الشاعرة السودانية روضة الحاج: الجائحة فرضت «حالة كونية» سيعبّر عنها الأدب بطريقته

وزيرة الثقافة السابقة تقول إنها أرادت تجريب «الوصفة الثقافية» لحل المعضلات السياسية

روضة الحاج
روضة الحاج
TT

الشاعرة السودانية روضة الحاج: الجائحة فرضت «حالة كونية» سيعبّر عنها الأدب بطريقته

روضة الحاج
روضة الحاج

اشتهرت الشاعرة الإعلامية السودانية روضة الحاج أكثر ما اشتهرت، بصفتها شاعرة، بقصيدتها «بلاغ امرأة عربية» التي ألقتها في برنامج «أمير الشعراء» الذي يقدمه تلفزيون أبوظبي، والذي فازت بإحدى مراتبه، وأُطلق عليها لقب «أميرة الشعراء». وكانت روضة الحاج الشاعرة الوحيدة التي نافست الشعراء العرب في جائزة «سوق عكاظ»، وفازت في دورة عام 2012 بالجائزة، وارتدت بردة «شاعر عكاظ»، واختيرت من بين 35 شاعراً من 8 دول عربية.
وأصدرت روضة الحاج مجموعة من الدواوين، منها: «عش القصيد»، و«في الساحل يعترف القلب»، و«مدن المنافي»، و«للحلم جناح واحد»، و«ضوء لأقبية السؤال»، و«قصائد كأنها ليست لي».
وكانت قد اختيرت وزيرة للثقافة، إذ عينها الرئيس السوداني السابق عمر البشير وزيرة للثقافة والسياحة والتراث في آخر تعديل له في التشكيلة الحكومية، قبل عشرة أيام من إطاحته على يد الجيش السوداني... وهنا، لقاء معها عبر الهاتف:

> أولاً، في حالة الترقب والقلق العالمي من جائحة كورونا... هل هناك دور للشعر؟
- ما يحدث أمر معقد إنسانياً، وبالتالي فهو معقد شعرياً: فرض العزلة والتباعد الاجتماعي، وتجنب التواصل، والانغلاق على الذات، وتضييق خيارات البشر لأقصى حد ممكن، كلها تمثل حالة «كونية شعرية» سيعبر عنها الأدب بطريقته، سواء كان قصة أو رواية أو مسرحاً أو شعراً أو غير ذلك.
> كيف تعاملت بصفتك شاعرة أديبة مع العزلة التي فرضتها جائحة كورونا؟ وما تأثيرها عليك بصفتك كاتبة؟
- لطالما أحببت العزلة، على الرغم من تصنيفي على أنني كائن اجتماعي جداً، لكنني كنت أعرف في قرارة نفسي أن هذه هي حقيقتي التي لم تتح لي طبيعة عملي واهتماماتي تجربتها على الإطلاق، فقد كنت منذ طفولتي «تحت الضوء»، بطريقة أو بأخرى، فمنذ السادسة من عمري وأنا أقدم طابور الصباح المدرسي. وقد تواصل هذا «الضوء» عبر عملي الإعلامي في الإذاعة والتلفزيون ومجلة السمراء (بنتي المدللة) ونشاطي الثقافي وحضوري في المشهد العام إجمالاً.
لكن توقي للعزلة لم يخمد يوماً. وعندما فرضت الجائحة بصرامة شديدة، خاصة في الأيام الأولى، شروط الحياة في ظلها، كان جانب مني سعيداً بذلك، مع خشيتي البشرية العادية من عواقب ذلك بالطبع. وقد أنجزت خلال هذه الفترة ديوانين، صدر أحدهما وسيصدر الآخر قريباً، وكتبت مسرحية شعرية (حرة غرناطة)، وأنجزت رواية، وأعمل خلال هذه الأيام على إنجاز الرواية الثانية.
> برأيك، أين موقع المرأة في خريطة الإبداع الشعري العربي اليوم؟
- المرأة موجودة، وبقوة. وأزعم أن الفترة الحالية هي أخصب فترات الإبداع النسوي في المجالات كافة. فالمجتمعات أصبحت أكثر تقبلاً وتصالحاً مع نتاجاتهن، وقد أسهمت النقلات الفكرية التي شهدها العالم العربي إلى حد كبير في توسيع مساحاتهن الضيقة، وفك كثير من القيود عن أقلامهن. وصاحب ذلك زيادة في حالة الوعي الجمعي العام الذي شمل المبدعات أنفسهن، فقد تجاوزن مرحلة التصادم والتمرد والعصيان بصفته نوعاً من رد الاعتبار، واندمجن في حركة التنوير والإبداع العامة بأقلام تشعر بالندية، وليس بعقدة النقص أو الرغبة في الانتقام، وأصبح بالإمكان الحديث عن ملامح مكتملة لمشروع نسوي إبداعي.
> هل تعتقدين أن لشعرك السياسي الذي رافق مسيرتك الأدبية دوراً في انتشارك الإعلامي؟
- لا أعتقد. وعموماً، قصائدي الوطنية والقومية قليلة جداً، مقارنة ببقية شعري، وأكثرها لم يصدر حتى الآن ولم يجمع أيضاً، بينما بقية شعري صدرت في 7 دواوين، وأستعد لإصدار الديوان الثامن قريباً إن شاء الله.
كما أن عملي الأساسي هو الإعلام، فقد شغلت وظيفة مذيعة ومعدة برامج بالإذاعة القومية السودانية والتلفزيون وقنوات أخرى، ووثقت وحاورت معظم المبدعين السودانيين على مدى سنوات وسنوات؛ أي بمعنى آخر كنت أنا من يقدم الآخرين من واقع عملي بصفتي محاورة أكثر من كوني ضيفة يحاورها الآخرون، وأفخر بأنني وثقت تجارب أهم الشعراء والأدباء السودانيين، وقدمت أول برنامج يستضيف الأدباء العرب والسودانيين، ويحاورهم عبر قناة الشروق الفضائية، بل حصلت على جائزة أفضل محاور من مهرجان القاهرة للإذاعات والتلفزيونات العربية.
> يبدو المشهد الثقافي بالسودان في حالة نكوص منذ سنوات طويلة... لأي سبب ترجعين ذلك؟
- أول وزارة تمت الإطاحة بها من قائمة الوزارات هي وزارة الثقافة التي ضغط المثقفون والأدباء على صناع القرار السياسي طويلاً لاعتمادها في السابق بصفتها وزارة مستقلة. وعلى الرغم من أن الشعب السوداني معروف بثقافته العالية، وحبه للأدب بشكل عام، وللشعر على وجه الخصوص، فقد لاحظ كثيرون ضعف النتاجات الأدبية المعبرة عما حدث من تغيير، مقارنة بثورة أكتوبر (تشرين الأول) 64 مثلاً، أو حتى أبريل (نيسان) 85. ويبدو أن السبب ضيق العيش، وصعوبة الحياة التي يكابدها السودانيون حالياً بمختلف قطاعاتهم، والتي ألقت بظلالها على كل شيء، بما في ذلك المشهد الثقافي والإبداعي.
> زرتِ المملكة العربية السعودية، وكنتِ أول امرأة تتلحف ببردة عكاظ... كيف وجدت بيئتها الأدبية ومشهدها الثقافي بشكل عام، ومكانة المرأة تحديداً؟
- المملكة من أغنى بلدان المنطقة ثقافياً، ولا غرو، فمن هنا بدأ كل شيء: الشعر والحداء والغناء والنشيد. والمتلقي السعودي متلقٍ مذهل جداً، يقدر الشعر ويحبه، ويعرف قيمته ويتجاوب معه. وفي الوقت الذي تصاب فيه أشجار الشعر في كثير من أنحاء العالم العربي بالعطش وتساقط الأوراق والتصحر والآفات، تزداد أشجار الشعر في المملكة خضرة وارتفاعاً، يدعم ذلك كليات آداب ذات ثقل معرفي عالٍ، وأقسام لغة عربية وأدب ونقد قوية البناء والمنهج، وملاحق ثقافية ومواقع على الشبكة وقنوات؛ كل هذه الأشياء تجعل من المملكة ميداناً راقياً للإبداع والثقافة والأدب.
أما المرأة السعودية، فهي حالة نادرة مبهرة من الذائقة النسوية المتميزة في التلقي والتفاعل الشعري والثقافي. وأنا بصدق مبهورة جداً بالمرأة السعودية المتذوقة المتفاعلة مع الشعر والأدب في المملكة، وأحد مفاخري الكبرى محبتهن لما أكتب، وتواصل قطاعات واسعة منهن معي دائماً.
> يبدو أن صوت قصيدتك «بلاغ امرأة عربية» أعلى من باقي قصائدك... كيف تفسرين ذلك؟
- ربما لأنها من أقدم نصوصي، فقد كتبتها في عشرينياتي، وكانت مفتاحاً سحرياً بحق قدمني إلى كل العواصم العربية، وأتاح لي القراءة في منصة واحدة مع كبار الشعراء السودانيين والعرب، كذلك كانت هذه القصيدة محظوظة بحصولها على قراءات نقدية متنوعة من نقاد كبار.
> ما علاقتك بوسائل التواصل الاجتماعي؟ وهل ترين مثل هذه العلاقة تؤثر على النشاط الأدبي؟
- وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت واقعاً لا نستطيع إلا التعاطي معه، ولكني أؤمن جداً بالاعتدال، وهو ما أمارسه معها. فمثلاً، صفحتي على «فيسبوك» يتابعها كثير من محبي الشعر في السودان والعالم العربي وأفريقيا، ويمثل تفاعلهم مع ما أكتب قيمة مهمة جداً، وكذلك الأمر بالنسبة لـ«تويتر» وبقية المنصات. والتواصل مع الجمهور بشكل مباشر مهم، ولكنه قد يتحول إلى عائق إذا لم نحسن إدارته بشكل جيد، وهذا ما أحاوله.
> ماذا لو استمرت روضة الحاج وزيرة للثقافة؟ ماذا كنتِ ستفعلين للثقافة والمثقفين السودانيين؟
- توليت لعامين (2016 - 2018) منصب نائب رئيس لجنة الشباب والرياضة والثقافة والإعلام والسياحة بالبرلمان السوداني (بدرجة وزيرة دولة)، وأتاح لي هذا التكليف الإشراف المباشر على ملفي الثقافة والسياحة تحديداً، والاطلاع على أداء هاتين الوزارتين (قبل دمجهما لاحقاً) فيما يلي التشريعات والقوانين والميزانيات المالية والمشاريع المستقبلية والمشكلات الأساسية وغير ذلك، وكانت تلك هي (الإضافة العملية) لصلاتي السابقة من واقع كوني فاعلة ثقافية بشكل عام.
ولو قدر الله لي الاستمرار، لوددت (تجريب الوصفة الثقافية) لتكون حلاً للمعضلات السياسية المزمنة في بلادنا، وذلك بإحسان إدارة التنوع الثقافي بصفته مصدراً للقوة، وليس الضعف، وتفعيل مبدأ (الاحترام الثقافي)، بصفته بديلاً (للاستعلاء الثقافي)، وذلك ببناء جسور للتواصل الثقافي والإبداعي مع محيطنا العربي والأفريقي، وإبراز ميزتنا بصفتنا بلداً يجمع الثقافتين العربية والأفريقية.
وكنت سأكمل ما بدأته من مشاريع فردية للتعريف والتوثيق للمبدعين السودانيين في شتى المجالات، وجعل (المكتبة الوطنية) معلماً من معالم الخرطوم، وملء المدن بالنصب التذكارية للرموز الكبيرة، وإعادة الحياة للمجلات الثقافية والجمعيات الأدبية والمسرح المدرسي، بالتعاون مع وزارة التربية، ونفض الغبار عن تجارب الكبار، وتكريم سيرهم، وإنشاء مدينة الثقافة السودانية، وكثير من الأفكار التي آمل أن يهيئ الله لبلادنا من يقوم بها أو بأفضل منها، من المهمومين والمؤمنين بالفعل الثقافي.



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.