أكثر من 100 مصمم يتشاركون في إبراز الصناعات المحلية

تحت عنوان «تسوق لبناني ليبقى لبنان»

جانب من واحة «تسوق لبناني ليبقى لبنان»
جانب من واحة «تسوق لبناني ليبقى لبنان»
TT

أكثر من 100 مصمم يتشاركون في إبراز الصناعات المحلية

جانب من واحة «تسوق لبناني ليبقى لبنان»
جانب من واحة «تسوق لبناني ليبقى لبنان»

كان اللبنانيون في الماضي القريب يهوون التجول في الأسواق التجارية واختيار ما يناسبهم من ألبسة وأغراض وإكسسوارات يملأون بها خزاناتهم ويجددون محتوياتها.
وفي المناسبات والأعياد كانت مهمة إيجاد فكرة هدية يقدمونها لقريب أو عزيز وصديق بمثابة متعة، بحيث يواكبها حماس لحظة رؤية ملامح متلقيها السعيدة.
اليوم باتت تلك اللحظات نادرة، فالتسوق ما عاد يجذب اللبناني في ظل تراجع سعر صرف الليرة أمام الدولار. والهدية باتت حملاً ثقيلاً تفضل الغالبية تجاهلها أو تقديم ما قل ودلّ منها لأن العين بصيرة واليد قصيرة.
في ظل هذا الجمود الذي تشهده الأسواق تم إطلاق مبادرة «من الجذور (By the roots) وهدفها تشجيع الصناعات المحلية تحت عنوان «تسوق لبناني تيبقى (ليبقى) لبنان». يشارك في هذه المبادرة أكثر من 100 مصمم يبدعون في عالم الألبسة والمجوهرات والإكسسوارات وغيرها. وهذه الواحة التي تمتد على مساحة 600 متر من مجمع «أ.ب.ث» التجاري في منطقة ضبية، لن تكون محطة مؤقتة، بل دائمة كي تشكل عنوانا يقصده اللبناني كما السياح والمغتربين.
وفي جولة سريعة على أقسام هذه الواحة الملونة بتصاميم منوعة تطالعك الملابس للكبار والصغار، وأدوات المطبخ والأشغال اليدوية والمونة اللبنانية، وإكسسوارات وملابس للبحر وغيرها. أما الدفع فهو بالعملة اللبنانية وبأسعار مقبولة تناسب جميع الشرائح الاجتماعية. وتقول ديان فاضل صاحبة المبادرة: «أصدقاء كثر كانوا يرددون على مسامعي بأن مبلغ 300 ألف ليرة، ما عاد يتيح لهم شراء أي شيء. ففكرت بمواهب لبنانية كثيرة تنتظر الفرص كي تؤمن لقمة عيشها. فهي يد عاملة محلية بحاجة لمن يشجعها ويفتح أمامها الطريق كي تبرز إبداعها. من هنا ولدت هذه الفكرة التي من شأنها إرضاء جميع الأذواق وتلبية حاجات الناس بتكلفة مقبولة».
وعلى وقع موسيقى الرحابنة حيناً وصوت فيروز حيناً آخر، تتجول بين أقسام «تسوق لبناني ليبقى لبنان» مستكشفاً زاوية لديكورات وأثاث المنزل هنا وحقائب نسائية وفساتين قطنية هناك. كما تلفتك أكواب قهوة من الفخار وأواني من الزجاج المنفوخ، إضافة إلى أعمال حرفية خشبية كطاولة النرد وأوعية نحاسية وغيرها.
وتقول المصممة اللبنانية الأرمنية الأصل أني كازريك: «كل ما ترونه هنا هو من تصميمي، أبتكره وأخيطه بنفسي بحيث تستطيع السيدة التي تستخدم الإكسسوارات التي أبيعها والخاصة بالبحر أن تستفيد منها لأطول مدة ممكنة. فلا ألجأ إلى استعمال اللاصق السائل للقبعات مثلاً. أما الأزرار والسحابات والريش وكل ما يطرز تصاميمي فهي ذات جودة عالية وعمرها طويل الأمد». وتتابع أني لـ«الشرق الأوسط»: «إننا مع هذه المبادرة تنفسنا الصعداء كمصممين لبنانيين ننتظر من يمسك بيدنا ويشجعنا. والجميل في الموضوع أن اللبناني بات اليوم يفضل الصناعات اللبنانية على غيرها، سيما وأنها بنفس جودة الصناعات الغربية، التي لم يعد في استطاعته أن يدفع ثمنها لارتفاع أسعارها».
أما المصممة رنا حداد فهي تبدي حماسها للمشاركة في هذه المساحة الحرة والمتنوعة التصاميم. وتوضح لـ(«الشرق الأوسط»): «هذه المساحة تختلط فيها الصناعات على اختلافها. فالزبون بإمكانه أن يتعرف على تصاميم ألبسة ولادية بينها أخرى رجالية وثالثة رياضية، وهو يجول على أقسامه مجتمعة. فليس من زاوية محددة لهذه الصناعة أو تلك، فالأغراض موزعة هنا وهناك بحيث تزود من يتجول بينها بأفكار لمشتريات عدة».
تبدي منى عفيف التي تزور هذا القسم لأول مرة إعجابها بأكواب زجاجية للضيافة صنعت في لبنان وتقول لـ«الشرق الأوسط»: «أسافر قريباً عند ابنتي في ألمانيا وأنا سعيدة بحمل هذه الأكواب معي وهي من الزجاج المنفوخ. فستكون هدية قيمة أقدمها لحماتها الألمانية المعجبة بالذوق اللبناني».
وتشير ندى رحيّم مديرة هذا القسم في مجمّع «أ.ب.ث»: «إننا كمجمع تجاري لبناني نفتخر بعرض تصاميم لمبدعين من لبنان. وهذه الواحة غنية بصناعات لبنانية عدة كلوحات الرسم وأواني الـ«بليكسي» والنحاسيات وكلها موقعة «صنع في لبنان». وهذه الأغراض تجذب إضافة إلى اللبناني المقيم المغتربين والسياح الأجانب والعرب. فهم يتوقفون أمامها معجبين بدقة صناعتها وكذلك بأسعارها المقبولة».
وترى المصممة بيا ماريا بشارة التي درست التصميم في أحد معاهد فلورانس الإيطالية، أنها عندما عادت إلى لبنان منذ نحو سنة كان همها إبراز الذوق اللبناني في التصميم. وتتابع لـ«الشرق الأوسط»: «اليوم تحققت أمنيتي وصرت قادرة على المشاركة في عودة الحركة إلى أسواق لبنان من خلال تصاميمي في عالم الألبسة النسائية. وهي تضاهي بخطوطها وتفاصيلها أهم الصناعات الغربية في هذا المجال، سيما وأني اخترت الأسلوب البوهيمي المرتكز على أقمشة الجينز».
وبعد جولة على قسم المونة اللبنانية وما فيه من مربيات وأكياس الصعتر البلدي وقناني عصائر العنب ودبس الرمان وماء الزهر وغيرها، نلتقي بالمصممة سيما بيضون التي تقول: «أعمل في مجال التصاميم منذ سنين طويلة ولكن في الفترة الأخيرة لاحظت تفاعلاً أكبر للبنانيين مع الصناعات اللبنانية. فهم صاروا يقدرونها بشكل أكبر ويفضلونها على غيرها من الصناعات الأجنبية».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)