رفيف الظل: ذبحٌ يهيئ طاولتَهُ لك

رفيف الظل: ذبحٌ يهيئ طاولتَهُ لك
TT

رفيف الظل: ذبحٌ يهيئ طاولتَهُ لك

رفيف الظل: ذبحٌ يهيئ طاولتَهُ لك

ثمة من يعبث بنا،
طيلةَ السماءِ وهم يعبثونَ بنا، وطيلةَ الأرض. وكلما أرادوا أن يلتقطوا أنفاسَهم، أخذوا يختارونَ من جثاميننا ما يلائمُ راحتهم، لكي يَسموه بتذكارات عبثهم. وقبرًا إثر قبر، تستفحلُ على شواهدنا تواريخُهم.
كنتُ تذكرت المستقبل قبرًا قبرًا، وأعضائي مطحونة في الآلة الجهنمية، أصرخ وصمخُ النواخذة يصدّني ويسحق صوتي. كلُّ جثمان أسميّه ذريعة الدولة وهي تنشأ على أشلائنا. هل سمعتم جثماناً يقدم التعازي؟ لقد كنته. وهذا ما أسميه جاذبية الشتات لما هو فتات، كأن يلتقي الدبوسُ ببالون شارد، أو يسقط حذاءُ عامل وراء أسوار قصر. الأسباب بلا باب، مجرد التفاف على معنى الحيلة، وإلاّ كيف لأرض أن تفتش عن أصلها في السماء؟ وكيف للناس أن يستطيعوا وهم قوامون بلا جليس، سوى ما سيأتي؟ هذا يفتش عن الروح في جسد ميت، وهذه منهوشة بمخالب الويلات. ومرة بعد مرات، ينزلق الدائرون في الحفرة نفسها، ويطعنهم شوك الحقيقة في عيونهم، لكنهم يفتشون عن اللسان، عن الكلمة باعتبارها فعلاً. لا تلاعبهم، لا تسد فمك بأصواتهم، الغلبة مؤقتة دائماً.
مجرورون بحرف مجرور، ينزل هذا من الحلبة مطعونًا في رؤاه، ويصعد الأعمى في ساعة الظلام. أيها القضاة في سجن قلبي، يا سفر الآخرين، لماذا تتبعونني محوًا إثر محو، وأنا غارق في طين الخلاص، وأنا صنم من كثر ما قلت نعم.
كلما قالت نعم، تيقنّا أنها تعني لا. تسألني عن هذا النزيف الجارف الذي يهدر مثل الرعد: لا، وهو يعني نعم. فلا أكاد اعرف جوابًا شافيًا أستعينُ به، لئلا تحسبني شبحَ الحلقةِ المفقودة، في ربيعٍ ليس من فصول الطبيعة. لكنني هممتُ استدرج الريحَ جناحاً، أجرّب أن أطير قفزًا على الوحل، وكان سرابي مرًا؛ هل سمعتم بمطر الحداد، ذاك الذي يسبقه رعدٌ كتوم؟
حصتك من الريح كفيلةٌ بالمطر وهو يصعد بكَ فوق الأقاصي، فاصغِ له. أو مطرُ العطر وهو على وشك الهطول، لكن سحابتَهُ تنأى في سماء المترفين. لا نبسَ في رئتي، وبالكاد أفكُّ هذا الضيقَ، متعشمًا أن الزوالَ يبطئ خطوة لأزوغ من نابيه. وإنْ عضني قدري، وإنْ شاخت عروقُ خطاي، فلأن علةَ ما أراه تزيدني علة.
ما نراه مزّق ثيابَ الفَراش المبثوث فوق رؤوسنا، وجعلها تتساقط عاريةً على قيامتنا. هي نهايةٌ عارية، نمشي إليها بشلل بالغ، لكي نحكي ما رأيناه، على أمل أن تتقبل نهايتُنا ما بقي من جلودنا، ولا حياة لمن تنادي، بل لا مناداةَ للحياة.
الكل ينادي: هلمّوا لمصطبات الذبح. أحدهم يذبحكَ على مرأى التراب، الآخرُ فوق رخام ردهة القصر، الثالث على عتبات منبر الخليفة، الرابع بين سطور مقالة في صحيفة، وليس أمامك سوى أن تجهّز نعيك، بأقل أحرف ممكنة،
فلن تعرف أي ذبحٍ يهيئ طاولتَهُ لك.



الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي
TT

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

تصدر قريباً الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي كمال سبتي (1955 - 2006)، أحد أهم شعراء ما عُرف بجيل السبعينات في العراق. متضمنة ثمانية دواوين، مستهلةً بديوان «وردة البحر ـ 1980»، ومختتمةً بـ«صبراً قالت الطبائع الأربع ـ 2006». هنا نص مقدمة هذه الأعمال التي ستصدر عن «دار جبرا للنشر والتوزيع ـ الأردن»، وبالتعاون مع «دار النخبة للتأليف والترجمة والنشر - لبنان».

وقد كتب مقدمة المجموعة الكاملة الشاعر العراقي باسم المرعبي، التي جاءت بعنوان «كمال سبتي... المرافعة عن الشعر» ويقول فيها:

«يحتاج شعر كمال سبتي، بالمجمل، إلى جَلَد عند قراءته، فهو على نقيض الكثير مما هو شائع من تقنيات شعرية تعتمد البساطة والعفوية والمباشرة، مع عدم تسفيه هذه النزعات الأسلوبية، طالما أن الشعر كقيمة وجوهر يبقى مُصاناً، غير منتهَك به. على أنّ إشاحة الشاعر عن مثل هذا الاتجاه ومخالفته، لم يجعل شعره غامضاً أو عصيّاً.

شعر مثقل بالمعنى ومزدحم به، لأنه ذو مهمة توصيلية، وهو يتطلب إصغاءً وإعمال فكر. والقصيدة لدى كمال معمار ذهني - فكري ونفسي، في الآن ذاته، يستمدّ فيها الشاعر مادته من مغاور النفس والسيرة الشخصية، فضلاً عن استثمار راهن التجربة الحياتية، مشظّياً كلّ ذلك في النص، صراحةً أو رمزاً. دون أن يستثني مادة الحلم من استثماره الفني والموضوعي، وهو ما يُتبيَّن أثره في نصوصه، لا سيّما النصوص النثرية الطويلة، المتأخرة، ليتصادى ذلك مع قراءات الشاعر في الرواية أو اعتماده السينما مصدراً مفعّلاً في كتابته الشعرية. وعن هذه الأخيرة قد أشار إلى ذلك الشاعر نفسه في واحد من الحوارات التي أُجريت معه، ليرقى كلّ ذلك إلى أن يكون جزءاً عضوياً من تجربته الحياتية، الذهنية هذه المرة، مُسقَطة بالمحصلة على القصيدة، لتنعكس خلالها حركةً وتوتراً درامياً. وهو ما ينسحب بالقدر ذاته على نزوع الشاعر في سنواته الأخيرة إلى قراءات في التصوف والقرآن والتراث، ما نجمَ أثره بشكل جلي، في مجموعته الأخيرة «صبراً قالت الطبائع الأربع»، وإلى حد ما في المجموعة السابقة لها. وهو فارق يلمسه القارئ، إجمالاً، بين المنحى الذي اتخذه شعر كمال سبتي في السبعينات أو الثمانينات وما صار إليه في التسعينات وما بعدها. وعلى الرغم مما ذهب إليه الشاعر من مدى أقصى في التجريب الكتابي مسنوداً برؤية يميزها قلق إبداعي، شأن كلّ شاعر مجدّد، إلا أنه وبدافع من القلق ذاته عاد إلى القصيدة الموزونة، كما تجسد في كتابيه الأخيرين. وكان لقراءاته المذكورة آنفاً، دورها في بسط المناخ الملائم لانتعاش هذه القصيدة، ثانيةً، وقد بدت محافظة في شكلها، لكن بالاحتفاظ بقدر عال ورفيع من الشعرية المتينة، المعهودة في شعر كمال سبتي، وبدافع من روح المعنى الذي بقي مهيمناً حتى السطر الأخير، لأن الشعر لديه مأخوذ بجدية حدّ القداسة، وهو قضية في ذاتها، قضية رافع عنها الشاعر طوال حياته بدم القلب.

تصدر هذه الأعمال في غياب شاعرها، وهو ما يجعل من حدث كهذا مثلوماً، إذ عُرف عن كمال اهتمامه المفرط بنتاجه وتدقيقه ومتابعته، واحتفائه به قبل النشر وبعده، لأن الشعر كان كل حياته، هذه الحياة التي عاشها شعراً. فكم كان مبهجاً، لو أن مجموع أعماله هذا قد صدر تحت ناظريه.

ولأهمية هذه الأعمال وضروة أن لا تبقى رهينة التفرّق والغياب، أي في طبعاتها الأولى المتباعدة، غير المتاحة للتداول إلّا فيما ندر، ولأهمية أن تأخذ مكانها في مكتبة الشعر، عراقياً وعربياً، كانت هذه الخطوة في جمعها ومراجعتها وتقديمها للنشر. وقد كان لوفاء الصديق، الفنان المسرحي رياض سبتي، لشقيقه وتراثه الشعري، دوره الحاسم في حفظ مجموعات الشاعر، ومن ثمّ إتاحتها لكاتب سطور هذه المقدمة، حين تم طرح فكرة طباعتها ونشرها، إسهاماً في صون هذا الشعر وجعله قابلاً للانتشار من جديد، بما يجدر به».

من المجموعة الكاملة:

«الشاعر في التاريخ»

الرجل الجالسُ في المكتبة

مورّخٌ يكتبُ عن شاعرٍ

الرجل الهاربُ في سيرةٍ

مشرّدٌ في الليل كالليلِ

رغيفهُ باردْ

رغيفهُ واحدْ

عنوانه مصطبة

محطّةٌ مغلقةُ البابِ

الرجلُ الخائفُ في سيرةٍ

يغيّر الشكلَ تباعاً، فمرّةً

بلحية كثةٍ

ومرّةً بشاربٍ، ثمّ مرّةْ

بنصفِ قلبٍ حائرٍ في الطريقْ

يسيرُ فوقَ جمرةٍ، ثمّ جمرةْ

تلقيه فوقَ جمرةٍ، في الطريقْ.