لمن السلطة؟ للإنسان أم للخوارزم؟

كتاب تسلّل إلى كل مناحي الحياة المعاصرة

لمن السلطة؟ للإنسان أم للخوارزم؟
TT

لمن السلطة؟ للإنسان أم للخوارزم؟

لمن السلطة؟ للإنسان أم للخوارزم؟

أصدرت دار كلمات للنشر والتوزيع، هذا العام، ترجمة لكتاب بعنوان «أهلاً بالعالم، أن تكون إنساناً في عصر الخوارزميات» لأستاذة رياضيات المدن هانا فراي، وقد قام بنقله للعربية محمد جمال. تم تأليف الكتاب بشكل جدّ مبسط ليفهمه العموم الغارق في الاستهلاك الرقمي، وبإشكالية يمكن صياغتها كالآتي؛ لمن السلطة؟ للإنسان أم للخوارزميات؟ وهل الخوارزميات خير أم شر؟
يعالج الكتاب إشكاليته من خلال موضوعات متعددة، أهمها الحديث عن قوة الخوارزميات وانتشار مجالها في كل قطاعات الحياة، فهي أصبحت تطاردنا بصمت، بل يتاجر البعض من خلالها بأهم سلعة رائجة في عصرنا، وهي البيانات إلى حد التوحش، كما تقدم الكاتبة هانا فراي بعد ذلك وعلى طول الكتاب تطبيقات على هذا الاكتساح الرقمي لعالمنا في مجال؛ العدالة والطب والسيارات والجريمة والفن.
يبسط الكتاب الخوارزم algorithm باعتباره مجموعة من التعليمات المنطقية والمرتبة التي توضح كيفية تنفيذ مهمة معينة. فتصبح بذلك وصفة صناعة الكيك خوارزماً والاتجاهات التي نرسمها لإرشاد الغريب والكتيب التوجيهي لتركيب الأثاث خوارزماً أيضاً. إلا أن عصرنا الرقمي جعل الخوارزميات تنتعش أكثر، حيث أصبحت هي وقود الحاسوب، إذ يتم تزويده بتعليمات أدق، تقوم على عمليات رياضية صارمة (معادلات، حسابات، تفاضل، تكامل، احتمالات...) تترجم إلى كود كومبيوتر، فلا يبقى بعد ذلك سوى إطلاق البيانات من العالم الحقيقي على هذا الخوارزم وتحديد الهدف، فتنطلق الحسابات إلى غايتها بحرية تتجاوز الإنسان نفسه في كثير من الأحوال.
ينطلق الكتاب من ذكر قصة هزيمة ديب بلو (كومبيوتر شركة IBM) عام 1997 لغاري كاسباروف في لعبة الشطرنج، باعتبارها لحظة فارقة يعلن فيها ظهور حقبة تفوق الخوارزم وعبقريته. فالخوارزميات، طلباً للدقة وطمعاً في مزيد من الذكاء، تسللت إلى كل مناحي الحياة المعاصرة، من صحة وجريمة وعدالة وتنقل وسياسة وتجارة وفن... بشكل يثير تعجبنا وانبهارنا، لكن في الوقت نفسه، بشكل يثير قلقنا ومخاوفنا، نظراً لإحساسنا العميق أننا نفقد أعزّ ما نتباهى به، وهو الفكر والذكاء، الأمر الذي جعل كثيراً من الناس يعلنون رفضهم لهذا الغزو الخوارزمي، متسائلين عن الحدود الفاصلة بين الإنسان والآلة؟ وهل سنفقد السيطرة على الأمور لنصبح خاضعين خانعين للإملاءات الرقمية، لا فاعلين آمرين؟ وكيف نضمن أن خوارزم تعلم الآلة (الذكاء الاصطناعي) الذي أصبح يتجاوز قدرات الإنسان، لا يعمل ضدنا؟ بعبارة أخرى، أصبح السؤال عن مدى «شرّانية» الخوارزميات مطروحاً؟ خاصة مع ظهور مفهوم «التعلم العميق» Deep learning، إذ ما يحدث أحياناً في تعلم الآلة وكيفية اتخادها للقرارات، يمضي أبعد من المتوقع من البرمجة الأولى، إلى درجة لا يفهمها أحد حتى مشغلو الخوارزم أنفسهم، فالأمر يبدو كالسحر.
تعمل الخوارزميات في هدوء وصمت، في خفية وخلسة منا، لتحدد ملامح إنسانيتنا، فكأنا فقدنا القرار وسلّمناه بطواعية للآلة، فالمصفوفات الخوارزمية، التي تحدد الأولويات وتصنف وتربط وتفرز، وأصبحت تعرف عنا كثيراً وتصل إلى كوامننا الخبيئة، تعلم ما نحب وما نكره، ما نشاهد وما نقرأ، تعرف حمل المرأة وعدد إجهاضاتها، تكشف تاريخنا الجيني وأمراضنا المستقبلية المنتظرة، تحدد ميولاتنا وتوجهاتنا الجنسية والنفسية والسياسية... وبواسطتها أصبحنا نرسم ملامح نظام العدالة وندقق التشخيص الطبي، ونحقق القيادة الذاتية للسيارة، ونوجه الانتخابات الوجهة المطلوبة...
وإذا أخذنا مجال الطب مثلاً، فلقد أصبحت لدينا الآن خوارزميات لتصنيف شرائح الخزعات وفحص عينات الخلايا وكشف الشاذ من الظواهر بإحكام ودقة، فالخوارزميات لها إمكانية التخفيف من سوء تقدير الأطباء، وهو ما أصبح واضحاً في تشخيص السرطان مثلاً. والأمر نفسه يقال في عالم الجريمة، فهي أيضاً تم اقتحامها بخوارزميات تبعدها عن الفوضى والعشوائية وتقربها من الدقة والصرامة التي تسهل عملية التحري وكشف حقائق الجرائم. وكمثال على ذلك، تقدم الكاتبة «خوارزم روزمو» الذي يسلط الضوء على جغرافية الجريمة وأرجحية أماكن وجود المجرم، وهو الخوارزم الذي جنت منه الشرطة فوائد كثيرة. الأمر نفسه يقال أيضاً عن قطاع السيارات والطيران حيث عمل الخوارزميات أشد وضوحاً، فبلوغ مستوى القيادة الذاتية طموح بات حقيقة بفضل البرمجة الرقمية التي تزداد دقة يوماً بعد يوم.
إن فوائد الخوارزميات والتأثير الإيجابي للأتمتة لا يمكن نكرانه، فهي سهلت على الإنسان حياته، ومكّنته من تحسين التشخيص الطبي، والقبض على السفاحين بسرعة، وتجنب حوادث الطائرات، والوصول للمعلومة والمعارف البشرية المتراكمة بلمسة أصبع، والتواصل بين بني البشر في كل أنحاء العالم في اللحظة المباشرة، والتسوق الإلكتروني الذي يأتينا بالخيرات إلى عقر دارنا... لكن رغم كل هذه المكاسب الخوارزمية فإن الكاتبة هانا فراي، ترى أن هناك مشكلات عالقة تحتاج لمزيد من الأشغال وتضافر الجهود، للذهاب بالخوارزميات نحو الكمال، وذلك بالسهر على التخفيف من تحيز الخوارزم وقلة عدالته حين يصمم بوعي أو بلا وعي، لخدمة جهة أو طبقة دون الأخرى، فالبحث عن خوارزم كامل وعادل غاية منشودة ومرتقبة.
في الختام، تأمل المؤلفة في مستقبل يتم فيه كبح جماح الخوارزميات المتعجرفة والديكتاتورية لصالح خوارزميات تكون مساعدة لنا في الحياة، لا متحكمة فينا، عن طريق كشف المستغلين لها والمتلاعبين بها.

* كاتب مغربي مقيم في السعودية


مقالات ذات صلة

نسخة نادرة من مخطوطة «الأمير الصغير» للبيع

يوميات الشرق «شيء مثير للاهتمام جداً» (رويترز)

نسخة نادرة من مخطوطة «الأمير الصغير» للبيع

ستُطرح نسخة نادرة من المخطوطة الأصلية لرواية «الأمير الصغير» للكاتب أنطوان دو سانت أكزوبيري، للبيع؛ وهي التي تحتوي على تصحيحات وتعليقات مكتوبة بخطّ المؤلّف.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب القوة في موازين الحياة

القوة في موازين الحياة

يسعى كتاب «لعب الأدوار بقوة» للكاتبة والباحثة الأميركية، ديبورا جرونفيلد، إلى تفكيك مفهوم «القوة»، بما له من حمولات سيكولوجية، واجتماعية، وسياسية، وإنثروبولوجية

منى أبو النصر (القاهرة)
كتب «استنطاق الصامت» يختصر أبحاثاً طويلة في بضعة سطور

«استنطاق الصامت» يختصر أبحاثاً طويلة في بضعة سطور

يأخذ المفكر اللبناني مشير باسيل عون قارئه، في مؤلفه الجديد «استنطاق الصامت: مفاتحات فلسفية في الاجتماع والدين والسياسة» الصادر حديثاً عن دار «سائر المشرق»

مالك القعقور (لندن)
كتب «الحرب العراقية - الإيرانية»... تلك الحرب المجنونة!

«الحرب العراقية - الإيرانية»... تلك الحرب المجنونة!

صدر حديثاً عن «مكتبة عدنان» العراقية كتاب «الحرب العراقية - الإيرانية» لبيير رازو، الذي ترجمه إلى العربية فلاح حسن الأسدي.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
ثقافة وفنون «اسكتشات» لحسين رشيد

«اسكتشات» لحسين رشيد

عن دار «أهوار للنشر والتوزيع» ببغداد - شارع المتنبي، صدر للقاص حسين رشيد مجموعة قصصية مصنفة «اسكتشات» بعنوان «بار دي لو مي»

«الشرق الأوسط» (بغداد)

«استنطاق الصامت» يختصر أبحاثاً طويلة في بضعة سطور

«استنطاق الصامت» يختصر أبحاثاً طويلة في بضعة سطور
TT

«استنطاق الصامت» يختصر أبحاثاً طويلة في بضعة سطور

«استنطاق الصامت» يختصر أبحاثاً طويلة في بضعة سطور

يأخذ المفكر اللبناني مشير باسيل عون قارئه، في مؤلفه الجديد «استنطاق الصامت: مفاتحات فلسفية في الاجتماع والدين والسياسة» الصادر حديثاً عن دار «سائر المشرق»، في رحلة إلى عمق شخصيته وفكره ونظريته الفلسفية.

فأستاذ الفلسفة الألمانية في الجامعة اللبنانية درج على أخذ قرائه إلى أفكار كبار الفلاسفة والمفكرين، عبر أكثر من 30 كتاباً وعدد من الأبحاث وضعها خلال 40 عاماً، لكنه أراد لكتابه الجديد (207 صفحات من القطع الوسط) أن يكون رسالته المباشرة إلى القارئ، بلغته ونهجه ومفرداته، التي حمّلها أفكاره ورؤيته الفلسفية عبر استنطاقات (حوارات) أجراها معه باحثون ليعرفوا، وينشروا، خلاصة التصورات التي «استقرت في وعيي على تعاقب سنوات البحث الفلسفي والتعليم الجامعي والنضال الوجودي في جميع أبعاده».

مشير باسيل عون

وقبل أن يدخل القارئ إلى مفاتحات عون، يجده يطلب منه أن ينحي أفكاره المسبقة جانباً وألا يسلك طريقته الخاصة في النقاش والحوار والأحكام القَبْلية؛ لأن «كل واحد منا إذا راجع طريقته في محاورة الآخرين، اتضح له أنه، في كثير من الأحيان، يغترف الدليل من أنظومته الدينية، وفي ظنّه أنه يستمده من الشرعة الحقوقية العالمية التي يعترف بها معظم الناس. حينئذٍ يتعثّر الحوار، وتضطرب العلاقة، وتسوء النيات، وتفسد المقاصد. أما لو بذلنا جهداً يسيراً في استجلاء مصادر تصوراتنا وأفكارنا واقتناعاتنا، لتبين لنا أننا غالباً ما نفرض على الآخرين ما نعده أمراً مسلّماً به أو حقيقة ساطعة سطوع الشمس. وحده مثل هذا التمييز يجعل الناس والمختلفين يرتاحون إلى المجالسة والمحاورة والمباحثة، وفي يقينهم أن التلاقي تسوده رغبة الاحترام الصادق المتبادل وتؤيده مشيئة التقابس المغني».

وفي مقدمة كتابه أيضاً، يقول عون لقارئه أن يبحث عما يريد قوله في ثنايا فقراته وعليه أن «يضاعف اليقظة ويحبس الانتباه حتى يتقصى المرمى ويدرك المغزى المستتر في ثنايا الآراء المرسلة»، عازياً السبب إلى أنه يختصر في بضعة سطور أبحاثاً طويلة «أضناني إنشاؤها وأرهقني صوغها».

يذهب عون إلى القضايا الإنسانية، وربما أعسرها، محلياً وعالمياً، موضحاً أن «الفرق واضح بين الإفصاح عن الموقف الفلسفي العام، والدفاع عن بعض الأفكار الفلسفية في قضايا الوجود التاريخي، لا سيما في قرائن الاجتماع اللبناني والعربي».

فما هي هذه الأفكار التي يتبناها عون ويدافع عنها؟ يعنى عون، ومنذ سنوات طويلة من الانخراط الفكري في أوروبا ولبنان، بـ«تأصيل التعددية الكونية تأصيلاً فلسفياً». فهو يقول بأنثروبولوجيا الماهية الإنسانية المشرعة؛ أي بضرورة النظر في جوهر الإنسان نظراً تاريخياً يراعي التطور المطرد الذي يصيب كل الكائنات و«من جراء تسارع وتيرة الفتوحات العلمية، أعتقد أننا لن ننتظر طويلاً حتى نعاين صورة أخرى عن الإنسان الآتي في المقبل من العقود»، وفق تعبيره.

ويقول إنه عمد إلى البحث عن أفضل الأنظمة الحضارية التي تتيح للناس أن يتدبروا اختلافاتهم «فإذا بي أصوغ مفهوم العلمانية التي تميّز الحقل الاقتناعي الذاتي الشخصي الخاص من الحقل التنظيمي التدبيري التقني الجماعي المشترك العام».

وانطلاقاً من ذلك، ينصرف عون في أبحاثه إلى بناء نظرية فلسفية تقوم على 3 أصول:

التسالمية الحضارية المقترنة بالتعددية الكونية، وتكاملية القيم الإنسانية في تناولاتها التأويلية المتباينة، والحيادية الحاضنة في العلمانية الهنية.

لكن ما هي «العلمانية الهنية»؟ يجيب عون قائلاً صفة «الهنية» تجعل العلمانية ترعى بالحياد المتعاطف اختبارات الإنسان من غير أن تسوغ له فرضها على الآخرين، و«العلمانية الهنية وحدها تتيح للناس أن يصونوا اقتناعاتهم الإيمانية، ولكن من غير أن يفرضوا تفسيراتها القانونية وأحكامها التشريعية وتطبيقاتها المسلكية العملية (...) في نطاق المجال العمومي المشترك».

ولا يرى عون إلى هذا الأمر سوى الفلسفة سبيلاً «بالرغم من المشهد المأساوي».

إذا كان للفلسفة اليوم من رسالة استنهاض تلائم واقع العالم العربي فإنها رسالة تحرير الذات العربية من ذاتها

ولكن ما الذي يمكن أن تقدّمه الفلسفة للعالم العربي؟ يجيب عون، على الرغم من أن واقع الفلسفة في العالم العربي لا يشجعه على التفاؤل، قائلاً: «إذا كان للفلسفة اليوم من رسالة استنهاض تلائم واقع العالم العربي فإنها رسالة تحرير الذات العربية من ذاتها (...) وحدها الفلسفة، على ما تختزنه من طاقات تحرير الذات العربية، قادرة على استنهاض العالم العربي والتوثب به إلى آفاق التجديد والإبداع».

ويرى أن الفلسفة العربية المقبلة لن تقوم على الفتح الإبستمولوجي العالمي؛ لأن مختبرات العالم الأول تسلطت، فيما يشبه الاحتكار، على مصادر المعرفة العلمية المتطورة، ولن تنهض أيضاً على أسس القوميات الملتبسة لأن المجتمعات المعاصرة لم تعد تثق بالانتماء القومي حافزاً على الإبداع الثقافي، وطفقت تنحو اليوم منحى الأخوة الإنسانية المسكونية التي تتجاوز حدود العرق والمنبت واللغة، داعياً الإنسان العربي إلى «نحت هوية جديدة تستصفي أفضل ما في التراث من قيم وتعتمد أرفع ما في الحداثة من مكتسبات».

ولا يخفي عون دعوته إلى حوار مسيحي - إسلامي، موضحاً أن هذا الحوار يجب أن يكون سياسي المنحى ولا «يفلح فيثمر إلا إذا نشبت جذوره في حوار لاهوتي رصين موضوعي مجرد من غايات الاقتناص والاستعلاء والاحتواء»، ومستشهداً بزمن عربي قديم استطاع فيه المسيحيون والمسلمون أن يتحاوروا في صدق و«لا سيما في حقبات التسامح الديني الإسلامي».

ودعوته إلى هذا الحوار تستند إلى تجربة شخصية خاضها في إدارة مركز الأبحاث في الحوار المسيحي - الإسلامي؛ حيث عكف على استجلاء مسألة الحقيقة الدينية ومقامها في نطاق الأنظومة الفكرية التي تبتنيها الأديان التوحيدية الثلاثة (اليهودية والمسيحية والإسلام)، وخلص إلى «الاستنتاج اللاهوتي الذي يميّز بين الحق الإلهي في ذاته، والحق الإلهي في تجلياته»، مبتكراً اصطلاحاً لاهوتياً حوارياً سمّاه «الإطلاقية النسبية».