إشارات طهران توحي بأن رئيسي مرتاح للتصعيد مع الغرب

رغم أجواء المحاكمة الجارية في السويد

الضغوط الابتزازية المتزايدة من قِبل إيران على الدول الغربية، قد تؤدي إلى اقتناع الطرفين الأميركي والأوروبي بضرورة العودة لسياسة الضغوط القصوى على إيران
الضغوط الابتزازية المتزايدة من قِبل إيران على الدول الغربية، قد تؤدي إلى اقتناع الطرفين الأميركي والأوروبي بضرورة العودة لسياسة الضغوط القصوى على إيران
TT

إشارات طهران توحي بأن رئيسي مرتاح للتصعيد مع الغرب

الضغوط الابتزازية المتزايدة من قِبل إيران على الدول الغربية، قد تؤدي إلى اقتناع الطرفين الأميركي والأوروبي بضرورة العودة لسياسة الضغوط القصوى على إيران
الضغوط الابتزازية المتزايدة من قِبل إيران على الدول الغربية، قد تؤدي إلى اقتناع الطرفين الأميركي والأوروبي بضرورة العودة لسياسة الضغوط القصوى على إيران

عندما أُعلن فوز إبراهيم رئيسي بالانتخابات الرئاسية الإيرانية يوم 19 يونيو (حزيران) الماضي، كان دبلوماسيون أوروبيون في العاصمة النمساوية فيينا يتهامسون سراً حول تأثير فوزه على مستقبل العلاقات مع الغرب. إذ إن الرجل موضوع على لائحة العقوبات الأميركية لدوره في إعدامات عام 1988 في إيران. ومع أن الاتحاد الأوروبي لم يصنفه بالشكل نفسه، فإن الدبلوماسيين هؤلاء كانوا يعرفون أن التعامل معه لن يكون سهلاً أو مقبولاً، على الأقل من الناحية الأخلاقية. غير أنهم، سرعان ما أدركوا بعد ذلك، بأنه سيكون عليهم التعامل معه ومع حكومته، على الرغم من إصرارهم آنذاك على الإحجام عن تهنئته بشكل مباشر له؛ نظراً لرفضهم الاعتراف بشرعية الانتخابات التي أوصلته إلى السلطة.
من ناحية أخرى، كانت المباحثات النووية مع الوفد الذي كانت أرسلته حكومة حسن روحاني إلى فيينا، قد انتهت بعد يوم على إعلان فوز رئيسي، أو قل دخلت في غيبوبة ما زالت مستمرة حتى اليوم بانتظار اتخاذ رئيسي قراراً باستئنافها. ومع استمرار هذه الغيبوبة، واستغلال إيران غياب مراقبة الوكالة الدولية للطاقة الذرية لبرنامج النووي للتقدم به، بدت الدول الغربية وكأنها قرّرت التغاضي عن تاريخ رئيسي الدموي، وبالتالي، مدّ يدها له. وفعلاً، بعث الاتحاد الأوروبي، الوسيط في المفاوضات النووية بين طهران وواشنطن، بأنريكي مورا الذي يقود المفاوضات النووية، إلى طهران للمشاركة بحفل تنصيب الرئيس الجديد؛ عله يعود بوعود ثابتة لاستئناف المباحثات. ومع أن مورا عاد بوعد على ما يبدو باستئنافها في سبتمبر (أيلول) المقبل، فإن الصورة التي خرجت من حفل تنصيب روحاني قالت الكثير. فالمبعوث الأوروبي، وهو نائب مفوض الشؤون الخارجية في الاتحاد، كان يجلس في الصف الثاني وعلى الطرف. وأمامه، في وسط ومقدمة القاعة، جلس ممثلا حركة «حماس» و«حزب الله»، التنظيمان الموضوعان على لائحة الإرهاب الأوروبية («حزب الله» بذراعه العسكرية فقط). ولذا؛ تساءل عدد من المعلقين على الصورة، وما إذا كانت العلاقة بين الغرب وإيران في ظل حكم رئيسي ستكون شبيهة بتلك الصورة.
قد لا يكون من المبكر جداً الحكم على ما إذا كانت الدول الغربية ستسمح لإيران بالتحكم بشكل العلاقة أو وديناميكيتها بينهما. فحقيقة الأمر، أنه لم يمض على تنصيب إبراهيم رئيسي رئيساً جديداً لإيران بعد إلا أيام قليلة، ولكن، مع ذلك تشير تشكيلته الحكومية التي قدمها إلى البرلمان هذا الأسبوع للموافقة عليها، وبوضوح تام إلى الاتجاه المتشدد الذي يبدو أن إدارة رئيسي ستسير فيه.
حقاً، من الواضح بأن التشكيلة التي اختارها رئيسي لفريق عمله تحمل شيئاً من التحدي للغرب. ذلك أن نصف الوجوه في التشكيلة المقترحة وزراء سبق لهم أن خدموا في حكومة محمود أحمدي نجاد المتشددة. ومعلوم أن بين الوزراء المقترحة أسماؤهم، أحمد وحيدي الذي رشحه رئيسي لتولي منصب وزارة الداخلية مع أنه مطلوب على لائحة «الإنتربول» الحمراء لدوره في تفجيرات بوينس آيرس عاصمة الأرجنتين عام 1994، ثم إنه كان رئيساً سابقاً لـ«فيلق القدس» في «الحرس الثوري». كذلك، اختار رئيسي لمنصب وزير الخارجية متشدداً آخر هو حسين أمير عبد اللهيان، الدبلوماسي المحافظ المدعوم من «الحرس الثوري»، والذي يتكلم العربية بطلاقة، وهو معروف بعلاقته الوثيقة من «حزب الله» اللبناني. وكان أمير عبد اللهيان قد خدم في وزارة الخارجية إبان فترة أحمد جواد ظريف... غير أنه ابتعد عن الوزارة في العامين الأخيرين إثر خلافات مع فريق ظريف.
- لا نية للتفاهم
بهنام بن طالبلو، الباحث في «مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات» في العاصمة الأميركية واشنطن، يصف أمير عبد اللهيان في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» بأنه «أكثر تشدداً بكثير» من وزير الخارجية السابق طريف. ويرى بن طالبلو أن اختياره يشير إلى أن رئيسي «لا يشعر بالحاجة إلى إرضاء الغرب كما كان يفعل سلفه (الرئيس السابق حسن روحاني) عبر اختياره وزيراً للخارجية (ظريف) يتقن اللغة الإنجليزية ويستطيع التفاهم مع الغرب». ويعتقد ويرى الباحث الأميركي - الإيراني الأصل، أن اختيار أمير عبد اللهيان يثبّت الاعتقاد بأن إدارة رئيسي «مرتاحة مع فكرة التصعيد» مع الغرب بدرجة أكبر بكثير من إدارة روحاني.
على صعيد آخر، مع أن الرئيس في إيران ليس السلطة الأقوى في هرم السلطة، ولا يعود له القرار الأخير في القضايا الكبرى، فهو ما زال يحمل تأثيراً معيناً. وهنا يقول علي واعظ، الباحث في «مجموعة الأزمات الدولية» - وهو مقرّب من الدكتور روبرت مالي، المبعوث الأميركي إلى إيران، الذي يقود المفاوضات النووية في فيينا - شارحاً «... رغم ذلك، فإن الرئيس ووزراءه يلعبون دوراً كبيراً في إدارة المفاوضات وتمثيل إيران على الساحة الدولية». ويضيف فايز خلال لقاء مع «الشرق الأوسط» بأن وصول «رئيسي المتشدد إلى الحكم يدعو للقلق» فيما يتعلق باتجاه السياسة الداخلية والخارجية لإيران. ويرى فائز «أن ماضي رئيسي وخطابه إبان الحملة الانتخابية وبعدها، ومن ثم تسلم المتشددين مقاليد السلطة في إيران، قد تكون كلها إشارات إلى مقاربة أكثر آيديولوجية وأقل براغماتية خاصة تجاه الغرب».
- ماضي رئيسي
وبالفعل، لا يظهر أن ماضي إبراهيم رئيسي ليس في وارد مفارقته. فهذا الماضي يطارده الآن في المحاكم الأوروبية، حيث افتتحت محكمة سويدية في استوكهولم مطلع الأسبوع محاكمة ضد مسؤول إيراني يدعى حميد نوري، كان قاضياً عندما ألقي القبض عليه في نوفمبر (تشرين الثاني) 2019. وهو يحاكم اليوم بتهم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، والتورّط بعمليات قتل جماعي، وتعذيب سجناء في إيران عام 1988. وترتبط هذه القضية بشكل مباشر بإبراهيم رئيسي الذي عرضت حتى صورته داخل قاعة المحكمة أمام قضاة سويديين، وعرّف عنه الادعاء الذي عرض صورته بأنه كان خلال عام 1988 أحد القضاة الأربعة في «لجنة الموت». وكانت هذه «اللجنة» - حسب تعريف الادعاء - قد أصدرت آنذاك «أوامر تعسفية بقتل مئات السجناء السياسيين من دون محاكمات وخلال بضع دقائق». ووفق كلام المدعي العام، فإن المتهم حميد نوري - الذي عمل آنذاك مساعد آمر سجن غوهرداشت، في ضواحي طهران - كان يصطحب السجناء إلى «لجنة الموت» ثم يقودهم إلى المشانق.
وعلى الرغم من أن رئيسي ليس هو من يخضع للمحاكمة، فإن توريط الادعاء السويدي إياه بجرائم القتل الجماعية تلك قد يكون له تأثير كبير على رئاسته. ولكن حول هذه النقطة يلفت علي واعظ إلى أن رئيسي «يتمتع بالحصانة الدبلوماسية؛ كونه رئيس دولة»، وهذا ما قد يمنع محاسبته في محاكم غربية تعتمد مبدأ الولاية القضائية العالمية، التي تسمح لها بمقاضاة أي شخص متورّط بجرائم ضد الإنسانية ارتكبت في أي مكان بالعالم. غير أن فائز يعتقد بأن هذه الحصانة لن توقف عنه تأثيرات أخرى. ويشير إلى أن دوره في الإعدامات الجماعية التي نفّذت عام 1988 (يعتقد أنها أدت إلى قتل قرابة 5 آلاف سجين سياسي) «ستزيد بشكل كبير بالنسبة للحكومات الغربية التكلفة السياسية للانخراط الدبلوماسي مع حكومته».
من جهتها، تصف سنام وكيل، الباحثة في معهد تشاتام هاوس بالعاصمة البريطانية لندن، في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»، محاكمة السويد وما قد يخرج منها عن دور رئيسي بأنها «شديدة الإحراج بالنسبة إليه». وتضيف «ستكشف الرئيس الإيراني بطريقة خطرة للغاية، وهذا ما سيحد من قدرته على التعامل بشكل مباشر مع الدول الأوروبية». وتستطرد قائلة إنها «لا تتوقع» من رئيسي السفر إلى أوروبا أو أماكن معينة من العالم؛ تفادياً لأي إحراج أو حتى تفادياً لخطر القبض عليه. والجدير بالذكر، أن الشرطة السويدية كانت قد ألقت القبض على نوري عندما جاء إلى السويد عبر مطار ستوكهولم - أرلاندا الدولي في أكتوبر (تشرين الأول) 2019، من دون أن يكون على علم بأن ثمة قضية مرفوعة ضده، وبأنه مطلوب في السويد. ولذا؛ فور خروجه من الطائرة أوقف وأدخل السجن، حيث يقبع منذ ذلك الحين.
ولكن التفاوض مستمر!
مع هذا، فإن أوروبا ما زالت حريصة على استقبال الوفد الإيراني المفاوض الذي لم يحدّده رئيسي بعد، لاستكمال المفاوضات النووية مع واشنطن في فيينا بهدف إعادة العمل بالاتفاق النووي كاملاً. ومعلوم، أن إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب كانت قد أخرجت الولايات المتحدة من الاتفاق عام 2018.
وعلى ما يبدو، فإن الرئيس الإيراني أبلغ الاتحاد الأوروبي بأنه سيرسل الوفد في سبتمبر المقبل بعد تسميته لاستئناف المفاوضات غير المباشرة مع واشنطن. لكن عودة الوفد الإيراني المفاوض إلى فيينا، وهو سيكون وفداً جديداً من دون شك، لا تعني بالضرورة إكمال التفاوض بهدف التوصل لاتفاق. وهنا يقول فائز «مع وصول المتشددين إلى السلطة، فإن مناورة شفير الهاوية قد تحصد تأييداً في طهران كطريقة لسحب المزيد من التنازلات من واشنطن». ويتابع «غير أن هذا التقدير خاطئ للغاية»، ويمكن أن يؤدي إلى إعادة فرض كامل العقوبات على إيران. ويستبعد الباحث الأميركي - الإيراني أن يؤدي التشدد الإيراني إلى ليونة أميركية أكبر في المفاوضات، ويقول إن أي ليونة أميركية «سيُنظر إليها في طهران على أنها دليل بأن مقاربتهم الأكثر تشدداً تجبر الولايات المتحدة للتراجع، وتشجع بالتالي على المزيد من التعنت الإيراني».
مع هذا، أظهرت الولايات المتحدة حتى الآن ليونة غير قليلة في محاولاتها إقناع إيران بالعودة لالتزاماتها النووية. ويرى بن طالبلو أن «واشنطن حريصة على تقديم تنازلات لإيران... وهذا كان ظاهراً في الأشهر الماضية من خلال رفع الحوثيين عن لائحة الإرهاب مثلاً»، وتطرق أيضاً إلى الخطوات التي اتخذتها أو لم تتخذها واشنطن، مثل تفادي الرد على استفزاز واستهداف قواتها في العراق من قبل ميليشيات عراقية مدعومة من إيران، والامتناع عن الرد على اعتداء إيران على سفن في البحر الأحمر.
وبالتالي، يعتبر بن طالبلو أن السؤال المطروح الآن هو إلى أي مدى ستواصل إدارة بايدن منح إيران الفرصة تلو الفرصة والتغاضي عن التصعيد؟ وحول هذا الأمر يقول «الخطيئة الأولى لإدارة (الرئيس جو) بايدن أنها قبلت بأن تأتي المفاوضات للعودة للاتفاق النووي في المقام الأول، وكل شيء آخر يحل ثانياً». ويتابع، أن «هذا المبدأ يجعل من الصعب على الإدارة الأميركية الحالية أن تتراجع عن سياسة اليد إلى إيران لأنها بنت خطابها حول إيران حول انعدام جدوى سياسة الضغوط القصوى التي اعتمدتها إدارة ترمب».
- اجتماع فيينا المقبل
قد يكون الاجتماع المقبل لمجلس المحافظين في الوكالة الدولية للطاقة الذرية، الاختبار الأول لـ«مدى طول صبر» إدارة بايدن مع إيران. فالاجتماع الدوري الذي سيعقد في منتصف سبتمبر المقبل في مقر الوكالة بفيينا، سيناقش الالتزامات الإيرانية النووية وخروق طهران المتزايدة لها، وتخصيبها اليورانيوم لدرجة تصل إلى 60 في المائة، علماً بأن الاتفاق النووي لا يسمح لها بالتخصيب بمستوى أعلى من 3.75 في المائة. ويزيد من كل ذلك، أن مفتشي الوكالة لم يعد لهم وصول كبير إلى المواقع النووية منذ فبراير (شباط) الماضي، كما لم تسلّم إيران أشرطة الفيديو من كاميرات المراقبة التي نصبتها الوكالة في المواقع النووية أيضا منذ ذلك الحين.
قبل أكثر من شهر، قال أمين عام الوكالة رافائيل غروسي بأنه ما عاد بإمكان الوكالة أن تعرف بالضبط ما الذي يحصل في برنامج إيران النووي، وأنها تعمل على التقديرات فقط من خلال الوصول المحدود المسموح لها الآن. وفي الاجتماع الأخير لمجلس المحافظين في يونيو الماضي، تفادى المجلس إصدار أي إدانة لإيران لأن الجولة السادسة كانت منعقدة آنذاك في فيينا.
بناءً عليه؛ يصف بن طالبلو اجتماع المجلس المقبل بأنه «سيكون حاسماً؛ لأن الجميع كان يظن أن تخصيب إيران اليورانيوم بمستوى 20 في المائة كان هو الحد الأقصى، ولكن إيران الآن وصلت لتخصيب اليورانيوم بمستوى 60 في المائة ولم يصدر أي رد فعل». وعندما أعلنت حكومة روحاني رفع التخصيب لهذا المستوى المرتفع في يونيو الماضي، اكتفت الدول الأوروبية بإصدار بيان يدعوها فيه للتراجع رغم إشارتها المهمة بأنه «ليس هناك سبب سلمي وجيه» يدعو لتخصيب اليورانيوم بهذا المستوى. وهنا يعتقد بن طالبلو، أن على الدول الأوروبية والولايات المتحدة اعتماد «سياسة الضغط المشتركة» لحث إيران على التراجع عن تصعيدها النووي.
هذه الضغوط الابتزازية المتزايدة من قِبل إيران على الدول الغربية، قد تؤدي إلى اقتناع الطرفين الأميركي والأوروبي بضرورة العودة لسياسة الضغوط القصوى على إيران. وحسب الباحث علي واعظ «في حال لم يعد العمل بالاتفاق النووي في نهاية العام الحالي، فإنه سيصبح عديم الفائدة على الأرجح... ويؤدي إلى عودة العقوبات الأممية والأوروبية على إيران؛ لأن خبراء أميركيين يقدرون أن نقطة اللاعودة عن التقدم في البرنامج النووي الإيراني باتت على بعد أسابيع أو أشهر قليلة».
- شهر مقبل حاسم بين إيران والقوى الغربية
> خلال الأشهر الماضية اكتسبت إيران من دون شك تكنولوجيا نووية يصعب عكسها، وهي نقطة كانت تقلق المفاوضين الأوروبيين والأميركيين في فيينا.
لقد نجحت إيران في تحقيق هذا التقدم بعدما أعلنت في فبراير (شباط) الماضي وقف التعاون بالبروتوكول الإضافي للاتفاق النووي؛ وهو ما كان يكفل للمفتشين الدوليين وصولاً واسعاً وغير محدد إلى المواقع النووية الإيرانية. وحينذاك، أوقفت طهران أيضاً تسليم الوكالة الدولية أشرطة الفيديو من المواقع النووية، وقالت إنها ستسلمها إياها فقط في حال حصل اتفاق سياسي مع واشنطن لرفع العقوبات عنها، وإلا فستتلف الأشرطة؛ ما يعني بأن الوكالة الذرية ستبقى في الظلمة حول تقدم برنامج إيران النووي. ثم زاد الوضع تعقيداً رفض إيران في منتصف يونيو (حزيران) الماضي، تمديد اتفاق مؤقت كانت توصلت إليه مع رافائيل غروسي (أمين عام الوكالة) إثر تعليقها العمل بالبروتوكول الإضافي، بعدما مددته مرة واحدة. وحتى الآن من غير المعروف ما إذا كانت إيران قد أطفأت كاميرات المراقبة الخاصة بالوكالة وأتلفت أشرطة الفيديو التي تسجل النشاطات داخل المفاعل النووية منذ قرابة سبعة أشهر، أم أنها ما زالت تبقي عليها بانتظار التوصل لاتفاق.
هذا التصعيد الإيراني في مواجهة الغرب قد يكون اقترب من «الانفجار». فالشهر المقبل سيكون حاسماً في تحديد العلاقة بين الطرفين، سواءً كان في المفاوضات النووية التي يعتقد مسؤولون أميركيون بأن التوصل لاتفاق فيها بات أبعد، أو في اجتماع مجلس المحافظين التابع للوكالة الذي قد يشهد تبنيه قراراً يدين تصرفات إيران النووية ورفضها التعاون مع الوكالة. وبغض النظر عن أي طريق ستختارها إدارة إبراهيم رئيسي في التعاطي مع الغرب، فإن العلاقة بين الطرفين ستكون «وعرة» بأقل تقدير – حسب تعبير الخبير بهنام بن طالبلو - الذي يرى أن لدى رئيسي «كل الحوافز للتصعيد مع الغرب بهدف تقوية موقفه». ويضيف، أن إيران «ستصل إلى نقطة ترى فيها أن سلطة الولايات المتحدة بدأت تتضاءل» في حال استمرت بتقديم تنازلات لها، وفي حال رفض الغربيون الالتزام عملياً بتعهدهم بمحاسبة إيران فيما يتعلق بحقوق الإنسان، خاصة، في ظل المحاكمة الجارية في السويد.



منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
TT

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)

يسدلُ الستارُ على آخر مشاهد عام 2024 في منطقة الساحل الأفريقي، ورغم أن هذه الصحراء الشاسعة ظلت رتيبة لعقود طويلة، فإن المشهد الأخير جاء ليكسر رتابتها، فلم يكن أحد يتوقع أن ينتهي العام والمنطقة خالية من القوات الفرنسية، وأن يحل محلها مئات المسلحين الروس، وأنّ موسكو ستكون أقربَ من باريس لكثير من أنظمة الحكم في العديد من بلدان القارة السمراء.ورغم أن الفرنسيين كانوا ينشرون في الساحل أكثر من 5 آلاف جندي لمحاربة الإرهاب، بينما أرسل الروس بدورهم مرتزقة شركة «فاغنر» للمساعدة في المهمة نفسها، التي فشل فيها الفرنسيون، فإن الإرهاب ما زال يتمدد، بل إنه ضرب في قلب دول الساحل هذا العام، كما لم يفعل من قبل.

لم يكن الإرهاب حجةً للتدخل العسكري الأجنبي فقط، وإنما كان حجة جيوش دول الساحل للهيمنة على الحكم في انقلابات عسكرية أدخلت الدول الثلاث، مالي، النيجر وبوركينا فاسو، في أزمة حادة مع جيرانها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، انتهت بالقطيعة التامة وانسحاب الدول الثلاث من المنظمة الإقليمية التي كانت حتى وقت قريب تمثّلُ حلماً جميلاً بالاندماج والتكامل الاقتصادي.

بالإضافة إلى تصاعد الإرهاب والعزلة الإقليمية، حمل عام 2024 معه لدول الساحل تداعيات مدمرة للتغيّر المناخي، فضرب الجفاف كثيراً من المحاصيل الزراعية، وجاءت بعد ذلك فيضانات دمّرت ما بقي من حقول وقرى متناثرة في السافانا، وتسببت في موت الآلاف، وتشريد الملايين في النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو.

صورة وزعها الجيش الفرنسي لمقاتلين من المرتزقة الروس خلال صعودهم إلى مروحية في شمال مالي في أبريل 2022 (الجيش الفرنسي - أ.ب)

الخروج الفرنسي

الساحل الذي يصنّف واحدة من أفقر مناطق العالم وأكثرها هشاشة، كان يمثّلُ الجبهة الثانية للحرب الروسية - الأوكرانية، فكان مسرحاً للصراع بين الغرب وروسيا، وقد تصاعد هذا الصراع في عام 2024، وتجاوز النفوذ السياسي والاستراتيجي، إلى ما يشبه المواجهة المباشرة من أجل الهيمنة على مناجم الذهب واليورانيوم وحقول النفط، والموارد الهائلة المدفونة في قلب صحراء يقطنها قرابة 100 مليون إنسان، أغلبهم يعيشون في فقر مدقع.

يمكن القول إن عام 2024 محطة فاصلة في تاريخ الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، خصوصاً أن الفرنسيين دخلوا المنطقة مطلع القرن التاسع عشر، تحت غطاء تجاري واقتصادي، ولكن سرعان ما تحوّل إلى استعمار عسكري وسياسي، هيمن بموجبه الفرنسيون على المنطقة لأكثر من قرن من الزمان، وبعد استقلال هذه الدول، ظلت فرنسا موجودة عسكرياً بموجب اتفاقات للتعاون العسكري والأمني.

ازداد الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل بشكل واضح، عام 2013، بعد أن توجّه تنظيم «القاعدة» إلى منطقة الساحل الأفريقي، ليتخذ منها مركزاً لأنشطته بعد الضربات التي تلقاها في أفغانستان والعراق، ومستغلاً في الوقت ذاته الفوضى التي عمّت المنطقة عقب سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي عام 2011. حينها أصبح الفرنسيون يقودون «الحرب العالمية على الإرهاب» في الساحل، وأطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية في يناير (كانون الثاني) 2013، التي تحوّلت عام 2014 إلى عملية «برخان» العسكرية التي كان ينفق عليها الفرنسيون سنوياً مليار يورو، وينشرون فيها أكثر من 5 آلاف جندي في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.

على وقع هذه الحرب الطاحنة بين الفرنسيين وتنظيم «القاعدة»، وانتشار الجنود الفرنسيين بشكل لافت في شوارع المدن الأفريقية، تصاعد الشعور المعادي لفرنسا في الأوساط الشعبية، ما قاد إلى انهيار الأنظمة السياسية الموالية لباريس، وسيطر عسكريون شباب على الحكم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وكان أول قرار اتخذوه هو «مراجعة» العلاقة مع فرنسا، وهي مراجعة انتهت بالقطيعة التامة.

حزمت القوات الفرنسية أمتعتها وغادرت مالي، ثم بوركينا فاسو والنيجر، ولكن المفاجأة الأكبر جاءت يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حين قررت تشاد إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، وهي التي ظلت دوماً توصف بأنها «حليف استراتيجي» للفرنسيين والغرب في المنطقة.

وبالفعل بدأ الفرنسيون حزم أمتعتهم ومغادرة تشاد دون أي تأخير، وغادرت مقاتلات «ميراج» الفرنسية قاعدة عسكرية في عاصمة تشاد، إنجامينا، يوم الثلاثاء 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، في حين بدأ الحديث عن خطة زمنية لخروج أكثر من ألف جندي فرنسي كانوا يتمركزون في تشاد.

ربما كان تطور الأحداث خلال السنوات الأخيرة يوحي بأن الفرنسيين في طريقهم إلى فقدان نفوذهم التقليدي في منطقة الساحل، ولكن ما يمكن تأكيده هو أن عام 2024 شكّل «لحظة الإدراك» التي بدأ بعدها الفرنسيون يحاولون التحكم في صيغة «الخروج» من الساحل.

صورة جماعية لقادة دول "الإيكواس" خلال قمتهم في أبوجا بنيجيريا يوم 15 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

لقد قرَّر الفرنسيون التأقلم مع الوضع الجديد في أفريقيا، حين أدركوا حجم الجهد الضائع في محاولة المواجهة والضغط على الأنظمة العسكرية المتحالفة مع روسيا، فهذه الأنظمة لا تتوقف عن «إذلال» القوة الاستعمارية السابقة بقرارات «استفزازية» على غرار اعتقال 4 موظفين بالسفارة الفرنسية في بوركينا فاسو، واتهامهم بالتجسس، وبعد عام من السجن، أُفرج عنهم بوساطة قادها العاهل المغربي الملك محمد السادس يوم 19 ديسمبر 2024.

وفي النيجر، قرَّر المجلس العسكري الحاكم، في يونيو (حزيران) 2024، إلغاء رخصة شركة فرنسية كانت تستغل منجماً لليورانيوم شمال البلاد، وسبق أن قرَّرت النيجر، على غرار مالي وبوركينا فاسو، منع وسائل الإعلام الفرنسية من البث في البلاد بعد أن اتهمتها بنشر «أخبار كاذبة».

يدخل مثل هذه القرارات ضمن مسار يؤكد أن «النقمة» تجاه الفرنسيين في دول الساحل تحوّلت إلى قرار نهائي بالقطيعة والخروج من عباءة المستعمِر السابق. وفي ظل مخاوف من اتساع رقعة هذه القطيعة لتشمل دولاً أفريقية أخرى ما زالت قريبةً من باريس، وضع الفرنسيون خطةً لإعادة هيكلة وجودهم العسكري في أفريقيا، من خلال تخفيض قواتهم المتمركزة في السنغال، وكوت ديفوار، والغابون، وجيبوتي.

أسند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهمة إعداد هذه الخطة إلى جان-ماري بوكل، حين عيّنه في شهر فبراير (شباط) 2024 مبعوثاً خاصاً إلى أفريقيا، وهي المهمة التي انتهت في نحو 10 أشهر، قدّم بعدها تقريراً خاصاً سلّمه إلى ماكرون، يوم 27 نوفمبر الماضي، ينصح فيه بتقليص عدد القوات الفرنسية المتمركزة إلى الحد الأدنى، وتَحوُّل القواعد العسكرية إلى «مراكز» أكثر مرونة وخفة، هدفها التركيز على التدريب العسكري، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية.

الأميركيون أيضاً

حين كان الجميعُ يتحدَّث خلال العقدين الأخيرين عن الانتشار العسكري الفرنسي، والنفوذ الذي تتمتع به باريس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، كان الأميركيون حاضرين ولكن بصمت، ينشرون مئات الجنود من قواتهم الخاصة في النيجر؛ لمساعدة هذا البلد في حربه ضد جماعات مثل «القاعدة»، و«بوكو حرام»، و«داعش». واستخدم الأميركيون في عملياتهم قاعدة جوية في منطقة «أغاديز» خاصة بالطائرات المسيّرة التي تمكِّنهم من مراقبة الصحراء الكبرى وتحركات «القاعدة» من جنوب ليبيا وصولاً إلى شمال مالي.

ولا يزال الأميركيون أوفياء لاستراتيجية الحضور العسكري الصامت في أفريقيا، على العكس من حلفائهم الفرنسيين وخصومهم الروس، ولكن التحولات الأخيرة في منطقة الساحل أرغمتهم على الخروج إلى العلن، خصوصاً حين بدأت مجموعة «فاغنر» تتمتع بالنفوذ في النيجر. حينها أبلغ الأميركيون نظام الحكم في نيامي بأنه لا مجال لدخول «فاغنر» إلى بلد هم موجودون فيه.

وحين اختارت النيجر التوجه نحو روسيا و«فاغنر»، قرَّر الأميركيون في شهر أغسطس (آب) 2024 سحب قواتهم من النيجر، وإغلاق قاعدتهم العسكرية الجوية الموجودة في شمال البلاد.

وأعلن الأميركيون خطةً لإعادة تموضع قواتهم في غرب أفريقيا، فتوجَّهت واشنطن نحو غانا وكوت ديفوار وبنين، وهي دول رفعت من مستوى تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة، وتسلّمت مساعدات عسكرية كانت موجهة إلى النيجر، عبارة عن مدرعات وآليات حربية.

دبابة فرنسية على مقربة من نهر النيجر عند مدخل مدينة غاو بشمال مالي يوم 31 يناير 2013 (أ.ب)

البديل الروسي

لقد كانت روسيا جاهزة لاستغلال تراجع النفوذ الغربي في منطقة الساحل، وهي المتمركزة منذ سنوات في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، فنشرت المئات من مقاتلي «فاغنر» في مالي أولاً، ثم في بوركينا فاسو والنيجر، كما عقدت صفقات سلاح كبيرة مع هذه الدول.

لكن موسكو حاولت في العام الماضي أن ترفع من مستوى تحالفها مع دول الساحل إلى مستويات جديدة. فبالإضافة إلى الشراكة الأمنية والعسكرية، كان الروس يطمحون إلى شراكة اقتصادية وتجارية.

ولعل الحدث الأبرز في هذا الاتجاه كان جولة قام بها وفد روسي بقيادة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك، نهاية نوفمبر الماضي، وقادته إلى دول الساحل الثلاث: مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

كان الهدف من الجولة هو «تعزيز الشراكة الاقتصادية»، مع تركيز روسي واضح على مجال «الطاقة». فقد ضم الوفد الروسي رجال أعمال وفاعلين في قطاع الطاقة، وسط حديث عن اتفاقات لإقامة محطات لإنتاج الطاقة الشمسية، تتولى شركات روسية تنفيذها في الدول الثلاث.

وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وقَّع رؤساء مالي وبوركينا فاسو والنيجر اتفاقاً مع وكالة الفضاء الروسية، ستقدم بموجبه الوكالة الروسية لهذه الدول «صور الأقمار الاصطناعية»؛ من أجل تعزيز مراقبة الحدود وتحسين الاتصالات، أي أن روسيا أصبحت العين الرقيبة على دول الساحل بعد أن أُغمضت العين الفرنسية. هذا عدا عن نجاح روسيا في اللعب بورقة الأمن الغذائي، فكان القمح الروسي أهم سفير لموسكو لدى دول الساحل، وفي العام الماضي أصبحت موسكو أكبر مورِّد للحبوب لهذه الدول التي تواجه مشكلات كبيرة في توفير حاجياتها من الغذاء، فأصبح القمح الروسي يسيطر على سوق حجمها 100 مليون نسمة.

رغم المكاسب التي حققتها روسيا في منطقة الساحل الأفريقي، فإن عام 2024 حمل معه أول هزيمة تتعرَّض لها مجموعة «فاغنر» الخاصة، منذ أن بدأت القتال إلى جانب الجيش المالي، قبل سنوات عدة.

جاء ذلك حين تصاعدت وتيرة المعارك بين الجيش المالي والمتمردين الطوارق، إثر انسحاب مالي من اتفاقية الجزائر المُوقَّعة بين الطرفين عام 2015، ودخل الطرفان في هدنة بموجبها امتدت لقرابة 10 سنوات. لكن الهدنة انتهت حين قرر الماليون الزحف العسكري نحو الشمال حيث يتمركز المتمردون.

استطاع الجيش المالي، المدعوم من «فاغنر»، أن يسيطر سريعاً على كبريات مدن الشمال، حتى لم تتبقَّ في قبضة المتمردين سوى قرية صغيرة، اسمها تينزواتين، على الحدود مع الجزائر، وعلى مشارفها وقعت معركة نهاية يوليو (تموز) 2024، قُتل فيها العشرات من الجيش المالي و«فاغنر»، ووقع عدد منهم في الأسر.

كانت هزيمة مفاجئة ومذلة، خصوصاً حين نشر المتمردون مقاطع فيديو لعشرات الجثث المتفحمة، بعضها يعود لمقاتلين من «فاغنر»، كان من بينهم قائد الفرقة التي تقدّم الدعم للجيش المالي من أجل استعادة السيطرة على شمال البلاد.

طائرة ميراج فرنسية تُقلع من قاعدة في إنجامينا... (أ.ف.ب)

المفاجأة الأوكرانية

اللافت بعد هزيمة «فاغنر» والجيش المالي في «معركة تينزواتين» هو اكتشاف دور لعبته أوكرانيا في دعم المتمردين من أجل كسر كبرياء روسيا، من خلال إذلال «فاغنر»، وهو ما أكدته مصادر أمنية وعسكرية أوكرانية.

تحدَّثت مصادر عدة عن حصول المتمردين في شمال مالي على تدريب خاص في أوكرانيا، واستفادتهم من طائرات مسيّرة حصلوا عليها من كييف مكّنتهم من حسم المعركة بسرعة، بالإضافة إلى معلومات استخباراتية وفّرتها لهم المخابرات الأوكرانية وكان لها الأثر الكبير في الهزيمة التي لحقت بقوات «فاغنر» وجيش مالي.

لم يكن لأوكرانيا، في الواقع، أي نفوذ في منطقة الساحل الأفريقي، ولا يتجاوز حضورها سفارات شبه نائمة، لكنها وبشكل مفاجئ ألحقت بروسيا أول هزيمة على صحراء مالي، وأصبحت تطمح لما هو أكثر من ذلك. ولكن مالي أعلنت بعد مرور أسبوع على «معركة تينزواتين»، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا، وتبعتها في ذلك النيجر وبوركينا فاسو، كما تقدَّمت مالي بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيها أوكرانيا بدعم «الإرهاب» في منطقة الساحل الأفريقي.

رغم مكاسب روسيا في الساحل، إلا إن عام 2024 حمل معه أول هزيمة لمجموعة «فاغنر» منذ أن بدأت القتال إلى جانب جيش مالي

قادة مالي الكولونيل أسيمي غويتا، والنيجر الجنرال عبدالرحمن تياني، وبوركينا فاسو النقيب إبراهيم تراوري خلال لقاء لـ "تحالف دول الساحل" في نيامي، عاصمة النيجر، يوم 6 يوليو الماضي (رويترز)

خطر الإرهاب

في 2024 كثّفت جيوش دول الساحل حربها ضد التنظيمات الإرهابية، ونجحت في تحقيق مكاسب مهمة، وقضت على مئات المقاتلين من تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وقد ساعدت على ذلك الشراكة مع روسيا، حيث حصلت جيوش الساحل على أسلحة روسية متطورة، كما كان هناك عامل حاسم تَمثَّل في مسيّرات «بيرقدار» التركية التي قضت على مئات المقاتلين.

لكن الخطوة الأهم في الحرب، جاءت يوم 6 مارس (آذار) 2024، حين أعلن قادة جيوش دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو إنشاء «قوة عسكرية مشتركة»؛ لمواجهة الجماعات الإرهابية التي تنشط في المنطقة، خصوصاً في المناطق الحدودية، ما قلّص من قدرة التنظيمات الإرهابية على التنقل عبر الحدود.

في هذه الأثناء قرَّرت دول الساحل رفع مستوى هذا التعاون مطلع يوليو 2024، من خلال تشكيل «تحالف دول الساحل»؛ بهدف توحيد جهودها في مجال محاربة الإرهاب، ولكن أيضاً مواقفها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، قبل أن تتجه نحو تشكيل عملة موحدة وجواز سفر موحد.

في غضون ذلك، لم تتوقف التنظيمات الإرهابية عن شنِّ هجماتها في الدول الثلاث، ولعل الهجوم الأهم في العام الماضي ذاك الذي نفَّذه تنظيم «القاعدة» يوم 17 سبتمبر الماضي ضد مطار عسكري ومدرسة للدرك في العاصمة المالية باماكو. شكّل الهجوم الذي خلّف أكثر من 70 قتيلاً، اختراقاً أمنياً خطيراً، أثبت من خلاله التنظيم الإرهابي قدرته على الوصول إلى واحدة من أكثر المناطق العسكرية حساسية في قلب دولة مالي.

في يوم 28 يناير 2024 أعلنت الأنظمة العسكرية الحاكمة، في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، التي فرضت عقوبات ضد دول الساحل إثر الانقلابات العسكرية التي وقعت فيها، وفي يوليو عادت لتُشكِّل «تحالف دول الساحل».

يؤكد التحالف الجديد رغبة هذه الدول في الانسحاب من المنظمة بشكل نهائي، ولكنه في المقابل يرسم ملامح الصراع الدولي في المنطقة. فتحالف دول الساحل يمثّل المحور الموالي لروسيا، أما منظمة «إيكواس» فهي الحليف التقليدي لفرنسا والغرب.

ورغم أن منظمة «إيكواس» في آخر قمة عقدتها خلال ديسمبر الحالي، تركت الباب مفتوحاً أمام تراجع دول الساحل عن القرار، ومنحتها مهلة 6 أشهر، إلا أن القادة العسكريين لدول الساحل ردوا على المنظمة بأن قرارهم «لا رجعة فيه».