرين كردية خشيتها الكبيرة من إشكالية مهمة: «نخشى أن تُمنع شحنات كتب إلى بلاد خارجية نتيجة لفرض عقوبات على لبنان. حتى الآن، العمل مستمر».
وتستبعد مديرة دار «النهضة العربية»، والعضو في لجنة المعارض بنقابة الناشرين، إقامة دورة جديدة من معرض بيروت للكتاب: «الأمر قيد البحث». وتعدد العوائق: «مبنى المعرض غير موجود (تهشم بتفجير المرفأ)، وبناء آخر قد لا يستقطب القراء. أجور الأجنحة مرتفعة والقدرة الشرائية متدنية. كتب قد يصل سعرها إلى 400 ألف. لا مازوت ولا كهرباء. الأيام سيدة القرار».
وهي على أي حال ترى أن المعارض لم تعد السبيل الوحيد لشراء الكتاب. فهناك معارض افتراضية ومنصات تحقق الربح. شكل النشر يتغير، والاتكال على المعارض لم يعد أكبر مورد رزق.
وتستعد دار «النهضة العربية» حالياً للموسم الدراسي الجديد، بطبع مقررات تُدرس في السعودية والإمارات، قبل المغامرة بالطباعة للسوق اللبنانية.



«الأقلمة» و«العبور»... كتابان جديدان لنادية هناوي

«الأقلمة» و«العبور»... كتابان جديدان لنادية هناوي
TT

«الأقلمة» و«العبور»... كتابان جديدان لنادية هناوي

«الأقلمة» و«العبور»... كتابان جديدان لنادية هناوي

عن مؤسسة أبجد للنشر والترجمة والتوزيع صدر حديثاً كتاب «أقلمة سرد الحيوان» للدكتورة نادية هناوي ويأتي استكمالاً لمشروعها في «الأقلمة السردية»، وكانت قد بدأته بكتابها «أقلمة المرويات التراثية» وأتبعته بكتابين هما «الأقلمة السردية من العصور الوسطى حتى القرن التاسع عشر» و«الأقلمة السردية: مخابرها الغربية - مناشئها الشرقية».

ويدور كتاب «أقلمة سرد الحيوان» في إطار النظرية السردية وما يجري في العالم من تطور في مجال دراسات الأقلمة، بغية الإفادة منها في دراسة تراث السرد العربي بكل ما فيه من نظم وتقاليد وأساليب وتقنيات، ترسيخاً لدوره التأصيلي في السرد الحديث والمعاصر، وتدليلاً على عالميته التي ترى المؤلفة أنها قد «حجبت بستر التبعية، بكل ما في الاتباع من تقريع الذات ودفن قابلياتها والتشكيك في قدراتها».

ويدخل هذا النوع من الدراسات في إطار نزعة ما بعد الإنسان التي ساهم بعض المفكرين والنقاد في تعزيزها. وممن تناولهم الكتاب بالدراسة الفيلسوف جاك دريدا بمقالته «الحيوان الذي أكون» وفيها رأى أن الحيوان يملك وجوداً متجانساً ومتناغماً مثلنا، وأن الملايين من الكائنات الأخرى تتطلب منا أن نبدأ في التعامل معها بجدية. واستعاد دريدا ما قاله ميشال دي مونتيني (1533 - 1592) حين كتب اعتذاراً إلى ريموند سيبوند، متسائلاً عن علاقته بقطته. فالقطة كيان حقيقي وتحديقها فيه تأمل وله معنى. أما جان فرنسوا ليوتار فطرح أسئلة كثيرة حول علم الأجناس وما هو غير إنساني وتساءل: «ماذا لو كان البشر بذاك الإدراك الحسي الإنساني في عملية إكراهية لتحويلهم إلى غير البشر؟ ماذا لو كان ما نعرف أنه مناسب للبشر قد أصبح ملائماً لغير البشر؟». ومن جهته افترض فرانسيس فوكوياما في كتابه «مستقبلنا ما بعد البشري» أن الإنسان في أصل تكوينه حيوان ثقافي، ومن المستحيل أن نتحدث عن حقوق الإنسان، وبالتالي عن العدالة والسياسة والفضيلة بصورة أكثر عمومية من دون أن يكون لدينا مفهوم ما عن ماهية البشر كنوع حي. فالبشر أحرار في صوغ سلوكياتهم الخاصة لأنهم حيوانات ثقافية قادرة على تعديل الذات، ومثلما أن الحيوانات تتصارع من أجل البقاء والاعتراف بالغلبة فكذلك البشر يتصارعون.

وتؤكد المؤلفة أن تبني المدرسة الأنجلوأميركية لنزعة ما بعد الإنسان، هو الذي وسّع مدارات علوم السرد ما بعد الكلاسيكية باتجاهات بشرية وغير بشرية، ويعد علم سرد الحيوان واحداً من تلك العلوم المستجدة وميداناً بحثياً يُختبر فيه كل ما هو نظري وإجرائي له صلة بعلاقة الإنسان بالحيوان من جهة ويتقارب أو يتداخل من جهة أخرى مع ميادين علمية أخرى، لعل أهمها علم البيئة من ناحية ما للإنسان من دور رئيس في دمار الطبيعة وتهديد نظامها الإحيائي النباتي والحيواني. ويساهم في ذلك كله ظهور جمعيات ومنظمات تدافع عن البيئة وتدعو إلى الرفق بالحيوان.

في السياق نفسه، صدر حديثاً عن المؤسسة نفسها كتاب آخر للدكتورة نادية هناوي بعنوان «العبور الأجناسي: الأشكال - الأنواع - القضايا»، ويعد الكتاب السادس فيما بحثته المؤلفة في هذه النظرية من قضايا وتفريعات بعد كتبها «نحو نظرية عابرة للأجناس» 2019 و«الطائر المكدود في البحث عن اليقين المفقود لعبد الرحمن طهمازي» 2021 و«غاليانو صياد الكلام والعبور الأجناسي» 2022 و«قصيدة النثر العابرة في مطولات الشاعر منصف الوهايبي» 2024 و«السونيت في شعر حسب الشيخ جعفر» 2023.