الكشف المأساوي عن النواة الفاسدة للأشياء

عباس بيضون في مجموعته الأخيرة «الحياة تحت الصفر»

الكشف المأساوي عن النواة الفاسدة للأشياء
TT

الكشف المأساوي عن النواة الفاسدة للأشياء

الكشف المأساوي عن النواة الفاسدة للأشياء

منذ مجموعاته الأولى «صور» وحتى عمله الأخير «الحياة تحت الصفر»، يبدو الشعر عند عباس بيضون محاولة مضنية للملمة شظايا حياةٍ مهددة بالزوال السريع، أو مسرات عابرة لم ننتبه إلى انزلاقها من بين أصابعنا إلا بعد فوات الأوان. وهو من هذه الناحية لا ينتظر غروب الأيام لكي يحولها إلى أطلال، بل هو يرى منذ البداية المآل القاتم للوجود الإنساني، والطابع الخلبي لكل ما يتصل بالحب أو السعادة أو نشوة الظفر. وهو أمر ينسحب على الأفراد كما على الجماعات، على المدن كما على الحضارات. وحين كتب عباس «نقد الألم» في مطالع تجربته، كان يحاول في الحقيقة حرف أنظارنا عن الآلام التي يكابدها، تماماً كما فعلت حبيبة عمر بن أبي ربيعة حين طلبت منه أن ينظر إلى سواها، تمويهاً للحقيقة ومحاولة لإخفائها. ومع أن الشاعر لا يستسيغ التفجع ولا الحزن الرومانسي، فإن ما يشيع في شعره من حزن وجودي، ليس سوى المحصلة الطبيعية لبصيرته النافذة ولطريقة تحديقه في المصائر، بحيث يصبح اللاوعي عنده حالة من حالات الوعي المفرط، أو الكشف المأساوي عن النواة الفاسدة للأشياء.
ومع ذلك، فإن التأمل العميق في تجربة صاحب «خلاء هذا القدح» الشعرية، تقودنا إلى الاستنتاج بأن هذه التجربة لا تندرج في خانة واحدة ولا تأخذ مساراً تصاعدياً، بل هي تتقدم وتنكفئ تبعاً للحظة الكتابة، أو لطبيعة الحالة الشعورية التي تواكب تلك اللحظة، قوة وخفوتاً. ولأن الأنا عند بيضون هي متفاقمة ومجروحة في الوقت ذاته، فإن لغته الشعرية لا تتوهج وتصبح أكثر دقة وملموسية إلا حينما تكون لصيقة بأناه، أو حين تتحول إلى نوع من السيرة الذاتية، الفردية منها والجمعية، كما في مجموعاته «صور» و«حجرات» و«صلاة لبداية الصقيع» وغيرها. كما أن إلحاح عباس، المحاط بكل أولئك الذين جعلوه وحيداً، وفق تعبيره الحرفي، على استخدام ضمير المتكلم الجمعي في كثير من قصائده، ما هو في قرارته سوى محاولة الأنا المهددة والخائفة للاختباء من وطأتي الشيخوخة والموت، عن طريق التماهي مع مكابدات الآخرين، أو الاختباء خلف الكتلة الكثيفة لحيواتهم السديمية. لكن الأمور لا تكون دائماً على هذا المنوال، إذ إن اللغة في بعض الحالات تتحول، في غياب ملموسيتها ومعادلها الحياتي، إلى نوع من المثاقفة والكدح المعجمي، وحشد المفارقات الصورية والتعبيرية التي لا معادل لها على أرض الواقع.
في مجموعته الأخيرة «الحياة تحت الصفر»، التي يذكّرنا عنوانها بكتاب رولان بارت الشهير «الدرجة صفر للحياة»، يعيد عباس بيضون الاعتبار للكتابة اللصيقة بالذات والطالعة من أتون التجربة، بعيداً عن أي مخاتلة للمعنى أو «دوران» حوله. ذلك أن الهلع الذي أصيب به الشاعر جراء وباء كورونا، حرر لغته من أي ترف تأليفي أو مناورة أسلوبية، وجعله يسددها بشكل مباشر نحو المخاوف الكابوسية التي تعصف بوجوده. والواقع أن من يتابع تجربة بيضون منذ بداياتها لا بد أن يلحظ وقوفه اللافت على هشاشة الحياة وقابلية الأشياء السريعة للتلف والاضمحلال بفعل ثقبٍ غير مرئيٍ في الوجودات والأزمنة، أو خطيئة «جينية» أصلية سابقة على الوباء، ولا سبيل إلى تداركها. وهو ما يؤكده قول الشاعر: «هذا الخطأ الذي عاد إلي من طفولة أبنائي \ لا يزال يكبر في رأسي.. \ اسمي يجري تعذيبه \ ويقع تحت إعدامات موصولة \ خالياً من أحشائي وفكرتي \ أستدير إلى حيث تعاد تسميتي \ وتسمية من حولي \ حيث يصلني ذلك في عظام صغيرة في سلال \ علينا أن نكمل هكذا احتفالنا العائلي \ ونجد ألقاباً للجميع».
لقد نجح الوباء من جهة أخرى في تفكيك العالم وتحويل البشر إلى كائنات هشة ومحكومة بالانغلاق على نفسها بشكل تام. أما العزلة التي يرى فيها الجميع ضالتهم وملاذهم من الخطر، فهي لا تشبه بأي حال تلك العزلة الخلاقة التي يَنشدها الكتاب والفنانون للإخلاد إلى رُبات الشعر وشياطين الإبداع، بل هي أقرب إلى الزنازين الانفرادية أو المحاجر الإلزامية المفروضة على ملايين الموبوئين أو المصابين بالجذام. هكذا يحس الشاعر بأنه بات منفياً داخل غرفته، وبأنه يجرّ أناه الكسيحة من التلفزيون إلى السرير، ومن المكتبة إلى البرّاد، ومن الأمس إلى اليوم، حيث المكان والزمان يدوران حول نفسيهما بلا هوادة ولا جدوى. كأن الحياة الفعلية قد انقضت تماماً، وما يحدث الآن هو «كلام يعاد تسييله»، وما يتراءى لنا أنه الحياة هو في حقيقته «قفا الحياة» وشبحها الصرف. وفي مناخ الرعب هذا لا يعود التلامس وحده مصدراً لهلع البعض من البعض الآخر، بل النظرات والأصوات والروائح والأنفاس، وكل وسائط الاتصال بين البشر. وهو ما يعبر عنه بيضون بقوله: «إننا نتبادل الألم ونتعادى بالنظرات \ الفراغ الذي نُحتنا منه يُباعدنا \ ويجعلنا نتنقل بين الأصفار \ فقط كراهية صامتة وبلا رائحة \ تستطيع أن تتلصص فيه \ وأن تلسع \ بدون أن تترك أثراً».
ومع أن عبارة سارتر «الجحيم هو الآخرون» تكتسب مع كورونا أبعاداً إضافية تتعدى الإطار المعنوي والنفسي لتتصل بقابلية الجسد الآخر للقتل عن طريق العدوى، فإن الشاعر يلح كعادته على النطق بلسان الجماعة، ليس لأن هذا النوع من الطقس الإنشادي بات واحداً من مفاتيحه التعبيرية فحسب، بل لأن الخطر المتقاسم بين الجميع هو أقل وطأة من الخطر الشخصي الذي يواجهه الأفراد؛ كلّ على حدة. وكما الحال في كثير من مجموعاته السابقة، فإن عمل بيضون الأخير يتغذى من مواد أولية شديدة المحسوسية. فالقصيدة عنده هي تعقّب بارع لما يعتبره البعض جزءاً من نثريات العيش أو سقط متاع الشعر. على أن القول الشعري الذي يوضع في عهدة الحواس الخمس مجتمعة، مع غلبة واضحة لحاسة البصر، لا يكتسب أهميته من عناصره المحسوسة وحدها، بل من استدراج النص إلى خانة الأسئلة المقلقة، ومن تشريع الباب واسعاً أمام التأويل، حيث المرئي واللامرئي يتبادلان الأدوار في لعبة المرايا المتقابلة.
كما يبدو الشعر في «الحياة تحت الصفر» أشبه بمجسات متناهية الدقة لالتقاط كل ما يصدر عن أولئك الذين لم يهلكوا بعد، من إشارات البقاء على قيد الحياة، أو هو فهرس الحشرجات التي يرسلها الناجون من الغرق باتجاه سماء مصابة بالصمم. وفي وضع كهذا، لا يعود الجمال الأسلوبي واحداً من هموم الشاعر وأولوياته. وهو لن يكترث كثيراً لتشذيب اللغة وإعادة صياغتها وتنقيحها من الشوائب، أو لتخليصها من التكرار، إذ سيبدو الأمر في هذه الحالة نوعاً من الترف البلاغي أو «الإكسسوارات» الفائضة عن الحاجة، في ظل الخراب المحقق الذي يتهدد الكائنات. هكذا تتحول الكتابة إلى نوع من الرقائم والتعازيم، أو إلى محاولة شبه يائسة لرتق أوصال الحياة المتناثرة التي تقطعت بها السبل. وحيث تضيق إلى أبعد الحدود المسافة الفاصلة بين الناجين والمصابين، كما بين الأحياء والموتى، لا يتوانى الشاعر عن الإعلان «إنني الآن الرأس المقطوع لبقية المدينة \ وأنا أيضاً الكمامة الأولى التي تدمغ المدينة \ وكالفيروس الأصلي إنني أُعدي بكلمة \ بفنجانٍ بلاستيكي \ بوجهٍ في طبق \ وربما بغلطة \ وبوجهي الذي أخسره في اللعب».



فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
TT

فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

كان في حياة نجيب محفوظ قصة حب غريبة الشأن. قصة حب صامت ومن طرف واحد. حب عابدٍ مُتَوَلِّهٍ، خاشعٍ يرفع القرابين لإله لا يعلم حتى بوجوده. كمثل امتناننا للشمس كل صباح وهي لا تدري بوجودنا ولا نحن نتوقع منها ذلك. إلا أن الغرابة لا تتوقف عند هذا الحد. فهذا الحب الذي خبره محفوظ وهو صبي على عتبات المراهقة بقي معه طوال عمره المديد، وكان له أثر بليغ في قصصه ورواياته في كل مراحله الإبداعية، وحتى النهاية، حيث تتجلى تلك المحبوبة التي أسميها بـ«فتاة العباسية» تجلياً عظيماً في آخر أعماله إطلاقاً: «أحلام فترة النقاهة».

كان محفوظ يتحدَّث حديثاً مباشراً وإن كان نادراً عن تلك الفتاة ما بين الفينة والفينة، أذكر منه على سبيل التخصيص ما قاله في أحاديث سيرته الشخصية إلى رجاء النقاش والتي نُشرت بعنوان «نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته» (1998). ها هو يحكي القصة في اختصار: «في العباسية عشت أول قصة حب حقيقية في حياتي، وهي قصة غريبة ما زلت أشعر بالدهشة لغرابتها كلما مرت بذهني، وكنت أيامها على أعتاب مرحلة المراهقة (...) كنت ألعب كرة القدم في الشارع مع أصدقائي، وكان بيتها يطل على المكان الذي نلعب فيه. وأثناء اللعب شدني وجه ساحر لفتاة تطل من الشرفة. كنت في الثالثة عشرة من عمري، أما هي فكانت في العشرين، فتاة جميلة من أسرة معروفة في العباسية. رأيت وجهاً أشبه بلوحة (الجيوكاندا) التي تجذب الناظر إليها من اللحظة الأولى. ربما جذبني إليها بالإضافة إلى جمالها أنها كانت مختلفة عن كل البنات اللاتي عرفتهن قبلها. لم تكن فتاة تقليدية مثل بنات العباسية، بل كانت تميل إلى الطابع الأوروبي في مظهرها وتحركاتها، وهو طابع لم يكن مألوفا آنذاك... ظل حبي قائماً لهذه الفتاة الجميلة من بعيد ومن طرف واحد، ولم أجرؤ على محادثتها أو لفت انتباهها إلى حبي الصامت، واكتفيت منها بمجرد النظر (...) استمر الحب الصامت لمدة عام كامل. وكم كان حزني شديداً عندما تزوجت فتاتي وانتقلت إلى بيتها الجديد. كنت أعلم أن ارتباطي بها شبه مستحيل، رغم ذلك همت بها حباً (...) وصدمت لزواجها بشدة. انقطعت عني أخبارها، ومضت الأيام (...) إلا أن حبي لها لم يهدأ أبداً، وظلت آثاره عالقة بقلبي وذاكرتي (...) ولقد صورت قصتي مع تلك الفتاة في رواية (قصر الشوق) مع تعديلات تتفق مع الإطار العام الذي وضعته للرواية». (ص105 - 106).

كانت «قصر الشوق»، ثاني أجزاء «الثلاثية»، هي العمل الأكبر الذي تجلت فيه قصة الحب تلك وتجسدت فتاة العباسية في شخصية «عايدة شداد» وتجسد حب محفوظ لها في افتتان كمال عبد الجواد ابن التاجر البسيط بعايدة ابنة الباشا، قاطنة القصور. لكن حضور فتاة العباسية ملحوظ لمن يتقصَّاه في أعمال محفوظ منذ مجموعته القصصية الأولى «همس الجنون» في باكورة حياته فصاعداً، وقد رصدت ذلك في أحد فصول كتابي «استنطاق النص» (2006). أما آخر تجليات فتاة العباسية فكانت في آخر مراحل حياته، فالفتاة التي طاردت وعيه الظاهر طوال عمره، انتقلت إلى مطاردة وعيه الباطن أيضاً في الختام، كما نرى في «أحلام فترة النقاهة» الذي نُشر سنة 2005 قبيل رحيله. وقد أحصيتُ في كتاب الأحلام هذا وحده (ناهيك عن القسم الثاني منه الذي نُشر لاحقاً بعنوان «الأحلام الأخيرة» في 2015 بعد أن اكتشفت أسرته المزيد من نصوص الأحلام) - أحصيت 16 نصاً من مجموع 239. سأقتصر هنا على ثلاثة منها مع محاولة لتفسيرها.

ها هو نص الحلم رقم 18: «تمَّ مجلسنا على الجانبين في القارب البخاري. بدا كل واحد وحده لا علاقة له بالآخرين. وجاء الملَّاح ودار الموتور. الملَّاح فتاة جميلة ارتعش لمرآها قلبي. أطلَّت من النافذة وأنا واقف تحت الشجرة، وكان الوقت بين الصبا ومطلع الشباب. وركَّزتُ عينَي في رأسها النبيل وهي تمرق بنا في النهر. وتتناغم خفقات قلبي مع دفقات النسيم. وفكَّرتُ أن أسير إليها لأرى كيف يكون استقبالها لي. لكني وجدت نفسي في شارعٍ شعبي لعله الغورية، وهو مكتظٌّ بالخلق في مولد الحسين، ولمحتها تشق طريقها بصعوبة عند أحد المنعطفات، فصممت على اللحاق بها. وحيَّا فريق من المنشدين الحسين الشهيد. وسرعان ما رجعتُ إلى مجلسي في القارب، وكان قد توغَّل في النهر شوطاً طويلاً. ونظرت إلى مكان القيادة فرأيتُ ملَّاحاً عجوزاً متجهِّم الوجه، ونظرتُ حولي لأسأل عن الجميلة الغائبة، ولكني لم أرَ إلا مقاعد خالية».

يستدعي هذا الحلم فتاة العباسية. تلك الفتاة التي كانت تطل من النافذة حيناً بينما يتأملها الفتى محفوظ المشدوه بجمالها من الطريق، أو التي تمر في عربة تجرها الخيل فيراها في نافذتها. أظن الرحلة في القارب هنا هي رحلة الحياة وكون الفتاة هي الملّاح في تلك الرحلة إشارة إلى كونها كانت منارة هادية للكاتب في حياته الإبداعية. تَحوُّل المشهد من القارب البخاري إلى شارع مكتظ، ليس مما يُستغرب في الأحلام لكن الفتاة تبقى مبتغاه. يقتفي أثرها حتى تختفي منه في الزحام، كما اختفت فتاة العباسية من حياته في صدر شبابه. كما أن الإشارة لمولد الحسين والمنشدين الذين يتغنون بمأساته وشهادته لعلها لا تخلو من إلماع إلى «استشهاد» الراوي في هذا الحب العصيّ. وعلى عادة الأحلام في تنقل مسارح الأحداث يعود المشهد من حي الحسين إلى القارب. وأظنه هذه المرة هو قارب الموت الذي يحمل الموتى إلى العالم السفلي كما في الأساطير القديمة. فالمقاعد التي كانت مشغولة في البداية صارت كلها خالية إلا من الراوي الذي يبدو أن دوره قد حان. كما أن الملاح لم يعد الفتاة الفاتنة وإنما عجوز متجهم الوجه يُذكّر بـ«شارون» ملّاح الأساطير الإغريقية الذي كان ينقل أرواح الموتى في قاربه إلى مملكة «هاديز» رب العالم السفلي. انقضت رحلة الحياة إذن، وها هو الراوي يشق طريقه إلى عالم الأموات حاملاً معه شوقه الدائم إلى الفتاة الجميلة التي لم تكن له في أي وقت من الأوقات، ولا حتى في الأحلام.

ننتقل الآن إلى الحلم رقم 83: «رأيت الكارِتَّة مقبلة حاملة فاتنة درب قرمز، ويجرها جواد مجنَّح. اتخذت مجلسي فيما وراءها، وفرَد الجواد جناحَيه فبدأت ترتفع حتى علونا الأسطح والمآذن، وفي ثوانٍ وصلنا قمة الهرم الأكبر، وأخذنا في عبوره على ارتفاع ذراع، فجازفتُ وقفزتُ إلى قمته وعيناي لا تتحوَّلان عن الفاتنة وهي تعلو وتصعد، والليل يهبط والظلام يسود، حتى استقرَّت كوكباً مضيئاً».

هذا النص الغنائي الرهيف هو نموذج آخر للحنين لفاتنة الصبي المراهق محفوظ. فتاة العباسية التي كان يلمحها أحيانا تمرّ في «كارتّة» تجرها الخيل فلم تفارق خياله الغض مدى العمر. في هذا الحلم ينقلها محفوظ من العباسية حيث عرفها بعد أن انتقلت أسرته إلى العباسية في سن الثانية عشرة - ينقلها إلى درب قرمز في الجمالية حيث وُلد وعاش صباه الأول. وهي نقلة بارعة لا يقدر عليها سوى الأحلام، وكأنه يعود بها إلى السنوات الاثنتي عشرة من حياته التي خلت منها لكي تضفي عليها الشرعية وتضمها إلى بقية عمره التي قضاها في التعبُّد إليها. في هذا «الحلم» ينضم لها في عربتها، وهو ما لم يتسنَّ له في «العِلْم». كما أن حصان العربة في الواقع يترقَّى إلى جواد مجنَّح في الحلم، ولا غرابة في ذلك فالجميلة كانت دائماً مثالاً شاهقاً بعيد المنال بالنسبة له. وحتى في الحلم تبقى كذلك، فهي وإن سمحتْ له بالركوب معها، فإنه يكون «وراءها» وليس إلى جانبها. وحتى في الحلم هو يدرك تماماً أنه غير مؤهل للمضي معها في رحلتها، ولذلك يتحين الفرصة قافزاً من العربة إلى قمة الهرم الأكبر قبل أن تواصل العربة شق طريقها إلى مَراقٍ ليس هو أهلاً لها. حتى في الحلم تحتل فتاة العباسية مكانها نجماً مضيئاً بين النجوم ويبقى هو على الأرض يتطلع إليها في السماء. تماماً كما بقي يفعل طوال حياته.

نختم بالحلم رقم 84: «رأيتني في شارع الحب كما اعتدت أن أسميه في الشباب الأول. ورأيتني أهيم بين القصور والحدائق وعبير الزهور، ولكن أين قصر معبودتي؟ لم يبقَ منه أثر، وحل محله جامع جليل الأبعاد، رائع المعمار، ذو مئذنة هي غاية الطول والرشاقة. ودُهشت، وبينما أنا غارق في دهشتي انطلق الأذان داعياً إلى صلاة المغرب، دون تردُّد دخلت الجامع، وصلَّيت مع المصلِّين، ولمَّا ختمت الصلاة تباطأت كأنما لا أرغب في مغادرة المكان؛ لذلك كنت آخر الراحلين إلى الباب، وهناك اكتشفت أن حذائي قد فُقد، وأن علي أن أجد لنفسي مخرجاً».

هذا الحلم وثيق الصلة بسابقه رقم 83. المعبودة هنا هي المعبودة هناك. إلا أنه هنا يخلط بين واقع حياته الأولى وبين تجليات المعبودة في إنتاجه الأدبي. فالمعبودة الواقعية كانت عابرة في «كارتّة» أما المعبودة المطوَّرة فنياً فهي عايدة شداد، معبودة كمال عبد الجواد في «قصر الشوق»، والتي كانت من عائلة أرستقراطية من ساكني القصور. نعرف غرام محفوظ بتحولات الزمن، ومن هنا تحول القصر إلى جامع في الحلم. ولنلاحظ أن القصر لا يتحول إلى أي جامع، بل هو جامع من طبقة القصور، فهو «جليل الأبعاد»، «رائع المعمار» وله «مئذنة شاهقة». فهو مكان عبادة يليق بالمعبودة في تحوله الجديد كما في سابق عهده. وإسراع الراوي إلى دخول الجامع لدى سماعه الأذان هو فعل عبادة نحو المعبود القديم ساكن القصر بمقدار ما قد يكون فعل عبادة لرب الجامع. وإطالة المكث في الجامع حتى أن الراوي كان آخر المغادرين هو من رغبة التمسح بالموضع الذي كان سابقاً مقام المعبودة. إلا أنَّ الحلم ينتهي بمفاجأة هزلية حين يجد الراوي أن حذاءه قد سُرق عندما يقرر مغادرة الجامع. هذه نهاية واقعية عابثة لحلم مُغرِق في الرومانسية. ولعلها سخرية محفوظية ذاتية. فكما أن فتاة العباسية التي طاردت صورتها خياله طوال حياته كانت أشبه بالوهم، وكما أن كمال لم يعنِ يوماً شيئاً لمعبودته عايدة شداد، بل كان موضع سخريتها ووسيلة امتطتها لإثارة مشاعر الغيرة في مَن كانت تريده حقاً، كذلك قصر المعبودة وجامعها الشاهق وتعبُّده القديم المجدد عبر القصور والمساجد لا يتمخض إلا عن حذاء مسروق وعابد عاري القدمين لا يعرف كيف يدبر رحلة العودة من المحراب.