أفلاطون أم أرسطو؟

تقليدان فلسفيان قديمان في عالم حديث

أرسطو
أرسطو
TT

أفلاطون أم أرسطو؟

أرسطو
أرسطو

لا أرى في السؤال الذي ينطوي عليه عنوان هذه المادّة رغبة عابرة في معرفة التوجّه الفلسفي لكلّ واحد منّا بقدر ما أحسبهُ سؤالاً يكشف جوابه الكثير من الخصائص الفكرية للفرد وطريقة رؤيته للحياة والأشياء والصيرورات العديدة في هذا العالم. يمكن - مثلاً - الاستشهاد بأحد كبار علماء الذكاء الصناعي والحوسبة الكمومية، ديفيد دويتش، الذي يرى أنّ مقاربتنا الفلسفية (أي بمعنى أدقّ: هل نعتمدُ مقاربة فلسفية أفلاطونية أم أرسطوية؟) هي التي ستفكّ مغاليق الذكاء الصناعي في نهاية المطاف، وهذا دليلٌ لا تعوزه مصداقية إضافية - كما أرى - في تأكيد أهمية رؤيتنا الفلسفية للعالم. هذه الموضوعة ذات أهمية حقيقية، عملية وفكرية معاً، وليست محض لعبة ذهنية يرادُ منها تعضيد موقف فلسفي في مواجهة موقف فلسفي آخر، كما تؤكّدُ هذه الموضوعة الأهمية الاستراتيجية لدراسة الفلسفة وتأريخها منذ وقت مبكّر في حياتنا.
لطالما سادت المقاربة الأفلاطونية في المساءلة الفلسفية تأريخ الفلسفة، وقد لوحظت سيادة هذا النمط الفلسفي في القرن السابع عشر وبخاصة في عصر عقلانية ديكارت ولايبنتز وسبينوزا ؛ لكنه ساد أيضاً في القرن العشرين وبخاصة مع تنامي النزعة المنطقية Logicism لبرتراند رسل الذي سعى بالاشتراك مع الفيلسوف ألفرد نورث وايتهد لإقامة المنطق والرياضيات على أسس رياضياتية صارمة. في المقابل، وجدت المقاربة السقراطية صدى لها عبر القرون وبخاصة في القرن الثامن عشر، حيث سادت التجريبية البريطانية التي قاد لواءها كلٌّ من جون لوك، الأسقف بيركلي، وديفيد هيوم، إلى جانب النزعة البراغماتية Pragmatism التي تسيّدت الفلسفة الأميركية في القرن التاسع عشر، وكان فرسانها جون ديوي، تشارلس ساندرس بيرس، وويليام جيمس.
هذان المزاجان الفلسفيان يمكن التمييز بينهما بدقة معقولة وفقاً للمرجعيات التالية:
أولاً: تركّز المقاربة الأفلاطونية على مبادئ تجريدية شاملة ؛ في حين تركّز المقاربة السقراطية على مبادئ محدّدة خاصة مستمدّة من العالم الواقعي ومحكومة به.
ثانياً: يسعى الأفلاطونيون إلى أسس المعرفة الآمنة غير المتحوّلة (عالم المُثُل الأفلاطونية) في حين يقبل السقراطيّون بأنّ مثل هذه الأسس هي - من المؤكّد تقريباً - عصية على البشر.
ثالثاً: يميل الأفلاطونيون لرؤية أي عنصر نقص أو عدم دقة مكتملة على أنه عنصر سيطيحُ بالنظام كله؛ في حين يعضّد السقراطيون عناصر الغموض والفوضى إلى الحد الذي يجعل منهما عناصر مناسبة لمعرفة أي موضوع في العالم الواقعي (ميكانيك الكم دليلاً).
لكن رغم وجود تمايزات أساسية وواضحة بين هذين المزاجين الفلسفيين فهناك دوماً خطرٌ قائم يواجه الفلسفة يتمثّلُ في أننا عندما نصنّفُ المفكّرين في مدارس فلسفية مختلفة فإننا نُعلي من شأن الاختلافات بين هاتين المقاربتين الفلسفيتين. ليس ثمة أحدٌ من المفكّرين الفلاسفة العِظام يتطابق كلياً مع القالب النمطي الذي تصفه توصيفات تعريفية على شاكلة: فيلسوف أفلاطوني «عقلاني» أو سقراطي «تجريبي». قد يكون أفلاطون طمح لبلوغ صرامة ويقينية المعرفة التي توفّرها الأشكال «الأفلاطونية»؛ لكنّ سقراط في محاوراته «السقراطية» لا يبلغ أبداً مثل هذا الحافات النهائية من المعرفة، والنتيجة هي أنّ سقراط لا ينفكّ يذكّرنا دوماً بالحدود المفروضة على معرفتنا، ويشجّعنا في الوقت ذاته على العيش مع معتقدات تبقى أقلّ من معرفة يقينية. لطالما تمّ تصوير سقراط على أنه الرجل الأكثر حكمة في أثينا لأنّ الشيء الوحيد الذي عرفه بيقينية كاملة هو أنه لا يعرف أي شيء بصورة مؤكدة باستثناء معرفته بعدم قدرته على بلوغ مرتبة المعرفة اليقينية بالأشياء.
وماذا عن أرسطو وهو الهرم الثالث في المثلث الفلسفي (سقراط - أفلاطون - أرسطو) ؟ يعدُّ أرسطو الوريث الشرعي للتراث الفلسفي السقراطي؛ ولكن برغم هذا ليس صحيحاً القولُ بأنّ أرسطو رفض كلّ المناهج الأفلاطونية. إنّ واحدة من أعظم مساهمات أرسطو الفلسفية حقاً كانت في الارتقاء بالمنطق الذي يتأسّسُ على مبادئ تجريدية، والذي يخلو من أي محتوى يرتبط بوقائع مادية أو تجريبية. الفرق بين أفلاطون وأرسطو (وكذلك المفكّرين الذين أعقبوهما) يكمن في الأهمية النسبية التي يقرنها كل مفكّر فيهم مع منهج المساءلة القَبْلية (أي الرياضياتية) أو البَعْدية (أي التجريبية): يميلُ المفكّر العقلاني الأفلاطوني أكثر من سواه نحو السعي وراء اليقينية والدقة الرياضياتية؛ في حين يتوقّع المفكّر التجريبي السقراطي الكثير من الغموض واللايقينية والمناطق الرمادية المشتركة من المعرفة. لا يعني هذا الأمر بأي شكل من الأشكال أنّ المفكّر التجريبي يمتلك رؤية غامضة أو غير دقيقة تجاه الرياضيات، مثلما لا يعني هذا الأمر أنّ المفكّر العقلاني يؤكّدُ دوماً أنّ كل فرق بين المنهجيْن الأفلاطوني والأرسطوي يجب أن يكون فرقاً واضحاً، وصارماً من غير تداخلات بينية بينهما.
هنا من المهمّ أن نتساءل: ما تأثيرُ هاتين المقاربتين الفلسفيتين على موضوعة الأبستمولوجيا (أصل المعرفة)؟ يجب منذ البدء أن يكون واضحاً أننا عندما نتوغّل في مبحث المعرفة سنُقابلُ أصنافاً مختلفة من النظريات، والأمر كله مرهونٌ في نهاية المطاف هل نعتمد مقاربة أفلاطونية أم أرسطوية في رؤيتنا الفلسفية؛ ومن هنا الأهمية الحاسمة لهاتين المقاربتين الفلسفيتين القديمتين في النظرية الحديثة للمعرفة. تحثّنا المقاربة الأفلاطونية على التمييز الصارم بين المعرفة Knowledge والاعتقاد Belief على أساس أنّ معرفة شيء ما ليست بالأمر الذي يكفي ليكون ذلك الشيء حقيقياً؛ إذ يجب في نهاية الأمر أن نتحصّل على ضمانة guarantee بأن يكون ذلك الشيء حقيقياً. الاعتقاد، وعلى العكس من المعرفة، يفتقد الإثبات أو التسويغ الكافي. يحثنا هذا الفارق بين الحقيقة والمعرفة على توصيف الكيفية التي بها يمكن تعريف المعرفة.
لكن على كل حال تبدو الأشياء مختلفة عن بعضها تماماً تبعاً للمنظور الأرسطوي. الفارق بين المعرفة والاعتقاد هو على الأغلب مسألة فرق في التمايز النسبي وليس فرقاً مطلقاً: كلّما استطعنا إقامة معتقداتنا على أسس صلبة سيكون من المسوّغ أكثر الإشارة إلى هذه المعتقدات باعتبارها تنطوي على معرفة؛ لكن ليس ثمة من معتقد مؤكّد لنا بما يكفي لكي ندّعي احتواءه على 100 في المائة من المعرفة، ويعود الأمر وراء ذلك - جزئياً - إلى عدم وجود أساس من الشواهد القوية في العالم تكفي لإسناد ودعم كلّ معتقداتنا. هكذا تعمل المقاربة الأرسطوية: بدلاً من تبديد الجهود في محاولات عبثية لبلوغ أسس قوية تسند معتقداتنا يكون من الأجدى والأفضل التركيز على كيفية جعل معتقداتنا تدعم بعضها وتتناغم مع المعطيات التي يقدّمها العالم المادي (أي تطابق المعتقدات مع المعطيات الاختبارية الواقعية).
يوجد انشقاق واضح أيضاً يكشف عن حاله بطريقة لا تخفى بين المقاربتين الأفلاطونية والأرسطوية تجاه الحقيقة. يريد المزاج الأفلاطوني إقامة «الحقيقة» باعتبارها أمراً واضحاً، مؤكّداً، وقابلاً للمعرفة، ويسعى هذا المزاج بخاصة نحو الحقائق (الخالدة) المستقلة عن الزمان والمكان: حقائق المنطق والرياضيات التي تبقى صحيحة إلى الأبد. البديل الأرسطوي يرى أنّ بعض الأشياء حقيقية أكثر من غيرها؛ لكن ليس سوى بضعة أشياء، أو ربما لا شيء أبداً، يحوز مرتبة أن يكون حقيقة أبدية خالدة وغير متغيّرة. الكينونات المرشّحة أفضل من سواها لكي تكون حقائق أبدية خالدة وغير متغيرة تبعاً للمقاربة الأرسطوية هي كينوناتٌ مماثلة لمكانة حقائق الرياضيات والمنطق في المقاربة الأفلاطونية.
تشغلُ هذه الموضوعات أهمية عظمى وبخاصة في عصرنا الحاضر (عصر ما بعد الحقيقة Post – Truth) لأنه صار عصراً تسوده نزعة شكوكية Skepticism عميقة بشأن كلّ من الحقيقة والمعرفة. صار من الأمور الجمعية الشائعة في أوساطنا المجتمعية العامة سماعُ بعض الناس يقولون «ما هو حقيقي بالنسبة لي قد لا يكون حقيقياً بالنسبة لآخرين» ، وهنا «الآخرون» قد يكونون أناساً من زمان آخر، أو مكان آخر، أو جماعة دينية أو سياسية تختلف عنّا، وفي الوقت الذي قد يَقْبَلُ فيه الناس أنّ الخبراء يحوزون بعضاً من المعرفة فثمة ميلٌ متزايد للقول إننا - كبشر - نحوز آراء مختلفة، وإننا نمتلك قدرة متكافئة على حيازة أي آراء - مهما تباينت - تجاه معظم الأشياء التي نحسبها مهمة ومؤثرة في تشكيل حياتنا وطريقة تفكيرنا.
بالعودة إلى سؤال البداية، يمكن القولُ: نحنُ كائنات أفلاطونية وأرسطوية بنسبٍ مختلفة تعتمدُ على ميولنا المعرفية (هل هي رياضياتية أم تجريبية)، وسيكون السعي لبلوغ كائن أرسطوي خالص أو أفلاطوني خالص نوعاً من المسعى اليوتوبي الذي قد يثيرُ فينا نوعاً من أحلام التخييل اللذيذة التي باتت تضيق مدياتها أمام البشر.



مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي
TT

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

صدر العدد الجديد من مجلة «الفيصل»، وتضمن مواضيع متنوعة، وخصص الملف لصناعة النخب في الوطن العربي، شارك فيه عدد من الباحثين العرب وهم: محمد شوقي الزين: صُورَةُ النُّخَب وجَدَل الأدْوَار. محمد الرميحي: المجتمع الخليجي وصناعة النخب: الوسائل والصعوبات! موليم العروسي: صناعة النخب وآلياتها. علي الشدوي: مواد أولية عن النخبة السعودية المؤسّسة. ثائر ديب: روسيا مطلع القرن العشرين وسوريا مطلع الواحد والعشرين: إنتلجنسيا ومثقفون.

أما حوار العدد فكان مع المؤرخ اللبناني مسعود ضاهر (أجراه أحمد فرحات) الذي يرى أن مشروع الشرق الأوسط الجديد يحل محل نظيره سايكس بيكو القديم، مطالباً بالانتقال من التاريخ العبء إلى التاريخ الحافز. المفكر فهمي جدعان كتب عن محنة التقدم بين شرط الإلحاد ولاهوت التحرير. وفي مقال بعنوان: «أين المشكلة؟» يرى المفكر علي حرب أن ما تشهده المجتمعات الغربية اليوم تحت مسمى «الصحوة» هو الوجه الآخر لمنظمة «القاعدة» أو لحركة «طالبان» في الإسلام. ويحكي الناقد الفلسطيني فيصل دراج حكايته مع رواية «موبي ديك». ويستعيد الناقد العراقي حاتم الصكر الألفة الأولى في فضاء البيوت وأعماقها، متجولاً بنا في بيته الأول ثم البيوت الأخرى التي سكنها.

ويطالع القارئ عدداً من المواد المهمة في مختلف أبواب العدد. قضايا: «تلوين الترجمة... الخلفية العرقية للمترجم وسياسات الترجمة الأدبية». (عبد الفتاح عادل). جاك دريدا قارئاً أنطونان أرتو (جمال شحيّد). عمارة: العمارة العربية من التقليدية إلى ما بعد الحداثة (عبد العزيز الزهراني). رسائل: أحلام من آبائنا: فيث أدييلي (ترجمة: عز الدين طجيو). ثقافات: خوليو كورتاثر كما عرفته: عمر بريغو (ترجمة: محمد الفحايم). عن قتل تشارلز ديكنز: زيدي سميث (ترجمة أماني لا زار). سيرة: أم كلثوم ونجيب محفوظ نسيج متداخل وروابط متعددة (سيد محمود). اليوتوبيا ونهاية العالم: القرن العشرون صحبة برتراند راسل: خاومي نافارو (ترجمة: نجيب مبارك). رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم (عبادة تقلا). الأدب والفلسفة: جان لويس فييار بارون (ترجمة حورية الظل). بواكير الحداثة العربية: الريادة والحداثة: عن السيَّاب والبيَّاتي (محمَّد مظلوم). بروتريه: بعد سنوات من رحيله زيارة جديدة لإبراهيم أصلان (محمود الورداني). تراث: كتاب الموسيقى للفارابي: من خلال مخطوط بالمكتبة الوطنية بمدريد (أحمد السعيدي). فيلسوفيا: فيليب ماينلاندر: فيلسوف الخلاص (ياسين عاشور). فضاءات: «غرافيتي» على جدران الفناء (هاني نديم).

قراءات: قراءة في تجربة العماني عوض اللويهي (أسامة الحداد). «القبيلة التي تضحك ليلاً»: تشظي الذات بين المواجهات النسقية (شهلا العجيلي). مختارات من الشعر الإيراني المعاصر (سعد القرش). نور الدين أفاية ومقدمات نقد عوائق الفكر الفلسفي العربي الراهن (الصديق الدهبي). تشكيل: تجربة التشكيلي حلمي التوني (شريف الشافعي). تشكيل: غادة الحسن: تجربتي بمجملها نسيج واحد والعمل الفني كائن حي وله دوره في الحياة (حوار هدى الدغفق). سينما: سعيد ولد خليفة: ما يثير اهتمامي دائماً هو المصاير الفردية للأبطال اليوميين (سمير قسيمي). الفلسفة فناً للموت: كوستيكا براداتان (ترجمة أزدشير سليمان). ماذا يعني ألا تُصنف كاتب حواشٍ لأفلاطون؟ (كمال سلمان العنزي). «الومضة» عند الشاعر الأردني «هزّاع البراري» (عبد الحكيم أبو جاموس).

ونقرأ مراجعات لعدد من الكتب: «جوامع الكمد» لعيد الحجيلي (أحمد الصغير). «حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس (حسين عماد صادق). «أنا رسول بصيرتي» لسيد الجزايرلي (صبحي موسى). «طبول الوادي» لمحمود الرحبي (محمد الراشدي). «عقلان» لمحمد الشجاع (محمد عبد الوكيل جازم)

وكذلك نطالع نصوصاً لشعراء وكتاب قصة: برايتون (عبد الكريم بن محمد النملة). في طريق السفر تخاطبك النجوم: أورهان ولي (ترجمة: نوزاد جعدان). بين صحوي وسُكْرها (سعود بن سليمان اليوسف). خرائطُ النُّقصان (عصام عيسى). الغفران (حسن عبد الموجود). أنتِ أمي التي وأبي (عزت الطيرى).