كابل على شفير السقوط وضغوط على غني للتنحي

الرئيس الأفغاني يتعهّد بـ«إعادة تعبئة» الجيش ويلمح إلى «حل سياسي»

جدارية للرئيس أشرف غني في مطار كابل أمس (أ.ب)
جدارية للرئيس أشرف غني في مطار كابل أمس (أ.ب)
TT

كابل على شفير السقوط وضغوط على غني للتنحي

جدارية للرئيس أشرف غني في مطار كابل أمس (أ.ب)
جدارية للرئيس أشرف غني في مطار كابل أمس (أ.ب)

مع اقتراب مقاتلي حركة «طالبان» من العاصمة الأفغانية وتضييقهم الخناق عليها من أكثر من جهة وسط مخاوف من سقوطها الوشيك في أيديهم، تسود حالة واضحة من الخوف والارتباك سكان كابل وكذلك صفوف المسؤولين في حكومة الرئيس أشرف غني الذي يتعرض، كما يبدو، لضغوط للتنحي.
وفي وقت يتواصل القادة السياسيون الأفغان مع بعضهم البعض عبر تطبيقات «واتسآب» و«سيغنال» دقيقة بدقيقة للاطلاع على التطورات الميدانية، رصدت «الشرق الأوسط» أن بعضهم يتبادل رسائل صوتية ومكالمات تتضمن مزاعم وإشاعات عن «صفقات» يتم الترتيب لها للمرحلة المقبلة التي تلي رحيل الحكومة الأفغانية الحالية. جاء في إحدى الرسائل المتداولة: «لقد أبرم غني صفقة مع الأميركيين وسيغادر البلاد خلال 36 إلى 48 ساعة القادمة». وفي أخرى: «سيضطلع الدكتور عبد الله عبد الله بدور القائد المباشر». وفي ثالثة: «الاستخبارات المركزية الأميركية والاستخبارات العسكرية الباكستانية أقنعتا حركة طالبان بالسماح لكل مسؤول أميركي وغربي بالمغادرة، في حين أن الباقي ليسوا إلا أهدافاً سائغة». وربما تكون هذه المعلومات المتداولة بالطبع جزءاً من حرب نفسية ضد حكومة غني، لكنها بلا شك من بين الأفكار المحمومة التي تدور في مخيلة القادة الأفغان. أما بالنسبة للرجل العادي في الشارع، فالأمر يتعلق بمجرد البقاء على قيد الحياة، حيث يعلمون أن قادتهم ربما يكون في إمكانهم الفرار من كابل بجوازات سفرهم الغربية واستخدام حساباتهم المصرفية الموجودة في الخارج، كما يعتقد كثيرون من المواطنين العاديين.
«صفقة» مع غني؟
وتسري في كابل معلومات عن أن غني في طريقه للخروج من السلطة، وهو أمر لمح إليه الرئيس الأفغاني في خطاب أمس، إذ أشار إلى أنه يعمل مع فريق التفاوض للخروج من الفوضى الحالية. وقال غني في خطابه إن «إعادة تعبئة قواتنا الأمنية والدفاعية على رأس أولوياتنا». وأفاد عن بدء مشاورات «تتقدم بسرعة» داخل الحكومة مع المسؤولين السياسيين والشركاء الدوليين لإيجاد «حل سياسي يضمن توفير السلام والاستقرار للشعب الأفغاني»، حسب ما أوردت وكالة الصحافة الفرنسية التي ذكرت أن غني لم يلمح إلى أنه سيستقيل أو أنه يتحمل مسؤولية الوضع الحالي لكنه قال وقد بدا عليه الحزن وهو يجلس أمام العلم الأفغاني: «كمهمة تاريخية، لن أدع الحرب المفروضة على الشعب تتسبب بمقتل مزيد من الأبرياء وبضياع المنجزات التي تحققت خلال هذه السنوات العشرين، وتدمير المعدات العامة واستمرار عدم الاستقرار».
وعلى الرغم من أن غني لم يشر صراحة إلى الاستقالة، فإن كلامه بدا تأكيداً لتعرضه لضغوط للتنحي. ويتداول أفغان إشاعات لا يمكن تأكيدها عن محاولة بعض المسؤولين في الحكومة الحالية الفرار من كابل بطائرات خاصة لكنهم أوقفوا في المطار ولم يسمح لهم بالرحيل خشية أن يكونوا قد هربوا معهم ملايين الدولارات من أموال الدولة.
ويقول رئيس إحدى بعثات الاستخبارات الأوروبية المحلية إن اليومين إلى الثلاثة أيام المقبلة هي التي ستُقرر ما سيحدث فعلاً، حيث وصل نحو 3 آلاف جندي أميركي إلى أفغانستان لإجلاء الرعايا الأميركيين والمواطنين الغربيين إلى جانب الموظفين الأساسيين. ويتحدث عن إمكان تنازل الرئيس غني عن منصبه لعبد الله عبد الله، رئيس مجلس المصالحة والذي لا يشكل تهديداً لحركة «طالبان» التي ستكون القوة الحقيقية في مرحلة ما بعد رحيل غني.
ويأتي ذلك في وقت وصل إلى كابل خلال الأيام الثلاثة الأخيرة فقط أكثر من نصف مليون من النازحين داخلياً، وبعضهم فر من الشمال (بدخشان وتخار وقندوز ومزار الشريف). ويعيش هؤلاء في خيام مؤقتة داخل الحدائق وفي ممرات المشاة، ولا ينالون مساعدات من الحكومة الأفغانية. والمساعدة الوحيدة التي تصلهم تأتي من الأفغان العاديين الذين هم أفضل حالاً بقليل من النازحين أنفسهم.
وبالنسبة للأفغان العاديين، فإن أيام التسعينات السيئة قد عادت من جديد، فلم يعد هناك طعام، ولا كهرباء، مع الخوف الشديد على سلامة المرأة وحقوقها الأساسية، خصوصاً إذا عادت حركة «طالبان» إلى سابق عهدها في تسعينات القرن الماضي. وبالنسبة لأهل كابل، الذين لديهم موسيقى مسموعة، والنساء اللاتي يمشين بمفردهن، ويتقلدن أرفع الوظائف، ويقمن الحفلات الموسيقية، فإن كل شيء على وشك الانتهاء تماماً، بحسب ما يعتقد كثيرون من الخائفين من عودة «طالبان».



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟