«الفتنة» الداخلية في «داعش».. إنذار بزوال التنظيم

حرب أهلية وانقسامات وصدام بين «المهاجرين» والمحليين بشأن الاستراتيجية والقيادة

«الفتنة» الداخلية في «داعش».. إنذار بزوال التنظيم
TT

«الفتنة» الداخلية في «داعش».. إنذار بزوال التنظيم

«الفتنة» الداخلية في «داعش».. إنذار بزوال التنظيم

منذ ظهر تنظيم «داعش» في سوريا ثم في غرب العراق وشماله خلال السنوات القليلة الماضية وهو موضع تساؤلات وتخمينات وتحليلات عن الظروف التي أوجدته، والجهات التي يمكن أن تكون قد «ابتكرته» لكي يخدم لها مصالحها الاستراتيجية إقليميا ودوليا، وانتهاء بتركيبته ومصادر تمويله وشبكة العلاقات التي تتيح له التحرك والتوسع داخل بيئة يفترض بها أنها معادية له.
وفي المقالة التالية يلقي الباحث والمحلل السياسي يوسف الديني نظرة فاحصة، تلي مراجعة تاريخية، إلى واقع التنظيم في أعقاب إعلان المجتمع الدولي الحرب عليه، ردا على الفظائع المتنقلة التي ارتكبها حيثما حل. ويركز الباحث على أوضاعه الداخلية وما يتهدده بنيويا من تفسخ وانقسام.

ليس أبو بكر البغدادي أبا الحسن الصبّاح ليمزج لأتباعه الداعشيين خمرًا ومخدرات ثم يأمرهم بقتل أنفسهم بعد إصابة العدو، كما أن أتباع «داعش» يبحثون عن مغانم كثيرة أولها خلافة تجمع شتاتهم عبر العالم لتضعهم في أتون حرب واحدة وجودية لا عودة فيها، وهو الأمر الذي جعل المهاجرين (كل من جاء من خارج مناطق التوتر) يصطدمون بالسكان المحليين المنضمين لـ«داعش» لأسباب تختلف عن قياداته ورموزه وكوادره الآتية من أماكن نائية وبعيدة.
شرارة البدء في الخلاف كانت منذ ما قبل تشكل التنظيم على ما آل إليه الآن من فوضى عارمة، حيث مزيج من منشقي «القاعدة» وقيادات بعثية وفارّين من العدالة ومجموعات وأسراب من شباب يبحثون عن شيء مختلف لكل واحد منهم طريقته الخاصة في الخلاص الدموي، فأول خلاف بين «داعش» تعود جذوره إلى مصعب الزرقاوي الذي كان منشقًا بالمعنى العملي عن «القاعدة» في أوج شهرتها وسلطتها، لكنه كان ينتمي لها على مستوى «المرجعية الجهادية» العامة قبل أن تتراجع «القاعدة» بعد رحيل رمزها الأول لتتحول إلى تنظيمات محلّية صغيرة بمرجعية «القاعدة» في جزيرة العرب عاصمة القاعديين صوب جنوب اليمن.
لاحقًا، حدثت انقسامات كثيرة إلى أن جاء لحظة الاعتداء على مجلة «شارلي إيبدو» التي أعادت بها «القاعدة» وجهها وحضورها في ساحة العمل المسلح، وتزامن ذلك مع تعاطف كبير في الشارع الإسلامي بسبب تداخل موضوع احترام المقدسات ورموز الأديان مع استهداف المجلة، وإذا كان استهداف المجلة قد جوبه باستنكار كبير دولي وإقليمي من الدول والتنظيمات الإسلامية الرسمية وعدد من رموز القيادات الشرعية إلا أن الكتلة الأساسية المتعاطفة مع «القاعدة» باركت العمل بأساليب مختلفة في حين أن استنكار «داعش» وغضبها من الحادثة كان يعبر عن حسد تنظيمي أكثر منه موقفًا شرعيًا.
في البداية، حاولت «داعش» تبني الهجوم على المجلة، وجاء ذلك في إعلان خطباء «داعش» في الجمعة التي تلت الحادثة في مساجدهم على الشريط الحدودي وداخل مناطقهم بالعراق وسوريا، ومنهم الشيخ أبو سعد الأنصاري الذي يعمل كوزير أوقاف مسؤول عن خطباء التنظيم.
كما أن جمهور «داعش» على شبكات الإنترنت كان مباركًا للعمل على الرغم من استنكار القيادات، وهو ما جعل الكثيرين يرون في نقد «داعش» لـ«القاعدة» بحثًا عن هيمنة وسلطة «المجموعات المتشددة» أكثر من كونه خلافًا على أسلوب العمل، وهو الأمر الذي تنتقده «القاعدة» وشيوخها من أبو قتادة الفلسطيني وحتى أبو محمد المقدسي، المفرج عنه أخيرًا في الأردن، والذي ساهم في عودة عدد كبير من القاعديين عن تأييد «داعش» لما يملكه من ثقل «شرعي» عند الحركات العنفية بشكل عام.
تاريخيًا، أول انشقاق لـ«داعش» كان في ٢٠١٣ بعد أن انشقت جبهة النصرة التابعة لـ«القاعدة» عن قيادات وتنظيمات العراق المؤسسة لـ«داعش» وحدثت معارك طويلة كانت بمعزل عن الإعلام استمرت حتى بدايات ٢٠١٤، ومن هنا يمكن فهم تحولات «داعش» على مستوى المظلة التنظيمية فمن جماعة «التوحيد والجهاد» (مرحلة ما قبل الزرقاوي) إلى تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين (مرحلة أبو مصعب) في ٢٠٠٤ والذي بايع أسامة بن لادن وتبعته مجموعات عراقية كثيرة إلى الحد الذي كان ٢٠٠٧ عام دخول «المتشددين» أفواجًا في أحضان «القاعدة»، وكان إعلان أبو عمر عبد الله البغدادي البيعة العامة لمجاهدي العراق بمن فيهم الزرقاوي لابن لادن قبل أن تأتي مرحلة أبو حمزة المهاجر أحد أهم العلامات الحركية والأسماء الفاعلة في التنظيمات المتشددة، والذي أعلن عن «مجلس بيعة جديد وحل مجلس شورى المجاهدين» بعد مقتل الزرقاوي، مستغلاً الفراغ الكبير الذي خلفه، وهنا ولدت فكرة تنظيم «دولة العراق الإسلامية» الذي أنشئ أولاً بغرض تحرير العراق، لكن البغدادي وأبو حمزة المهاجر كانا يريان في هذا التغيير تمهيدًا لدولة خلافة، لكن أبو عمر البغدادي بايع آنذاك بن لادن، وهو الأمر الذي يؤكد انهيار جزء كبير من سلطة «القاعدة» بعد رحيل رمزها، وهو الأمر الذي ما فتئت «داعش» تنخر من خلاله في جسد «القاعدة»، معتبرة أن الظواهري لا يعبّر عن تعاليم بن لادن ولا يصدر عنها، وكان أول انشقاق لأسباب جيوسياسية وليس حرب أفكار أو شرعية كما كان يروج للأتباع، فالظواهري يرفع مبدأ ترك أهل الثغور على حالهم، بلغة «غير جهادية» وانحصار «العمل الجهادي» في مناطق التوتر على السكان الأصليين والتفرغ للقيادة والتدريب والتوجيه، وهو ما ترجمه إلى أتباعه بمنحه الشرعية لجبهة النصرة واعتبار أي تنظيم آخر لا يعبر عن «القاعدة».
نظرة «القاعدة» كانت عالمية، حيث يتحول التنظيم إلى شركة عابرة للقارات تفتتح فروعها في كل بلدان العالم، لكن زوال أي منها لا يعني زوال جسد التنظيم، في حين أن «داعش» يسعى إلى إقامة مركز للمتطرفين على الأرض يستقطب الكوادر من كل بلدان العالم، وهو ما أثر بالطبع على تنظيمات القاعدة في بلاد المغرب وليبيا والمهجر وأوروبا، بينما حظي تنظيم القاعدة بجماهيريته التقليدية في القرن الأفريقي واليمن وباقي الدول العربية، وبقيت تنظيمات مستقلة على موقعها كما هو الحال في الحركة العنفية بسيناء وليبيا ومالي.
استطاع الداعشيون ضم مجموعات قتالية شرسة أسهمت في ترجيح كفته، حيث انضم إلى تنظيم جند الخليفة الجزائري وأنصار بيت المقدس في سيناء عدا نشوء مجموعات وخلايا جديدة في أوروبا بدأت مشوارها العنفي عبر «داعش»، وهو ما يفسر حجم الانشقاقات بين «القاعدة» و«داعش»، فالأولى خرجت منها مجموعات كثيرة بسبب تحول مشروع «داعش» إلى خلافة، بينما المنشقون عن «داعش» كانوا أقل لأن أغلب الكوادر تعيش تجربتها العنفية الأولى.
العدو القريب والبعيد مفتاح فهم استراتيجية «القاعدة» بات لغزًا فيما يخص «داعش» فهي تحارب العدو «الأقرب»، حيث أكبر ضحايا «داعش» هم من أتباع التنظيمات الأخرى، حيث شن التنظيم حربا وجودية قاسية ساهمت في بعثرة عناصر «القاعدة» وعودة الكثير منهم لبلدانهم الأصلية وانحسار شعبية التنظيم داخل أوساط الإسلاميين قبل أن تعود الشعبية بعد إعلان الخلافة مرة أخرى.
المستقبل لـ«داعش» على المستوى الداخلي غامض جدًا، فمن يتابع الجدل في منتديات المتطرفين يدرك ارتفاع حدة الخلاف بين المقاتلين الأجانب الذين يملكون مواقع متقدمة وسلطة مؤثرة ومفاصل التنظيم المالية، بينما السواد الأكبر للمقاتلين من الداخل الذين لا يرون أي هدف غير تحرير الأرض وإن كانوا يعيشون حلم الخلافة بدرجة أقل، وهناك الكثير من التقارير من الداخل تتحدث عن انحسار ضم مقاتلين جدد وهو الأمر الذي يفسر العودة إلى استقطاب عناصر جديدة من الخارج وعبر شبكات التواصل الاجتماعي.
التمييز بين «المهاجرين والأنصار» هو الاتهام الأول الذي يواجهه قادة «داعش»، فالمقاتلون الأجانب محظيون، بينما كوادر التنظيم الداخلية تعاني من اضطهاد، وعادة ما يتم اختيارها للعمليات الانتحارية أو المرابطة في المناطق النائية والبعيدة، بل وفي المناطق الأكثر تعرضًا لهجمات التحالف.
وهناك على المستوى المعيشي تحديات كبيرة الآن بعد تراجع مدخولات «داعش» مقارنة بمصروفاتها، يمكن أن تقرأ في منشورات «داعش» والأخبار والتقارير المتناقلة الشكوى من الظروف المعيشية والخلاف على الأموال والمناصب وحتى المرجعيات الشرعية، كما أن ثقة الأهالي في المناطق المسيطر عليها من قبل أتباع التنظيم تراجعت إلى حدها الأقل بعد تحول جرائم «داعش» إلى صرعة وموضة بشاعة عالمية تملأ الشاشات وأقنية الإعلام.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.