البلد الوحيد الذي سيدفع أميركا للانهيار هو أميركا نفسها

كتاب يرد على «التنبؤات والخيالات المختلقة» عن انهيار الولايات المتحدة أمام الصين

غلاف الكتاب و جوزف جوف
غلاف الكتاب و جوزف جوف
TT

البلد الوحيد الذي سيدفع أميركا للانهيار هو أميركا نفسها

غلاف الكتاب و جوزف جوف
غلاف الكتاب و جوزف جوف

«في أي عام ستتجاوز الصين الولايات المتحدة الأميركية وتعلن نفسها القوة الأعظم في العالم؟!»
هذا السؤال الشهير الذي يطرحه بشكل متكرر عدد كبير من الصحافيين والمؤلفين في أوروبا والولايات المتحدة يعلن بشكل صريح أن التنافس الصيني الأميركي انتهى عمليا والمسألة كلها فقط مسألة وقت حتى يتحقق ذلك رسميا. بعضهم حدد عاما معينا لانهيار العملاق الأميركي وسيكون في عام 2016 أو ربما عام 2026، وبعضهم يجزم بأن الانهيار وقع فعلا عام 2004. الصحافي والكاتب جوزف جوف نشر كتابا كاملا يرد على مثل هذه التنبؤات بعنوان يشي بمضمون الكتاب «أسطورة الانهيار الأميركي». هدف جوف من الكتاب هو تفنيد منطق هذه الموجة الصاعدة التي يقودها كتاب مشاهير ومعاهد بحوث ودراسات تروج باستمرار لنبوءة الانهيار. هناك رسالتان رئيستان للكتاب. الأولى: الانهيار مجرد وهم، فجوف يخبرنا أن قصة الانهيار الأميركي الوشيك أمام قوى أخرى ليست جديدة، بل تتكرر باستمرار مع كل قوة دولية منافسة وصاعدة.
حدث ذلك سابقا مع الاتحاد السوفياتي. دب الذعر في قلوب الأميركيين مع إطلاق الاتحاد السوفياتي القمر الصناعي سبوتنك 1 عام 1957. انتشرت حينها في الصحافة قصص الانهيار القريب. هناك من تنبأ أن الاقتصاد الروسي سيتجاوز الاقتصاد الأميركي بشكل أسرع من المتوقع، وستعلن أميركا الهزيمة المذلة أمام تصاعد قوة الصواريخ الروسية. الأستاذ اللامع في جامعة هارفارد هنري كيسنجر كتب حينها: «خداع النفس هو فقط ما سيمنعنا من أن نعترف لأنفسنا بأننا ننهار».
قصة الهزيمة الأميركية المؤكدة أمام الاتحاد السوفياتي ثبت أنها مجرد أسطورة. الذي انهار هو الاتحاد السوفياتي، والولايات المتحدة أصبحت بعدها الدولة الأقوى في العالم.
لكن قصة الانهيار تعود مرة أخرى، وهذه المرة مع اليابان. الاقتصاد الياباني الصاعد الذي بدا حينها أنه ينمو بلا توقف ولا شيء قادرا على تعطيله، أعاد من جديد أوهام الهزيمة وتخيلات الانهيار المحتوم. أحد المؤلفين نشر كتابا يعلن فيه بشكل صريح أن اليابان هي القوة الأعظم في العالم وأن التنافس معها انتهى على أرض الواقع. انهالت بعدها المدائح على ثقافة اليابانيين ونظامهم السياسي والاقتصادي. اليابانيون يعملون بلا توقف ويوفرون المال ولا يبذرونه كالأميركيين. لديهم نظام بيروقراطي أنجع واقتصادهم أفضل في التصنيع والعملية السياسية توافقية ولا تميل للاستقطاب الآيديولوجي. لحظة المجد الياباني أشعت مع صعود مؤشر سوق الأسهم الياباني نيكي عام 1989 إلى 39000 نقطة قبل أن ينهار بشكل سريع ليعلن توقف النمو وبداية ركود الاقتصاد الياباني إلى اليوم. العملاق الياباني الذي سيتسيد العالم ويهزم الولايات المتحدة بالضربة القاضية أصبح حكاية من الماضي.
لكن القصة ذاتها تعود هذه الأيام مع الصين. يقول المؤلف إن التنبؤات والخيالات المختلقة هي ذاتها تعود مرة أخرى. يذكر أحد الكتاب أن الصين تخيف المخيلة الأميركية بسبب حجمها الكبير. الأميركيون التي تبهرهم الأشياء الكبيرة من وجبة الهامبورغور كبيرة الحجم إلى السيارات الضخمة إلى المولات المبهرجة. الصين الضخمة اقتحمت العقل الأميركي من نقطة الضعف والانجذاب هذه.
الكاتب لديه الكثير من الأسباب التي تدعم وجهة نظره. الضخامة الصينية المخيفة تخبئ داخلها الكثير من العيوب الخطيرة. أولا، النمو الصيني لا يمكن أن يستمر على هذه الوتيرة للأبد. بل سيصاب بالتباطؤ، وهذا بالفعل ما بدأ يحدث في الأعوام الأخيرة. يقول الكاتب إنه يجب عدم الخلط بين النمو السريع لدول صاعدة تبدأ من الصفر والوهم القائل إن ذلك لن يتوقف أو يتراجع في المستقبل. مع زيادة أجور العمال من المؤكد أن هذه القوة ستضعف. ثانيا، الصين عاجزة عن خلق سوق للاختراعات التقنية كما يحدث في الولايات المتحدة التي تقود العالم في هذا المجال، والدليل على ذلك شركات مثل غوغل وأبل وغيرهما. ثالثا، التغيرات الديموغرافية لن تكون في صالحها. مع حلول عام 2035 ستكون النسبة الأكبر من الشعب الصيني فوق عمر الـ65. رابعا، الولايات المتحدة تجتذب عددا أكبر من المهاجرين من بينهم الصينيون أنفسهم الذي يقررون العيش فيها. هذا يعني نسبة أكبر من الشباب ومزيدا من الطاقة والأفكار الخلاقة. خامسا، التعليم الأميركي متفوق بمراحل على التعليم في الصين. من بين الجامعات العشرين الأقوى في العالم هناك سبع عشرة جامعة أميركية. الصينيون يبعثون أولادهم للدراسة في الجامعات الأميركية القوية ويقرر ما نسبته 92٪ ممن يحصلون على شهادة الدكتوراه في الهندسة والعلوم المكوث فيها لمدة تقارب الخمسة أعوام. سادسا، القوة العسكرية الأميركية لا تقارن بالقوة العسكرية الصينية. في الوقت الذي تصرف فيه الولايات المتحدة على تسليحها العسكري ما يقارب 692 مليار دولار سنويا، تخصص الصين 100 مليار فقط. سابعا، النظام السياسي الصيني المحكوم بالحزب الواحد غير مستقر. حدوث ثورات واضطرابات أمر محتمل، هذا على العكس من النظام الأميركي الديمقراطي المستقر منذ عقود طويلة والذي لا تهدده أي قلاقل وأزمات.
لكل هذه الأسباب المثبتة بالأرقام وغيرها يعيد الكاتب التأكيد مرة بعد أخرى أن الحديث عن تجاوز الصين للولايات المتحدة هو أمر غير واقعي، ولكن مجرد موضة أصدرها مجموعة من الشخصيات «الانهزامية» كما يسميها. ولكن نقاد الكتاب ومؤلفه يقولون إنه أيضا تجاهل حقائق هامة قد تتسبب فعلا في انهيار أميركي وشيك. منها أنه لم يتطرق للأزمة الاقتصادية الأخيرة التي ضربت الولايات المتحدة، ولم يتناول الصراع الآيديولوجي بين الديمقراطيين والجمهوريين الذي يعطل الكثير من المشاريع الاقتصادية الحيوية، كما أنه لم يشر إلى تزايد تفاوت معدلات الدخل في المجتمع الأميركي بين الأثرياء والفقراء وتضرر الطبقة الوسطى في السنوات الأخيرة. كل تلك مؤشرات على ضعف وإنهاك لا يبدو أنها ستحل على المدى المنظور.
لا يبدو أن جوف يرى في من أي من تلك الانتقادات الواردة مسببات جوهرية لتراجع الولايات المتحدة. بل يؤكد أن هناك سببا واحدا قد يحقق نبوءات الانهيار والسقوط. وهنا تكمن الرسالة الأساسية الثانية في كتابه وهي: البلد الوحيد الذي سيدفع أميركا للانهيار هو أميركا نفسها. إذا صدقت أساطير الانهيار والهزيمة.



علماء الآثار يعثرون على حطام سفينة قديمة قبالة الإسكندرية

اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)
اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)
TT

علماء الآثار يعثرون على حطام سفينة قديمة قبالة الإسكندرية

اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)
اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)

أعلن علماء الآثار البحرية، الاثنين، اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية.

ووفقاً لوكالة الصحافة الفرنسية، عثر غواصون على هيكل السفينة الذي يزيد طوله على 35 متراً وعرضه نحو 7 أمتار، تحت المياه في ميناء جزيرة أنتيرودوس، حسبما أعلن المعهد الأوروبي للآثار البحرية في بيان.

ووجدت على السفينة كتابات يونانية «قد تعود إلى النصف الأول من القرن الأول للميلاد» و«تدعم فرضية أن السفينة بُنيت في الإسكندرية».

وأضاف المعهد ومقره في الإسكندرية أن السفينة «كانت على ما يبدو تضم مقصورة مزينة بشكل فاخر، وكانت تُشغّل بالمجاذيف فقط».

أسس الإسكندر الأكبر مدينة الإسكندرية عام 331 قبل الميلاد. وضربت سلسلة من الزلازل وأمواج المد ساحلها ما أدى إلى غرق جزيرة أنتيرودوس التي اكتُشفت عام 1996.

على مر السنين، عثر الغواصون على تماثيل وعملات معدنية وكنوزاً أخرى في الجزيرة الغارقة، بعضها معروض في المتحف اليوناني الروماني بالإسكندرية.

ونشر مدير المعهد الأوروبي للآثار البحرية فرانك غوديو، مؤخراً، تقريراً عن أنتيرودوس ومعبد إيزيس فيها، استناداً إلى عمليات استكشاف تحت الماء أُجريت منذ تسعينات القرن الماضي.

وأكد المعهد أن الأبحاث المستقبلية حول الحطام المكتشف حديثاً «تبشر برحلة شيقة في حياة مصر الرومانية القديمة وديانتها وثرواتها ومجاريها المائية».

والإسكندرية موطن لآثار قديمة وكنوز تاريخية، لكن ثاني أكبر مدينة في مصر عرضة بشكل خاص لتداعيات تغير المناخ وارتفاع منسوب مياه البحر، إذ تغمرها المياه بأكثر من 3 مليمترات كل عام.

وتقول الأمم المتحدة إنه في أفضل السيناريوهات سيكون ثلث الإسكندرية مغموراً بالمياه أو غير صالح للسكن بحلول 2050.


«عزيزتي كاسندرا»... نافذة على الحياة الخاصة لجين أوستن

جين اوستن
جين اوستن
TT

«عزيزتي كاسندرا»... نافذة على الحياة الخاصة لجين أوستن

جين اوستن
جين اوستن

بمناسبة مرور 250 عاماً على ميلاد الكاتبة البريطانية جين أوستن، أصدرت دار نشر «فينيتيود» الفرنسية كتاباً جديداً بعنوان: «عزيزتي كاسندرا»، يضم رسائل تبادلتها الروائية مع أختها الكبرى كاسندرا.

الحدث، وفق تقارير الصحافة الأدبية، مهم، فنحن إذا استثنينا بعض المذكرات المختصرة التي نشرها أقارب جين أوستن في القرن الـ19، ورغم المكانة الرفيعة التي تحظى بها الكاتبة اليوم، فإن ما نملكه من معطيات عن حياتها لا يزال محدوداً نسبياً. ولذا؛ فإن مبادرة دار النشر «فينيتيود» جاءت لتقدّم فتحاً لافتاً، حيث أصدرت لأول مرة النص الكامل للرسائل المتبادلة بينها وبين شقيقتها، وهي تقدر بنحو 89 رسالة تبادلتها الأختان بين يناير (كانون الثاني) 1769 وأبريل (نيسان) 1816، بينما كان الباحثون قد قدروا عدد الرسائل التي كتبتها جين في حياتها بنحو 300، لم يبقَ منها سوى 116، حيث حرقت كاسندرا جزءاً منها؛ حمايةً لسمعة جين بعد وفاتها، خصوصاً أن كثيراً منها تضمن تعليقات غير مُحبّذة أو جارحة بحق بعض الأقارب والأصدقاء، أو إشارات إلى مسائل خاصة بالصحة والعلاقات.

«عزيزتي كاسندرا» ليست مجرد مراسلات عائلية بين أختين تجمعهما علاقة قوية، بل وثائق تاريخية تكشف عن امرأة رفضت الخضوع لتقاليد عصرها... اختارت الكتابة على الزواج المريح، وحولت معاناتها الشخصية إلى فن راقٍ، حيث نرى جين أوستن الحقيقية: المرأة الذكية، والساخرة، والمحبة لعائلتها، والملتزمة بفنها حتى النفس الأخير.

في رسائلها المبكرة، تكشف جين، البالغة من العمر 20 عاماً، لأختها وكاتمة سّرها كاسندرا عن علاقة عاطفية مع المحامي الآيرلندي الشاب توم ليفروي، التي يُعتقد أنها ألهمت شخصية «السيد دارسي» في روايتها «كبرياء وتحامل»، حيث كتبت إلى كاسندرا في 9 يناير 1796: «كاسندرا... أخشى أن أخبرك كيف تصرفت أنا وصديقي الآيرلندي. تخيلي كل ما هو صادم وفاضح في الرقص والجلوس معاً...». وفي 15 يناير، كتبت إليها مجدداً بنبرة مختلطة؛ بين الدعابة والأسى: «اليوم هو اليوم الذي سأغازل فيه توم ليفروي لآخر مرة، وحين تصل إليك هذه الرسالة، فسيكون كل شيء قد انتهى. دموعي تنهمر وأنا أكتب هذه الفكرة الكئيبة».

واللافت أن جين بدأت كتابة المّسودة الأولى لرواية «كبرياء وتحامل» في أكتوبر (تشرين الأول) 1796، أي بعد أشهر قليلة من رحيل ليفروي إلى لندن لإكمال دراسته القانونية؛ مما يعزز فرضية تأثير هذه التجربة العاطفية على إبداعها الروائي. وعكس الرواية التي حملت نهاية سعيدة، فان جين لم تتزوج توم بسبب وضعها المادي ومعارضة العائلة هذه العلاقة. وهو ما تُظهره رسائل أخرى مكتوبة بين عامي 1801 و1806، حيث تبدو في مواجهة تحديات مالية واجتماعية قاسية، بعد أن قرّر والدها التقاعد والانتقال إلى مدينة باث، وهو ما صدم جين بعمق، حيث كتبت في 5 مايو (أيار) 1801 واصفة بلهجة ساخرة: «المنظر الأول لباث في طقس جميل لا يوافق توقعاتي. أعتقد أنني أرى بوضوح أكثر من خلال المطر...». وتضيف في موضع آخر: «كل شيء بخار وظلال ودخان وارتباك».

وفاة والدها المفاجئة عام 1805، تركت جين وكاسندرا ووالدتهما في وضع مالي صعب، حيث اضطررن إلى الاعتماد على المساعدات السنوية من الأشقاء الذكور، والتنقل بين منازل الأقارب.

خلال هذه الفترة العصيبة، توقفت جين بشكل شبه كلي عن الكتابة، حيث بدأت رواية «ذا واتسونز» لكنها لم تكملها، والرواية تتحدث عن قسّ مريض فقير وبناته الأربع غير المتزوجات؛ مما فُسر بأنه صدى واضح لمحنتها الشخصية. الاستقرار لم يأتِ إلا في عام 1809 عندما وفر لهن شقيقها الغني إدوارد منزلاً في تشاوتون، حيث عاشت جين أكثر سنواتها إنتاجاً أدبياَ هناك مع كاسندرا التي تولت إدارة المنزل، لكي تتفرغ جين للكتابة. في هذه الفترة، أنتجت خمساً من أشهر رواياتها: «العقل والعاطفة» و«كبرياء وتحامل» و«متنزه مانسفيلد» و«إيما» و«إقناع». ورغم وضعها المادي، فإن جين أوستن لم تكن تقبل بالنفاق أو بالتنازل عن مبادئها، وهو ما وثقّته الرسائل بشكل غير مباشر من خلال قصّة خطبة هاريس بيغ ويذر، الذي فاجأها بعرض زواج خلال زيارتها عائلته في مانيداون بارك. وبعد قبولها العرض، غيّرت رأيها في الصباح التالي، وفرّت إلى باث مع شقيقتها كاسندرا في حالة من الاضطراب الشديد.

هذا الرفض لم يكن مجرد قرار عاطفي، بل كان قراراً مصيرياً رفضت فيه جين الأمان المالي والمكانة الاجتماعية من أجل مبادئها. وقد انعكست هذه التجربة في رواياتها، خصوصاً في شخصية «شارلوت لوكاس» في «كبرياء وتحامل» التي قبلت بالزواج من «السيد كولينز» لأسباب مادية، وفي علاقة «فاني» و«هنري» في «متنزه مانسفيلد». وقد كتبت جين لاحقاً في إحدى رسائلها عام 1814 ناصحة: «كل شيء يُفضّل، أو يُحتمل، ما عدا الزواج من دون عاطفة».

الرسائل أظهرت أيضاً شخصية جين المحترفة الحريصة على التفاصيل والدقة في تحرّي المعلومات، حيث نراها تناقش أختها تفاصيل عن سفن البحرية لتضمن دقة الوصف في «متنزه مانسفيلد»، وقد غيرت كثيراً من التفاصيل بعد أن استشارت شقيقها الضابط.

في رسائلها الأخيرة (1816 - 1817)، ورغم المرض الذي بدأ ينهش جسدها الذي يُعتقد اليوم أنه كان مرض «أديسون»، فإن جين استمرت في الكتابة بروح متفائلة، حيث بدأت رواية «ساندايتون»، لكنها لم تكملها بسبب ضعفها. وفي إحدى رسائلها الأخيرة لأختها كاسندرا في يناير عام 1817، كتبت بروحها المرحة المعتادة رغم معاناتها الواضحة، قائلة: «أعيشُ غالباً على الأريكة، لكني حصلت على تصريح بالمشي من غرفةٍ إلى أخرى؛ خرجتُ مرةً أتنفس الهواء بعد أن تناولت قرص دواء، ووُضعت على كرسيٍّ محمول...»، وهي عبارةٌ تُظهِرُ قدرتها على المزاح رغم المرض.


«الأوسلاندر»... بُعدٌ آخر للمنفى

«الأوسلاندر»... بُعدٌ آخر للمنفى
TT

«الأوسلاندر»... بُعدٌ آخر للمنفى

«الأوسلاندر»... بُعدٌ آخر للمنفى

يقدّم خالد إبراهيم في الجزء الأوّل من ثلاثيته الروائية «الأوسلاندر- تشريع الغربة اختبار الفقد»، (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 265 صفحة)، نصاً يؤسّس لمرحلة تكوّن إنسان يدفعه وطنه إلى التخلي عنه، ويستقبله بلد آخر بصفته «أجنبياً» لا بصفته ذاتاً كاملة. يتموضع هذا الجزء بوصفه بناءً تمهيدياً لمشروع سردي أطول، يقدّم الشخصيات والفضاء واللغة والحدث من دون إغلاق أي سؤال، بل عبر تثبيت قاعدة الانطلاق فقط.

يتمحور السرد حول حركة انتقال واحدة: خروج من فضاء مهدَّد في الوطن الأول، ودخول إلى فضاء منضبط وبارد في بلد اللجوء. غير أنّ الكاتب لا يتعامل مع هذه الحركة بوصفها رحلةً درامية أو ملحمة عبور، بل على أنها تحوّل بطيء في إيقاع حياة بطل واحد هو «شفان»، الذي يُعاد تشكيله داخل نظام كامل من الملفات والمقابلات والاستمارات وأسئلة الهوية، بحيث يُطلَب منه أن يسوّغ وجوده باستمرار. الحدث الرئيس ليس سلسلة وقائع، بل اصطدام يومي بين ما يراه «شفان» في نفسه وبين ما تراه المؤسسة عنه.

قوّة السرد تكمن في تجنّب الروائي الإفراط الدرامي؛ فلا مطاردات البتة، ولا مشاهد عبر الحدود، ولا بكائيات... إنما ثمة توتر منخفض يستمدّ قوته من الانتظار الطويل، وبطء الإجراءات، وقلق المستقبل. يكتب الروائي تجربة اللجوء بطريقة أقرب إلى الواقع منها إلى الصورة التلفزيونية. وبذلك يصبح الشعور بالاختناق البارد هو المسرح الداخلي للرواية، لا مشاهد العنف أو المآسي الصارخة.

شخصية «شفان» تُبنى عبر طبقات شفّافة، فلا يُقدَّم بطلاً ولا ضحية، بل إنساناً عادياً يحمل ذاكرة قاسية لكنه يعيش لحظة الحاضر تحت سطوة إجراءات يومية. الماضي يظهر بوظيفة تفسيرية لا استطرادية، بحيث لا يطغى على الحاضر. كما أن التغيير في الرواية ليس طفرة ناتجة عن حدث كبير، بل حصيلة مواقف صغيرة متراكمة، منها: تعلُّم الوقوف أمام الموظف، وكبح الغضب أمام النظرة المتعالية، وفهم شروط المكان الجديد... تكلفة الخطأ عالية، لذا يأتي النضج بطيئاً وحذراً.

إلى جوار «شفان» تتحرك شخصيات ترسم محيط التجربة. فـ«خبات» لا يظهر بوصفه نموذجاً مثالياً بل مهاجراً متعباً، يساعد ويتردد ويخاف، فتنعكس فيه صورة احتمال آخر لمصير «شفان». أمّا «بروين» فتمثل خطاً عاطفياً محتَملاً لا يكتمل، لأن المنفى لا يمنح علاقة مستقرة بسهولة. الحوار بينهما مشحون بالحذر، كأنّ كل كلمة اختبار لخطوة آتية قد تُبنى أو تُلغى. بهذا تُظهر الرواية بعداً آخر للمنفى: المنفى عن الطمأنينة العاطفية، لا عن الوطن وحده فقط. أما الظلّ فيأتي بوصفه أداة فنية ذكية تتيح مساءلة الذات من دون تنظير مباشر. إنه صوت عميق يسأل عن جدوى الرحيل، وإمكان العودة، ومعنى العيش بين هويتين، مما يمنح البنية النفسية للرواية بعداً هادئاً، يكشف عمّا هو أعمق من السرد المباشر.

المكان في «الأوسلاندر» ليس فضاءً جغرافياً بل شبكة ضغط. الوطن الأول يُستحضر بإشارات موجزة تكفي لتبيان أنّ وراء الخروج خوفاً حقيقياً. بينما البلد الأوروبي لا يرسمه الروائي جحيماً ولا فردوساً، بل منظومة صلبة في إجراءاتها، دقيقة إلى حدّ الإرهاق والاختناق. حيث تكفي غرف الإيواء الضيقة، والأسرّة المتجاورة، والمطابخ المشتركة، وأرقام الانتظار، والممرّات الرسمية، لتأسيس شعور الرقابة المستمرة. حتى الأماكن المفتوحة كالغابة أو المقهى تُستخدم كتخفيف مؤقت من الجدران لا كرموز فلسفية.

الزمن في الرواية يُبنى بنظامين؛ أحدهما زمن إداري تحدّده المواعيد والدوائر والرسائل، وثانيهما زمن داخلي يتشكّل في لحظات الانتظار الطويلة، حيث يتسلل الماضي إلى الوعي من دون أن يخطف مركزية الحاضر. فلا قفزات زمنية معقدة ولا نهايات مغلقة. إنها قطعة من مسار أطول، مرحلة من تشكّل هوية «الأوسلاندر» التي من المفروض أن تُستكمل في الجزأين التاليين.

وبوصف اللغة عنصراً رئيساً ومهماً في بناء العالم السردي، يختار خالد إبراهيم، القادم من الشعر، لغة نثرية اقتصادية، بجمل قصيرة، ومشاهد محكمة، بلا زخرفة أو استعارات مبهرة. هذا الخيار الجمالي يكسر السرديات المعتادة حول اللجوء، التي كثيراً ما استدرجت الخطاب العاطفي أو الإنشائي. هنا تُستخدم اللغة أداة إضاءة، لا وسيلة لاستدرار التعاطف. ورغم ذلك يسمح الكاتب لجملته أحياناً بأن تتباطأ وتتأمل، لكنها تبقى لحظات عابرة لا تغيّر من نبرة الأساس.

لا يحصل قارئ رواية «الأوسلاندر» في نهاية الجزء الأول على أي يقين حول مصير «شفان»... الماضي مفتوح على تهديد محتمل، والحاضر لم يتحول إلى إقامة مستقرة، والمستقبل لا يظهر إلا من زاوية الشك. هذه اللّاخاتمة ليست ضعفاً، بل هي جزء من مشروع الرواية كما نعتقد: ترك الباب مشرعاً أمام التكوين المستمر لشخص يتشكّل تحت ضغط تصنيف قاسٍ اسمه «الأوسلاندر».

بهذا الاشتغال الدقيق على الشخصية والزمان والمكان واللغة، يقدّم الجزء الأول من «الأوسلاندر» نموذجاً لرواية تُراكم ولا تُعلن، وتكشف ولا تستعرض، وبذلك تضع القارئ داخل التجربة لا خارجها.