لعنة الوثائق الأميركية

من «كوكا كولا».. إلى ويكيليكس فهيلاري كلينتون.. قصص وحكايات

لعنة الوثائق الأميركية
TT

لعنة الوثائق الأميركية

لعنة الوثائق الأميركية

يوم السبت الماضي، لم يدافع الرئيس باراك أوباما عن غريمته هيلاري كلينتون، وزيرة خارجيته السابقة، التي ورطت نفسها في فضيحة يمكن أن تكون جريمة قانونية، تقودها إلى السجن، وليس إلى البيت الأبيض، حلمها من قبل أن يدخله أوباما. لم يدافع عنها أوباما، بل تندر عليها.
في العشاء السنوي في نادي «غريدايورن» (وتعني الكلمة «شواية»)، حيث يتناول صحافيون كبار العشاء مع مسؤولين كبار، يتهكمون، و«يشوون»، بعضهم بعضا، قال أوباما: «قرأت في الصحف أن هيلاري كلينتون عندها (مشغل) إنترنت (سيرفر) في منزلها. كنت أعتقد أنني أنا الرئيس الذي يستعمل أحدث تكنولوجيا الإنترنت. لكن، الآن تأكدت أنني متأخر جدا في هذا المجال».
وقال إنه صار يجيد تكنولوجيا «سيلفي» (التقاط صورة ذاتية بالتليفون). وفي إشارة غير مباشرة إلى كلينتون، قال «ليحذر الرئيس (الرئيسة) بعدي في البيت الأبيض من التقاط صور مهزوزة. ستكون هذه فضيحة أسوأ من إرسال خطاب إلى إيران». قصد، أيضا، السيناتور الجمهوري توم كوتون الذي قاد حملة إرسال خطاب تحذير من 47 من أعضاء الكونغرس إلى إيران ألا توقع اتفاقية القنبلة النووية مع أوباما.
ربما منذ أول وثيقة سرية أميركية احتفظت بها الحكومة الأميركية (مراسلات بين الرئيس الأول جورج واشنطن والملك جورج الثالث، ملك بريطانيا)، لم تتعرض الوثائق الحكومية الأميركية السرية لكوارث (لعنات؟) مثلما حدث خلال العشر سنوات الأخيرة: تسريب الوثائق العسكرية السرية الأميركية عن غزو واحتلال العراق. تسريب وثائق الخارجية الأميركية السرية، إلى ويكيليكس.. والآن، رفض هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية السابقة، الاحتفاظ بوثائق الوزارة السرية في بريد الوزارة الإلكتروني، والاحتفاظ بها في بريدها الخاص، لمدة 4 سنوات.

وثائق كوكا كولا
طبعا، توجد وثائق حكومية ووثائق غير حكومية. وإن تفاوتت واختلفت اللعنات.. ومن أشهر الوثائق الخاصة في الولايات المتحدة «وثائق كوكا كولا»، التابعة لمتحف كوكا كولا، في أتلانتا (ولاية جورجيا). ويظل أهم سر في هذه الوثائق هو طريقة صناعة مشروب «كوكا كولا». منذ عام 1936، صارت كل وثائق الحكومة الأميركية تجمع في «دار الوثائق الوطنية» في واشنطن العاصمة. حتى الآن، توجد فيها أكثر من 10 مليارات وثيقة (سرية وغير سرية). وفي عصر الإنترنت، صارت دار الوثائق تجمع الوثائق الإلكترونية (مليون وثيقة حتى الآن). وبالنسبة لوثائق وزارة الخارجية، صارت إلكترونية منذ 15 عاما.
في الأسبوع الماضي، راجع ستيف كونتورو، كاتب عمود «بلويتكوفاكتز» (حقائق سياسية) في صحيفة «تامبا نيوز» (ولاية فلوريدا) وزراء الخارجية الأميركية خلال العشرين عاما الماضية الذين احتفظوا بوثائق إلكترونية في حسابهم الخاص. ووجد الآتي:
أولا: مادلين أولبرايت (1997-2001): لم تكن عندها وثائق حكومية إلكترونية لأن الإنترنت كان في بداية دخوله الوزارات والمصالح الحكومية. ثانيا: كولين باول (2001-2005): كانت أغلبية وثائقه ورقية. وكان عنده حساب إلكتروني خاص، وضع فيه بعض الوثائق الحكومية. ثم أعادها إلى الخارجية.
ثالثا: سوزان رايس (2005-2009): لم تستعمل البريد الإلكتروني في أعمال حكومية.
رابعا: هيلاري كلينتون (2009-2013): لم تستعمل البريد الإلكتروني التابع لوزارة الخارجية أبدا. وخلال 4 سنوات وضعت كل الوثائق الحكومية في بريدها الخاص. وهذا هو سبب الضجة الحالية. إذا كان باول وضع «عددا قليلا» من الوثائق الرسمية في بريده الخاص، وقال إنه أعادها «كلها»، فقد وضعت كلينتون «كل» الوثائق الرسمية في بريدها الخاص. وقالت إنها أعادت (55 ألف وثيقة).

وثائق كولين باول
لأن كلينتون ديمقراطية، هب الجمهوريون ضدها. بدأ ديمقراطيون يبحثون في الدفاتر.. ثم تساءلوا عن كولين باول الجمهوري. في الأسبوع الماضي، ظهر باول في تلفزيون «إيه بي سي»، وسأله مقدم البرنامج «هل أعدت كل وثائق وزارة الخارجية التي كانت في بريدك الخاص؟» أجاب: «ليست عندي وثائق للخارجية الأميركية لأعيدها.. أعدتها كلها». وسأله مقدم البرنامج: «هل تحتفظ بأي وثيقة رسمية؟»، أجاب: «ليست عندي آلاف الوثائق».
صار واضحا أن أجوبة باول ليست مقنعة. وفي اليوم التالي، سأل صحافيون ماري هارف، المتحدثة باسم الخارجية الأميركية عن وثائق باول. وأجابت: «قال لنا باول إنه يفتش الآن في بريده عن أي وثيقة رسمية». طبعا، إجابة المتحدثة باسم الخارجية ليست مقنعة، مثلما أن إجابة وزير الخارجية الأسبق ليست مقنعة. لهذا، هب ديمقراطيون يقولون إن كلينتون (الديمقراطية) فعلت ما فعل باول (الجمهوري). بل قال ديمقراطيون إن باول أخفى وثائق لها صلة بيوم ذهب إلى مجلس الأمن ورفع أنبوبة فيها سائل. وقال إن الرئيس العراقي صدام حسين يقدر على أن يقتل الملايين بأسلحة الدمار الشامل التي يملكها. كان ذلك يوم 5-2-2003، قبل شهر من غزو العراق.
لهذا، ردا على طلب الجمهوريين في الكونغرس «كل» وثائق الخارجية من هيلاري كلينتون، يتوقع أن يطلب الديمقراطيون في الكونغرس من باول «كل» وثائق الخارجية.
من بين هؤلاء الديمقراطيين السيناتور تشارلز شومر (ديمقراطي من ولاية نيويورك). في الأسبوع الماضي، وقف داخل قاعة مجلس الشيوخ، وقال: «هيلاري كلينتون هي الوحيدة التي أعادت كل الوثائق الرسمية». طبعا، ليس هذا صحيحا. لكن، في جو الاتهامات، والمناورات، والمؤامرات، في واشنطن العاصمة، يصير الخط الفاصل بين الصحيح والخطأ غامضا.

وثائق كلينتون
لكن، ليس هناك غموض في أن هيلاري كلينتون احتفظت بكل وثائق الخارجية لمدة 4 أعوام في بريدها الخاص. وفي مؤتمرها الصحافي اعترفت بذلك. بدأت الفضيحة في بداية هذا الشهر، عندما كشفتها صحيفة «نيويورك تايمز». لكن، صمتت كلينتون 10 أيام قبل أن تعقد مؤتمرا صحافيا عن الفضيحة. خلال فترة صمتها، وفي مناورة سياسية (دراسة الاتهامات قبل التسرع في الرد عليها) أمرت نيك ميريل، المتحدث باسم حملتها الانتخابية، إصدار بيان مقتضب ينفي الاتهامات (لم تنجح المناورة لأن معارضيها قالوا إنها صمتت لتبحث عن «حيلة أخرى»). وحسب وكالة «أسوشييتد برس» استخدمت كلينتون حسابا شخصيا مسجلا لمنزلها في ضاحية شاباكوا، في ولاية نيويورك. ويتبع الحساب لمؤسسة كلينتون، والحساب هو: «إتش آر (هيلاري رودام) 22 آت كلينتون ميل دوت كوم».
يرتبط هذا الحساب مع حساب زوجها بيل كلينتون في نفس مؤسسة كلينتون. وأيضا، مع الحساب الثاني لزوجها «بريزيدانت (الرئيس) كلينتون دوت كوم». وأيضا، مع حساب ثالث «دبليو جي سي أوفيس (مكتب وليام جفرسون كلينتون) دوت كوم». وقالت صحيفة «واشنطن بوست»، اعتمادا على مصادر في الخارجية الأميركية، إن كلينتون أعادت 55 ألف وثيقة حكومية، لكن يعتقد أنها لم تعد 50 ألف وثيقة أخرى. وكانت مواقع في الإنترنت قالت، قبل ذلك، إن كلينتون مسحت 50 ألف وثيقة، أو 100 ألف، أو ..
ولم ينتظر قادة الحزب الجمهوري حتى غروب الشمس ليشنوا هجمات عنيفة على كلينتون.
قال تري غودي (جمهوري، ولاية ساوث كارولينا): «لا يحتاج أي شخص لشهادة في القانون ليقول إن كلينتون خرقت القانون. وخرقت التقاليد. بل خرقت القيم الأخلاقية». وقال غودي إنه طلب من وزارة الخارجية كل وثيقة خلال الأربع سنوات التي كانت كلينتون خلالها وزيرة. وإنه سيستدعي كلينتون للشهادة أمام لجنته في مجلس النواب.
هذه هي اللجنة الخاصة التي كان الجمهوريون في مجلس النواب أسسوها قبل عامين للتحقيق في الهجوم الإرهابي على القنصلية الأميركية في بنغازي، في ليبيا، حيث قتل السفير الأميركي في ليبيا، ودبلوماسيون أميركيون آخرون
وقال جيب بوش، الحاكم السابق لولاية فلوريدا، والذي يتوقع أن يترشح باسم الحزب الجمهوري لرئاسة الجمهورية (ضد كلينتون، إذا لم تتفاقم الفضيحة): «هذا شيء يدعو للاستغراب. لماذا فعلت ذلك؟ وهل فكرت قبل أن تفعله، وخلال فعلها له؟»
وقالت د. جنيفر لوليس، أستاذة القانون في الجامعة الأميركية في واشنطن العاصمة: «ليس هذا غريبا لمن تابع سنوات الرئيس كلينتون الثماني في البيت الأبيض، ومعه زوجته السيدة الأولى في ذلك الوقت. رغم إنجازات كلينتون الداخلية والخارجية، كان هناك جو من عدم الوضوح، وعدم الثقة في معاملاتهما مع الناس، هو وزوجته. كان هناك جو خوف من شيء ما، جو توقع انتقادات، والاستعداد للدفاع ضدها».

البيت الأبيض لا يدافع
حسب قانون الوثائق الفيدرالية، يجب الاحتفاظ بجميع رسائل البريد الإلكتروني الرسمية. ولا تقبل النسخ الورقية من الرسائل الإلكترونية كوثائق رسمية وفقا للقانون. ورغم وجود استثناءات للمواد السرية، يجب الاحتفاظ بالمستندات ورقيا حتى يطلع عليها الصحافيون ولجان الكونغرس والمؤرخون عندما يحين وقت عرضها للجمهور.. وقال مسؤولون عن هيئات رقابة حكومية، ومسؤولون سابقون في إدارة الوثائق والأرشيفات، إن استخدام كلينتون للبريد الشخصي لأغراض حكومية خرق خطير للقانون. وإن البريد الشخصي أكثر عرضة للاختراق من قبل القراصنة.
رغم كل هذه الانتقادات، خاصة من قادة في الحزب الجمهوري قالوا إن ترشيح كلينتون لرئاسة الجمهورية صار غير مضمون، لم يهب البيت الأبيض للدفاع عن كلينتون. وهكذا، بدأت مرحلة جديدة من علاقة كلينتون المتأرجحة مع أوباما، منذ أن نافسته في انتخابات رئاسة الجمهورية عام 2008.
قال جوش ايرنست، المتحدث باسم البيت الأبيض، دون أن يدافع عن كلينتون: «حسب معلوماتنا، لم يكن لوزيرة الخارجية السابقة حساب في وزارة الخارجية. واستعملت حسابا خاصا بها. حسب القانون الذي ينطبق على كل المراسلات الحكومية، يمكن أن يحدث هذا بشرط أن تتحول كل محتويات هذه الحسابات الشخصية إلى قسم الأرشيف في كل وزارة، أو مصلحة حكومية».
وأضاف: «منذ أول يوم في إدارة الرئيس أوباما، أرسلت أوامر واضحة ومحددة بأن كل من يعمل فيها يجب أن يستخدم الحساب الرسمي للجهة التي يعمل فيها. لكن، إذا رأى مسؤول أن يستعمل حسابا خاصا، يجب أن تتحول محتوياته إلى قسم الأرشيف، كما ينص قانون الأرشيف والوثائق الأميركي».
فاكت جيك
يتابع موقع «فاكت جيك» (مراجعة الحقيقة) تصريحات كبار السياسيين والمسؤولين، ويدقق في صحتها. هذه تدقيقات من تصريحات كلينتون:
قالت: «كان سهلا أن أحمل تليفونا واحدا، وأستعمل حسابا واحدا». لكن لم تقل إن جيشا من المساعدين والمرافقين كان يمكن أن يفعل ذلك. قالت: «سمحت لي وزارة الخارجية استعمال حسابي الخاص للأعمال الرسمية».
لكن لم تقل من في الوزارة سمح لها، وهي الوزيرة.
قالت: «أرسلت جزءا كبيرا من بريدي إلى المسؤولين في الخارجية الذين أتعامل معهم، وكانوا يحفظونها في كومبيوترات الوزارة». لكن قبل أسبوعين، قالت جين بساكي، المتحدثة باسم الخارجية، إن حفظ البريد لم يكن أوتوماتيكيا إلا بعد بداية هذا العام. وقبل ذلك، لم يكن هناك مقياس عن حفظ البريد، أو عدم حفظه. قالت: «بعد أن تركت وزارة الخارجية، اتصلوا بي، وطلبوا البريد الذي له صلة بالعمل الرسمي. وفي الحال، أرسلت لهم ما يعادل 55 ألف صفحة مكتوبة». لكن: لم تقل إن الخارجية طلبت منها ذلك بعد 3 أعوام من عملها وزيرة للخارجية. عندما طلبت لجنة في الكونغرس البريد الذي له صلة بالهجوم الإرهابي على القنصلية الأميركية في بنغازي (عام 2013).
قالت: «بعد أن أرسلت كل البريد الرسمي إلى الخارجية، قررت مسح بريدي الخاص. عن أشياء مثل: زواج ابنتي ووفاة والدتي، وحصص اليوغا التي كنت أذهب إليها».
لكن لم تقل ماذا كان مقياس «الرسمي» و«الخاص». قالت: «طلبت من الخارجية نشر كل البريد الرسمي الذي أرسلته. حتى يراه الشعب الأميركي، وحتى يتأكد من العمل الذي قمت به، وأفتخر به، كوزيرة للخارجية». لكن، حسب قانون الوثائق، لا تنشر الوثائق السرية إلا بعد 30 عاما. لماذا تريد نشر وثائقها الآن؟ ولماذا الحديث عن «الفخر»؟
قالت: «في النهاية، أعلن أنني التزمت بكل القوانين المطلوبة هنا».
لكن: صار واضحا أن هذا ليس صحيحا. ويبدو أن العاملين في الوزارة هم الذين التزموا بالقوانين الذي وزعتها هي عليهم، والتي تقول: «لا تستعملوا بريدكم الخاص لعمل الوزارة». وأخيرا، تبدو هذه فضيحة سياسية، وتاريخية، وقانونية. يبدو أن جزءا ليس قليلا من وثائق 4 أعوام لوزيرة الخارجية الأميركية زورت، أو اختفت، أو مسحت، سواء صارت هيلاري كلينتون رئيسة للجمهورية، أم لم تصر.

* فضائح بيل وهيلاري

- ترافيل غيت: نقل أصدقاء ومتبرعين سياسيين بالطائرة الرئاسية.
- هوايتوتر: استثمارات مشبوهة؛ شراء قطعة أرض في ولاية أركنسا.
- كاتيل غيت: استثمارات مشبوهة في بورصة المحاصيل والحيوانات في شيكاغو.
- جنيفر فلاورز: مغنية نادي ليلي، صديقة بيل عندما كان حاكم ولاية أركنسا.
- فنس فوستر: صديق ومستشار في البيت الأبيض، انتحر مع إشاعة علاقة جنسية مع هيلاري.
- بولا جونز: سكرتيرة وصديقة بيل عندما كان حاكما لولاية أركنسا.
- جوانيتا برودريك: صديقة بولا جونز، وأيضا بيل.
- غرفة لنكولن في البيت الأبيض: «للإيجار» لدافعي تبرعات سياسية.
- المعبد البوذي: علاقة مشبوهة وتبرعات سياسية من مهاجرين من الصين.
- ويب هابل: وزير العدل، اضطر لأن يستقيل بسبب فضيحة سياسية.
- كينيث ستار: المحقق الفيدرالي الذي قاضى كلينتون لأنه كذب عن علاقات جنسية.
- مونيكا لوينسكي: سكرتيرة البيت الأبيض بطلة علاقة جنسية مع بيل.
- إلينور روزفلت: قالت هيلاري إنها تتكلم معها في غرفتها في البيت الأبيض.
- العفو الرئاسي: في آخر يوم رئيسا، أعفى عن أصدقاء أدينوا.
- جيفري ابستين: في بداية هذا العام. رفعت قاصر قضية اغتصاب ضده، وقالت إن بيل كلينتون كان يعرف. وإن الأمير البريطاني أندرو كان هناك أيضا (نفى الأمير).



موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
TT

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ مستوياتها منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي السابق، وجرى تقويض كل قنوات الاتصال السياسية والدبلوماسية والأمنية. وحتى «الخط الساخن» الذي طالما عوّل عليه البلدان لمواجهة الظروف الطارئة وتجنّب الانزلاق إلى احتكاكات مقصودة أو غير مقصودة، جرى تجميده كلياً. كانت تلك، وفقاً لمسؤولين روس، أسوأ أربع سنوات في العلاقات، ولقد تحوّلت فيها الولايات المتحدة إلى خصم مباشر، و«شريك رئيس في الحرب الهجينة ضد روسيا». ولم ينعكس التدهور فقط في ملفات أوكرانيا والأمن الاستراتيجي والوضع في أوروبا - وهي القضايا المركزية التي تشغل بال الكرملين - بل أيضاً امتد في تأثيره بعيداً عن الجغرافيا الحيوية لروسيا... ليصل إلى الملفات الإقليمية الساخنة في الشرق الأوسط التي شهدت تصعيداً متواصلاً فاقم تأجيج الأزمة في العلاقات.

بمجرد اتضاح نتائج الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، بدأ محللون روس في وضع «سيناريوهات» للتقارب مع الإدارة الجمهورية الجديدة في واشنطن. ولطالما كان ينظر في موسكو للرئيس المنتخب دونالد ترمب على أنه «قادر على إعادة تشغيل العلاقات مع موسكو»، والتوصل إلى تسويات أو «صفقات» حول القضايا الأكثر خلافية.

بيد أن الكرملين كان قد خاض تجربة مريرة مع ولاية ترمب الأولى، عندما بدا الرئيس - المتهم بالتعاون سرّاً مع روسيا - عاجزاً عن مواجهة تركة باراك أوباما الثقيلة في العلاقة مع موسكو. لذلك لم ينجح التفاؤل الروسي في حينه، ولا الخطوات المحدودة التي انتهجها ترمب في تحسين العلاقات جدياً، ووضع «سيناريوهات» للتعاون في ملفات دولية أو إقليمية. بل بالعكس من ذلك، فقد واجهت روسيا في ولاية ترمب السابقة أضخم رُزم عقوبات فرضتها واشنطن. ومن ناحية ثانية، فشل الطرفان أيضاً في تحسين شروط التعاون حيال ملفات إقليمية مهمة، فتدهور الوضع حول إيران بعد انسحاب ترمب من الاتفاقية النووية، وتراجع الأخير عن تنفيذ تعهد الانسحاب من سوريا.

ثلاثة أفخاخ

بناءً عليه، بدت موسكو أكثر حذراً هذه المرة وهي تستقبل أنباء فوز ترمب الساحق. وحقاً، تجنّبت تعليق آمال جدية، بانتظار ما ستقدم عليه الإدارة الجديدة من خطوات عملية فور تسلم الرئيس منصبه رسمياً في يناير (كانون الثاني) المقبل.

لكن هذا لم يمنع التوقّعات المتشائمة، التي غلبت على العلاقة، من البروز بشكل مباشر أو غير مباشر. والحال أن موسكو تبدو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة. وفي هذا الإطار، أجمل أليكسي بوشكوف، عضو مجلس الشيوخ الروسي وأحد خبراء السياسة المقربين من الرئيس فلاديمير بوتين، المأزق الذي يواجه ترمب بأنه يشتمل على «ثلاثة أفخاخ صعبة».

الفخ الأول، بطبيعة الحال، هو ملف أوكرانيا: فلقد استثمرت الولايات المتحدة بالفعل الكثير في أوكرانيا لدرجة أنها ما عادت تعرف كيفية الخروج من هذه الأزمة. وهنا لا تتوقف موسكو كثيراً عند الوعود الانتخابية لترمب بإنهاء الحرب في 24 ساعة. ويتساءل بوشكوف: «هل ستتخلى واشنطن عنها مثل أفغانستان؟ لم يعد يمكنها ذلك». أو تكمل ما بدأته الإدارة الديمقراطية؟ عندها... وكما حذّر ترمب بحق، فإن هذا قد يؤدي إلى صراع نووي مع روسيا. تدرك موسكو حجم الصعوبات التي تواجه ترمب في هذا الملف.

أما الفخ الثاني، فهو شرق أوسطي. وهنا - حسب بوشكوف - «لا يمكن لترمب التراجع عن دعم إسرائيل بسبب وجود لوبي قوي جدّاً مؤيد لإسرائيل في الولايات المتحدة. لكنه لا يستطيع دعم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو علناً في كل ما يفعله، لأن هذا يضرّ بمكانة الولايات المتحدة في العالم العربي (...) ولأن المخطط الأميركي لمصالحة إسرائيل مع جيرانها ما زال موضع شك. لقد حاولت الولايات المتحدة إخراج إسرائيل من عزلتها في المنطقة... لكن هذا المدخل لم يعد يعمل. وعلاوة على ذلك: يُصرّ العالم العربي على إقامة الدولة الفلسطينية، وهو ما ترفضه إسرائيل بشكل قاطع. إذن فهذا أيضًاً فخ».

وأما الفخ الثالث فهو تايوان. ووفقاً لبوشكوف: «من الممكن أن تصبح قضية تايوان فخاً كبيراً للولايات المتحدة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل ستدعم أوروبا الأميركيين إذا دخلت الولايات المتحدة في صراع مع الصين؟ لقد قوّضت أوروبا نفسها اقتصادياً بشدة بالفعل بسبب انفصالها عن روسيا. وإذا فتحت أيضاً معركة مع الصين، التي يبلغ حجم تجارة الاتحاد الأوروبي معها تريليون دولار أميركي، فمن المرجح أن ينهار الاقتصاد الأوروبي ببساطة».

قنابل موقوتة

السياسي الروسي يرى أن «الأفخاخ الثلاثة» تمثل قنابل موقوتة بالنسبة إلى دونالد ترمب... مهما كانت طبيعة التركيبة النهائية لفريقه الرئاسي، أو خطواته الأولى على صعيد السياسة الخارجية.

فضلاً عن ذلك، يرى بوشكوف، أن ترمب الذي تعهد بإيلاء القدر الأكبر من الاهتمام للإصلاح الداخلي، سيواجه صعوبة كبرى في إيجاد توازن بين الانكفاء إلى الداخل من أجل تحسين الأداء الاقتصادي ومواجهة الهجرة و«إعادة أميركا عظيمة» بقدراتها واقتصادها ومستوى المعيشة لشعبها، وبين العمل بسرعة لتنفيذ وعود انتخابية بإنهاء حروب وتقليص التوتر في أزمات خارجية. ويضيف متسائلاً: «كيف يمكن أن تكون أميركا عظيمة مجدّداً... وهي تنكفئ في السياسة الدولية؟».

تبدو موسكو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز

التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة

تباين حيال التسوية في الشرق الأوسط

لا يبدو أن موسكو تثق كثيراً بقدرة ترمب على لعب دور نشط لإنهاء الحرب على غزة ولبنان، ودفع الإسرائيليين إلى التوصّل لحلول سياسية تعيد الهدوء - ولو نسبياً - إلى الشرق الأوسط.

وهنا، يذكر خبراء أن المدخل الأميركي السابق قام على أساس تعزيز اتفاقات تطبيع وفرض سلام من نوع خاص، لا يؤدي إلى تسوية سياسية حقيقية تنهي العنف في المنطقة وتنزع ذرائعه.

وترمب نفسه أعرب خلال فترة ولايته الرئاسية الأولى عن نيته التوسط في حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لكنه أظهر لاحقاً التقارب مع إسرائيل من أجل كسب دعم المانحين الرئيسيين والناخبين الرئيسيين، وخاصة الصهاينة المسيحيين الإيفانجيليين.

بحسب خبراء، هذا الموقف يتوافق مع النهج القائل: «أميركا تفعل ما تريد، وبالتالي أصدقاء أميركا يفعلون ما يريدون». مع الإشارة هنا إلى أن هذا النهج المائل إلى عقد «صفقات» ينصّ على «امتيازات خاصة للحلفاء كدفعة مقابل الأمن». غير أن موسكو ليست مقتنعة بأن هذا المدخل سيعزّز طريق الحلول النهائية للمنطقة.

ومقابل القناعة الروسية بالعودة إلى الآليات التي توافر عليها نوعٌ من الإجماع الدولي، كإحياء «الرباعية الدولية» وتوسيعها بضم بعض الأطراف الإقليمية المهمة (المملكة العربية السعودية ومصر وجامعة الدول العربية)، وأيضاً العودة إلى مبادئ التسوية القائمة على أساس رفض التوسّع الجغرافي للاحتلال، وإعلاء «مبدأ حل الدولتين» ووضع خرائط طريق جديدة بينها «المبادرة العربية للسلام»، فإن مدخل ترمب يقوم على عقد صفقات سريعة للتهدئة، وترك المناطق أمام «برميل بارود» قابل للانفجار مجدداً في أي وقت.

في هذا الإطار لا يتوقّع خبراء روس أن تكون التسوية في الشرق الأوسط بين أولويات الحوار المنتظر مع الإدارة الأميركية الجديدة، بالنظر إلى أن هذا الموضوع فيه تباعد واسع في وجهات النظر، ولا يدخل ضمن الملفات التي قد يكون بوسع الطرفين التوصل إلى صفقات حولها.

وفي الوقت ذاته، ترى موسكو - وفقاً لتحركات محدَّدة برزت في سوريا، ومن خلال حوارات مكثفة أجريت غالباً خلف أبواب مغلقة مع الجانب الإسرائيلي - أن بوسعها لعب دور أساسي في تأكيد دورها بضمان أمن إسرائيل من جهة سوريا وإيران مستقبلاً. وهو ما يعني أن هذا الموضوع قد يكون جزئياً على طاولة حوار روسي - أميركي في وقت لاحق.

تأهب للحوار حول سوريا

في هذه الأثناء، لدى الأوساط الروسية نظرة إيجابية، ولكن حذرة، بشأن احتمالات سحب ترمب القوات الأميركية من سوريا إبان ولاية ترمب الجديدة.

موسكو تتذكر الإرادة الأميركية في الانسحاب من سوريا إبان ولاية ترمب السابقة، لكن يومذاك كان التهديد الإرهابي ما زال نشطاً، والخطوط الفاصلة ومناطق النفوذ لم تكن قد تبلورت بشكل شبه نهائي. لذا يرى خبراء روس أن ترمب عندما يتكلّم عن سحب القوات حالياً فهو ينطلق من واقع ميداني وسياسي جديد. وبالتالي، سيكون حذراً للغاية عند مناقشة هذه المشكلة مجدداً.

أيضاً، ونظراً لوعود ترمب الانتخابية المتكررة، يُرجح أن ترغب واشنطن في سحب قواتها من سوريا، لكن لا يبدو لموسكو أن هذه القضية ستكون مُدرجة على جدول الأعمال ضمن أولويات التحرك الأميركي حالياً.

لقد قوبلت خطط ترمب لسحب القوات في السابق بمقاومة مفتوحة، خاصة من «القيادة الوسطى» الأميركية وشخصيات، مثل بريت ماكغورك، الذي عمل مبعوثاً خاصاً لمكافحة «داعش» حتى أواخر عام 2018، واستقال قبل شهرين من انتهاء فترة ولايته، مباشرة بعد قرار إدارة ترمب سحب القوات من سوريا في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018. بعدها عيّن جو بايدن، الرئيس الأميركي المنتخب، عام 2020، ماكغورك منسقاً لمجلس الأمن القومي الأميركي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، واكتسبت سياسة واشنطن في سوريا لدعم حزب العمال الكردستاني «وحدات حماية الشعب» زخماً.

حالياً يعود الملف إلى دائرة النقاش، ولقد برز بشكل واضح خلال اجتماعات «جولة آستانة للحوار» التي انعقدت أخيراً. وأكد المبعوث الرئاسي الروسي ألكسندر لافرنتييف إلى سوريا في ختام الاجتماعات أن موسكو منفتحة على الحوار مع الإدارة الأميركية الجديدة فور تشكيلها، لبحث الملفات المتعلقة بسوريا. وقال الدبلوماسي الروسي: «إذا كانت هناك مقترحات، فإن الجانب الروسي منفتح، ونحن على استعداد لمواصلة الاتصالات مع الأميركيين».

وفي هذا المجال، تنطلق موسكو من قناعة بأنه لا يمكن التوصل إلى بعض الحلول الوسط إلا من خلال المفاوضات المباشرة. وهي هنا مستعدة للاستماع إلى وجهات النظر الأخرى، وربما تقديم بعض الضمانات التي تحتاج إليها واشنطن لتسريع عملية الانسحاب ودعم التسوية في سوريا برعاية روسية تضمن مصالح الأخيرة.