كارمن بصيبص لـ «الشرق الأوسط»: الشهرة وهمٌ أهرب منه

بعد «البريئة» تستعد لتصوير «عروس بيروت3»

كارمن بصيبص في مشهد مؤثر من «البريئة»
كارمن بصيبص في مشهد مؤثر من «البريئة»
TT

كارمن بصيبص لـ «الشرق الأوسط»: الشهرة وهمٌ أهرب منه

كارمن بصيبص في مشهد مؤثر من «البريئة»
كارمن بصيبص في مشهد مؤثر من «البريئة»

لم تنشأ شهرة الممثلة كارمن بصيبص على خلفية جمالها الخارجي أو لتسلقها سلم النجاح من باب مقولة «أنا أو لا أحد». فهي استطاعت أن تحقق نجوميتها من باب مثابرتها واجتهادها وتأنيها في خياراتها. وعلى الرغم من دخولها الساحات التمثيلية في مصر ولبنان والخليج العربي من بابها العريض، فإنها بقيت تحتفظ بطبيعيتها وعفويتها وبشخصيتها القوية واللطيفة في آن. متمسكة بحضورها اللافت وبهوية الممثلة الباحثة عما يضيف إلى مسيرتها. صعدت كارمن بصيبص سلم الشهرة بثبات. هي اليوم نجمة عربية ينتظر إطلالتها الملايين، ولا تزال تحصد النجاح تلو الآخر. مؤخراً، عرض لها الفيلم المصري «العارف»، ويقترب موعد عرض مسلسلها الجديد «البريئة»، وتستعد لإكمال دورها (ثريا) في الجزء الثالث من «عروس بيروت»، في الأسابيع القليلة المقبلة.
فكيف تتلقف كارمن بصيبص الشهرة، وماذا تعني لها؟ ترد في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «لا تهمني الشهرة بتاتاً، وهي برأيي بمثابة وهم، كلما شعرت بأنه يقترب مني أهرب.
فما يهمني في الموضوع هو أن أبقى واعية على كل ما يجري حولي ولا أنجرف بأمور قد تكون آنية، أو مجداً باطلاً. أحاول دائماً أن أنظر إلى الأمور من مكاني الطبيعي.
فأنا شغوفة بالتمثيل وأستمتع بكل لحظة أمارس فيها عملي كأي شخص عادي يحب مهنته. ولكن يكمن الفرق بيني وبين غيري بأن مهنتي تدور تحت الأضواء وتسهم في نشر اسمي. ولذلك أشكر رب العالمين على كل ما وصلت إليه، من دون أن أعيش الوهم».
قريباً سيعرض لك مسلسل «البريئة» عبر منصة «شاهد»، فكيف تقيمين تجربتك الأولى في عالم دراما المنصات ضمن 8 حلقات وأنتِ من عودتنا على ظهورك في «عروس بيروت» على مدى مئات الحلقات؟ تجاوب: «هي نقلة نوعية أعتز بها، حملتني إلى تجربة استمتعت بها كثيراً. ففي (عروس بيروت) صارت شخصية ثريا التي أجسدها جزءاً مني، ألبسها بحذافيرها بحيث يكفي أن أقرأ المشهد حتى أعرف كيف أؤديه كما يجب. كما أن دخولك دوراً في الصميم وبهذا الشكل، يدفعك إلى تحدي نفسك، وهو ما يدفعك إلى التجديد لا شعورياً، كي لا تقعي في التكرار الممل.
والصعوبة تكمن أيضاً في إبقاء الدور نضراً، بحيث تتفاجئين أنت نفسك بأحداث العمل. أما مسلسل قصير كـ(البريئة) فيسمح لك بالتركيز أكثر على أقل تفصيل، ويكون لديك متسع من الوقت للتصوير. ومن خلال هذه الأعمال القصيرة تكبر مساحة الإبداع وتبتعدين عن النمطية».
تصف كارمن بصيبص دورها (ليلى) في «البريئة» بالجديد، «لأنه يختلف عن غيره. وهي المرة الأولى التي أخوض فيها دوراً مشوقاً يغلفه الغموض».
تحكي قصة «البريئة» عن فتاة تتعرض إلى حادث يقلب حياتها. وتوضح بصيبص: «يبدأ المسلسل بخروجي من السجن بعد ثماني سنوات من الحبس، ويكون هدفي اكتشاف من يقف وراء زجي في جريمة لم أرتكبها. شدّني نص المسلسل منذ قراءتي الأولى له، فهو يخرج عن المألوف ويقدمني في دور مختلف».
وكيف حضرتِ لشخصية ليلى؟ «لقد انطلقت من مرحلة 8 سنوات سجن وما يمكن أن يترك هذا الزمن على صاحبه. كنت أتمنى أن أتعرف إلى شخصيات حقيقية في الحياة تشبه ليلى وهي مسجونة، ولكن الجائحة حالت دون ذلك. وفي المقابل بحثت وحضرت واجتهدت لتجسيد شخصية محبطة ومكتئبة، لا سيما أنها بسجنها انسلخت عن ابنتها التي ترفض أن تراها. كان علي أن أتحلى بالشراسة، والمخرج رامي حنا أسهم في مساعدتي لإيجاد ردود الفعل المناسبة لأم محرومة من ولدها، لا سيما أنني لم أرزق بأولاد بعد، في حياتي العادية. وشعرت بحرمان الأم من ابنتها، خصوصاً أنها لم ترها يوماً بسبب سجنها. وعندما التقطت هذا الشعور، غصت في الدور إلى أبعد حدود. فرامي من المخرجين الذين يعرفون كيف يوجهون الممثل ويديرونه خصوصاً أنه يمثل أيضاً. فوضعني على السكة الصحيحة وأنا ممتنة للمساعدة التي زودني بها. سترونني في (البريئة) ضمن شخصية مختلفة جداً عن تلك التي عرفتموها في (عروس بيروت). وهذا الاختلاف خضته أيضاً في الفيلم المصري (العارف)».
لقد علمنا بأنك في «البريئة» قصدتِ الظهور على طبيعتك من دون رتوش أو مساحيق تجميل، وهو ما يطبع مجمل أدوارك فلماذا تتمسكين بهذا «اللوك»؟ تقول: «صحيح، في (البريئة) قصدت أن أبقى على طبيعتي، فتركت الشيب ظاهراً في شعري، لا بل زدته كي أبدو أكبر سناً. كان علي أن أشبه الشخصية التي أقدمها كي يقتنع المشاهد وأبدو حقيقية». ولكن ألا يهمك إظهار جمالك؟ «لا أفكر ولا مرة بهذه الطريقة».
ترد كارمن وتضيف: «كما أني لم أسأل يوماً إذا ما أنا أبدو جميلة أم لا. فالتمثيل لا يقاس بالجمال، بل في تقديم الدور على المستوى المطلوب. وفي فيلم (مورين) أيضاً الشخصية تطلبت مني إطلالة فتاة عادية وبسيطة لأنها كانت تتحدث عن قديسة. يمكن القول إن آخر همي هو شكلي الخارجي، بمعنى أن الأهم أن تليق إطلالتي بطبيعة دوري. في (عروس بيروت) كنت ثريا الأنيقة صاحبة أسلوب خاص في الأزياء. ابتعدت عن المبالغة نعم، ولكن الدور تطلب مني الاهتمام بشكلي الخارجي».
يشارك في مسلسل «البريئة» كل من بديع أبو شقرا ويورغو شلهوب وتقلا شمعون وإيلي متري وساشا دحدوح وإيلي شوفاني وغيرهم. وهو من كتابة مريم نعوم، وإخراج رامي حنا، وإنتاج «إيغل فيلمز»، ومن المتوقع عرضه في سبتمبر (أيلول) المقبل. وتعلق كارمن بصيبص: «كنت متحمسة جداً للوقوف إلى جانب بديع أبو شقرا، فلطالما أعجبت بأدائه. أما يورغو شلهوب فهو يبدع في دور صعب ورائع. فالفريق بأكمله كان متناغماً، بحيث قدم كل ممثل دوره باحتراف.
أما تقلا شمعون فشهادتي بها مجروحة، لدينا معاً مشوار طويل وأنا من المعجبات جداً بها. وكذلك ساشا دحدوح وإيلي متري وغيرهم. جميعهم كان هاجسهم إنجاح العمل، فقدموا أفضل ما عندهم. فأنا أحب العمل مع هذا النوع من الزملاء المشربين بأداء محترف داخلي وخارجي، يترجم بلغة العيون والجسد والأداء. وأنا شخصياً أتكل كثيراً على لغة عيوني وجسدي وتقنية التصرف بنبرة الصوت».
وعن تجربتها في الفيلم المصري «العارف» تقول: «شكل لي علامة فارقة في مشواري التمثيلي، وأنا ممتننة للصدى الإيجابي الكبير الذي حققه. دوري فيه يدور في فلك الإثارة والتشويق، وهو أسلوب لم أمارسه من قبل.
كما أن مشاركتي البطولة مع أحمد عز، شكّلت فرصة سعيدة وتجربة رائعة بحد ذاتها. فهو نجم متواضع ويهمه إنجاح العمل، ولا يتوانى عن تقديم المساعدة لمن يطلبها، وكان بيننا كيمياء جميلة. فلطالما تلقيت عروض أفلام مصرية، ولكني لم أقتنع بها. ولكن مع (العارف) أدركت أنه المناسب، لا سيما أنه من إنتاج شركة (سينرجي للإنتاج). كما أنني كنت أطمح للتعاون مع مخرجه أحمد علاء».
تدخل كارمن بصيبص قريباً استوديوهات تصوير الجزء الثالث من مسلسل «عروس بيروت» وتكتبه هذه المرة السورية رغداء الشعراني.
وتعلق بصيبص: «كنا في خضم تصوير الجزء الثاني عندما تم إعلامنا بأنه ليس هناك من جزء ثالث. ولكن أعتقد أنه بسبب إلحاح مشاهديه، وتعلقهم بأبطاله وأحداثه بدّل القيمون رأيهم.
وعلى كل حال، كانت فترة استراحة بين الجزأين، وتوجه كل منا نحو أعمال أخرى. وهو ما انعكس إيجاباً علينا جميعاً، إذ خرجنا لفترة من عباءة شخصياتنا، التي قدمناها في الجزأين الأول والثاني.
اليوم ونحن في طور التحضير لتصوير الجزء الثالث من (عروس بيروت)، نشعر جميعاً بالحماس الكبير لعودتنا معاً. فالمسلسل عزيز على قلبنا، وولد بيننا كممثلين علاقة وطيدة حتى خارج إطاره. ومن المنتظر أن نبدأ في تصويره نحو نهاية هذا الشهر».
وعن رأيها بدراما المنصات، وعما إذا تابعت بعضها تقول: «أتابع نعم وقد سنحت لي الفرصة بمشاهدة بعض المقاطع من (دور العمر).
فأعجبت به كثيراً، وكذلك مسلسل (صالون زهرة) و(أمنيزيا) و(دي إن آي) وغيرها. كل ذلك يبرهن اننا نملك جميع الأدوات والعناصر والقدرات الفنية المطلوبة، لصناعة دراما على مستوى رفيع. وأتمنى أن نستطيع إظهار طاقات جديدة وأن نصل إلى أماكن أبعد».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)